1المقدّمةيحظى كتاب الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخيّ (ت 384/994) بخصوصيّة فنّيّة كبيرة في سرد أحاديث الأمل وانفراج الشدائد، لا سيّما أنّ هذا المصنَّف النثريّ تميّز عن سواه من المدوّنات النثريّة بطرحه موضوع الفرج وتأميله، وتحويله إلى قيم إصلاحيّة وإنسانيّة وسلوكيّة للفرد والمجتمع. لقد أراد التنوخيّ نقل تجربته الواقعيّة المعيشة بعد النكبات والشدائد التي ابتُلي بها، لتغدو أملًا يعكسه مفهوم الفرج ووظائفه، فيتحقّق المراد متمازجًا مع مبدأ عقديّ جوهره الإيمان الراسخ بالفرج في نفس المسلم.وقد ظهرت قصديّة المؤلّف في بلورة مفهوم الفرج وتأميله في هذه المدوّنة السرديّة الغنيّة بدءًا من العنوان، وانتقالًا إلى المتن الحكائيّ المتنوّع. وقدّم التنوخيّ للكتاب بمنهجيّة نقديّة تشير إلى أهمّيّة اختياره لهذا الموضوع، ومَن سبقه من المؤلّفين إليه، ومنهجيّته في تحرير الأخبار، ودقّته العلميّة في النقل والرواية، وتثبيت الأسانيد والعناية بها. ومن هنا، فقد أكدّ فرانشسكو غابريلي (Francesco Gabrielli) ”الأهمّيّةَ التاريخيّة لكتاب الفرج بعد الشدّة الذي يشكّل منجمًا فكريًّا لإعادة بناء الحياة الاقتصاديّة الخاصّة والمؤسّسات والعادات والتقاليد التي تشكّل نظامًا أدبيًّا يحكم هذه الأخبار.“1 لقد ارتبطت أخبار التنوخيّ بعدد من الموضوعات التي تتناول التجربة الإنسانيّة، كما تركت تأثيرًا لاحقًا في إنتاجات سرديّة مهمّة؛ إذ يشير أندراس هاموري (Andras Hamori) إلى وجود علاقات واضحة ومتقاربة في موادّ الأدب الفلكلوريّ العربيّ والعالميّ، مثل حكايات ألف ليلة وليلة، وقصّة ”العودة إلى الديار،“2 وبعض النماذج اليونانيّة والأرمنيّة كقصّة ابنة قاضي الرملة.3يشير التنوخيّ إلى أنّ تجربته الذاتيّة قد أفضت بدورها إلى التماهي السيريّ السرديّ الذي كان عاملًا أساسيًّا في ولادة أخبار هذا الكتاب؛ فيتحدّث عن تعرُّضه لنكبة ضياع ضيعته، وإقامته ببغداد في محاولة استعادتها بعد أن أُخرجت من يده وعُزل عن عمله، ثمّ تولّى الوزارة أبو الفضل العبّاس بن الحسين (ت 362/973)، صهر الوزير المهلّبيّ (ت 352/963)، واضطربت أحوال العراق سنة 364هـ في ظلّ عضد الدولة (ت 372/983) وابن بقيّة (ت 367/978)، وهو ما أجبر القاضي التنوخيّ على الفرار إلى البُطَيحة.4وبذلك، أدّى التداخل السيريّ لتجارب الخوف والسجن والتشرّد في حياة القاضي التنوخيّ دورًا في بلورة اتّجاه إنسانيّ في الأدب والسرد العربيّين. وتنقل التجربة الواقعيّة للتنوخيّ قارئها من الديستوبيا والبؤس إلى رحلة البحث عن ضوء في نهاية النفق مشروطةٍ بصدق الإيمان وإرادة صاحبه. وقد جعلت هذه التجربة التنوخيَّ متفرِّدًا في تأليفه الإبداعيّ والموسوعيّ، فهو يبحث ويتحقّق ويطّلع على المصنّفات الأدبيّة السابقة، ككتاب كلٍّ من ابن أبي الدنيا (ت 281/894) والمدائنيّ (ت 225/840) والقاضي أبي الحسين عمر بن محمّد (ت 320/932–933). وقد يكون التأليف في هذا الباب تميّزًا نثريًّا من جهة الإبداع في موضوع إنسانيّ يعالج أزمة فرديّة من منطلق الإيمان الذاتيّ بالفرج، والتفاؤل بزوال الهمّ والعسر، ومن جهة القدرة على صياغة الخبر سرديًّا في قالبٍ فنّيّ وبنيةٍ حركيّة. ولا بدّ أنّ ذلك كان دافعًا قويًّا وملهمًا لاستكمال هذا النوع النثريّ – أو ”الفنّ“ بتعبير التنوخيّ – بصورةٍ ممنهجة وشاملة وعميقة، تستقرئ المصنّفات السابقة وتستدرك مواطن الخلل فيها، وتجمع التسلية وتدفع الملل عن القارئ، يقول التنوخيّ: ”ووجدت أبا بكر بن أبي الدنيا والقاضي أبا الحسين لم يذكرا أنّ للمدائنيّ كتابًا في هذا المعنى […] فكان هذا من أسباب نشاطي لتأليف كتابٍ يحتوي من هذا الفنّ على أكثر ممّا جمعه القوم وأشرحَ وأبيَنَ للمغزى وأكشَفَ وأوضح، وأن أخالف مذهبهم في التصنيف وأعدل عن طريقتهم في الجمع والتأليف.“5ومع كلّ هذا الغنى والتقدّم الذي أظهره التنوخيّ في الكتاب، فإنّنا نواجه إشكاليّة قلّة الدراسات العربيّة الحديثة التي اعتنت بهذا المصنَّف، أو بمعنًى آخر، إشكاليّة تعاملها الظاهريّ مع الأخبار وفقًا للطابع الوصفيّ التاريخيّ من دون العناية العميقة بسرديّة القصّ وأساليبه وأشكال بنايته الخبريّة؛ إذ ما زالت ”البحوث العربيّة في شأنه ضئيلة محدودة، لا تتجاوز بعض النبذ المختصرة الواردة ضمن المراجع العامّة في تاريخ الأدب العربيّ ذات التوجّه التاريخيّ.“6 وتقدّم دراسة الباحث البشير الوسلاتي عملًا نوعيًّا جيّدًا في تحليل الجوانب الفنّيّة والسرديّة للأخبار، وتضيء جانبًا تاريخيًّا من تجربة التنوخيّ وأثرها في تأليف الكتاب، في حين أنّ دراسة ”التطوّر الدلاليّ لألفاظ أماكن السكن والإقامة لدى عامّة القرن الرابع الهجريّ: (نشوار المحاضرة) و(الفرج بعد الشدّة) نموذجًا“ للباحثين ماهر حبيب وعفراء منصور، أخذت بعدًا دلاليًّا ولسانيًّا مفيدًا وجادًّا، لكنّها لم تُعْنَ بمسألة السرد والأمل لتركيزها على النواحي الاجتماعيّة الألسنيّة.7 وتأتي دراسة إبراهيم السامرّائي بعنوان ”مع كتاب ‘الفرج بعد الشدّة‘ للتنوخيّ“ توصيفًا تاريخيًّا بحتًا يتعلّق بمسألة تحقيق الكتاب، ولا علاقة له بأدبيّة القصّ والسرديّة.8 أمّا الدراسات الغربيّة عن الكتاب، فقد جاءت غزيرةً، ومتنوّعة، وجديدة الطرح، وعميقة، فكشفت جوانب من قيمة الكتاب، وقد برزت من بينها دراسات الباحثة جوليا براي (Julia Bray) في البحث السرديّ والدراسات الثقافيّة والمرجعيّة الاعتزاليّة عن التنوخيّ،9 وكذلك دراسة جادّة للباحث أندراس هاموري الذي قارن بين القصص السرديّة في مؤلّفات التنوخيّ وحكايات ألف ليلة وليلة.10 ولا يفوتنا ذكر دراسة الباحث فلوريان سوبيروج (Florian Sobieroj) التي ربطت بين الخطاب الذهنيّ للتصوّف وصورته في الفرج بعد الشدّة. وقدّمت الباحثة نهى خليفة دراسة جادّة عن حياة التنوخيّ وأعماله وتوجّهه العقديّ الاعتزاليّ في كتابها الشدّة والفرج في التراث الإسلاميّ (Hardship and Deliverance in The Islamic Tradition)، وحاولت فيه ربط الموضوعات والحكايات عند التنوخيّ بالموروثينِ الأدبيّ والإسلاميّ،11 وقد أفادت دراستنا بوضوح من هذا الكتاب في تحليل قصّة ”مَن يتوكّل على الله فهو حسبُه.“ كما تُعَدّ مقالة ناديا ماريا الشيخ ”تاريخ النساء: التنوخيّ نموذجًا“ (”Women History: A Study of al-Tanūkhī“) من الدراسات القيّمة التي وقفت على صورة المرأة وحضورها في أعمال التنوخيّ، وأفدنا منه في تحليل جوانب بعض الأخبار.12يحاول هذا المقال استجلاء معنى الأمل وعلاقته بمفهوم الفرج في مصنَّف الفرج بعد الشدّة عن طريق تحليل نماذج من الأخبار والقصص في مستوياتها السرديّة المتعدّدة، وذلك بالوقوف على معنى الفرج وارتباطه بالأمل من جهة المضمون، والبحث في الجانب السرديّ وتطوّر بنية خبر الفرج وفنّيّته.2منهجيّة التنوخيّ في صياغة خبر الفرجأخذ السرد عند العرب موقعه الأصليّ مشافهةً نظرًا لانتقال الأخبار سماعيًّا، ”وقد توفّرت نصوصه المندرجة ضمن أنواع وأجناس سرديّة مختلفة كالأخبار والنوادر والحكايات والأمثال والمسامرات وسواها،“13 ولذلك يرى فرانشسكو غابريلي وجوليا براي أنّ التنوخيّ في كتابه الفرج بعد الشدّة ”لم يكن مؤلِّفًا وإنّما محرِّرًا للأخبار لأنّ الأخبار بمعظمها مأخوذة من عصور مختلفة لكنّها تتمحور كلّها حول تحقُّق الفرج بعد المحن.“14 وقد ”ركّز المؤلِّف على انتقاء أخبار الفرج في أزمات الفرد من مختلف شرائح المجتمع مع تباينها جغرافيًّا، وصاغها صياغة فنّيّة وأسلوبيّة، فتناولت موضوعاته السجن والأسر؛ وعلاقة الفرد بالسلطان؛ والحبّ والعشق؛ والفقر؛ وحتّى مجتمعات اللصوص وقطّاع الطرق والمهمّشين، فجاء تفصيله لثلاثة عشرة نوعًا من المحن مقاربةً جديدة لتصنيف التجربة الإنسانيّة وتعبيرها السرديّ،“15 بغضّ النظر عن طبيعة الشريحة الاجتماعيّة والسياسيّة التي ينتمي إليها الخبر. وهذا ما حدا بالتنوخيّ إلى الاهتمام بصياغة الخبر وتصنيفه وفقًا لمعيار الموضوع، أو كما صرّح: ”وأنا بمشيئة الله تعالى، جامعٌ في هذا الكتاب، أخبارًا من هذا الجنس والباب، أرجو بها انشراح صدور ذوي الألباب، عند ما يدهمهم من شدّة ومصاب.“16 وتتضمّن هذه الأخبار أحداثًا وشخصيّات خياليّة مكوّنة من عناصر فلكلوريّة. والجدير بالذكر أنّ ”هذا التجميع والتحرير للأخبار لم يرتكز على الأفعال بالدرجة الأولى وإنّما ارتكز على المواقف،“17 لأنّ الأمل رهين لحظة التوتّر الكبرى التي تزول بفضل دعاء الإنسان وإيمانه بفرج الله.ولم يولِ التنوخيّ عنايةً للتصنيف التاريخيّ للأخبار أو الترجمة للشخصيّات المرويّ عنها على غرار ما فعل الأصفهانيّ (ت 356/967) لأنّ قصديّته تركّز على نقل تجربة إنسانيّة مأزومة تتوسّل الفرج، وتؤمّله بعد نكبة تصيب بطلها، ثمّ تنتهي بالانفراج والتحوّل السلوكيّ والأخلاقيّ للبطل. ولذلك رأى الباحث البشير الوسلاتي اختلافًا بين منهجيّة كلٍّ من الأصفهانيّ والتنوخيّ، إذ ”كان الأصفهانيّ يجمع الأخبار جمعًا شاملًا موسَّعًا متنوّعًا، لإنشاء ترجمة أدبيّة حول عَلَمٍ من الأعلام، بينما كان التنوخيّ أكثر تضييقًا وتحديدًا؛ لأنّ غايته إبراز قضيّة الفرج بعد الشدّة دون تقصٍّ لتراجم الأشخاص، وما لَحِق بحياتهم من أحداث،“18 أي إنّ غاية التنوخيّ هي تقصّي البحث في خبر الفرج لا في شخصيّة صاحبه، رغم اجتماع الأديبين في مسألة دقّة أسانيد الرواية التي أصبحت سُنّةً من سنن التأليف في القرن الرابع/العاشر.19 ومن المعلوم أهمّيّة القصص الدينيّة والوعظيّة التي حازت صدارة الكتاب، حيث ”بدأ التنوخيّ بكلمة الله وانتهى بكلمة الإنسان،“20 وافتتح الكتاب بالنصّ القرآنيّ واختتمه بالشعر، وجاءت صياغة مفهوم الفرج والتيسير أمرًا لصيقًا بالعقيدة وتوجُّهها، وبنى عليه التنوخيّ فكرة الانفراج في كتابه كلّه فقال: ”ووجدت أقوى ما يفزع إليه من أناخ الدهر بمكروهٍ عليه قراءة الأخبار التي تُنبي عن تفضُّل الله عزّ وجلّ على مَن حصل قبله في محصله، ونزل به مثل بلائه ومعضله.“21 وقد استكمل التنوخيّ تأطير منهجيّته العلميّة الخاصّة في التأليف في هذا الفنّ بتقسيم الكتاب إلى أربعة عشر بابًا، يضمّ كلّ بابٍ منها جانبًا أدبيًّا مخصوصًا لخبر الفرج بعد العسر والبلاء، فاشتملت أغلب الأخبار السرديّة لديه على بنًى متطوّرة مركّبة وتضمينيّة. وبذلك نجده قد طوّر طريقة نثريّة ممنهجة خالفت طرق سابقيه، وأعطت للموضوع خصوصيّة أدبيّة كبيرة، فضلًا عن أخبار أخرى نقلها التنوخيّ من سيرته الذاتيّة وأسفاره التي وصلت إلى الهند،22 فتضافرت تجربته الذاتيّة مع الأخبار الأخرى التي نقلها وحرّرها.3الفرج المأمول في الخبر الوعظيّصاغ التنوخيّ مفهوم الفرج صياغة عقديّة ترتبط بالإيمان الذي يحفّز المسلم على الصبر وتحمّل المحن والبلاء، ويدعوه إلى التفاؤل والبشرى، فالفرج هو ”العلاج الأكثر شموليّة لقضيّة الشدائد والمحن التي عكست إجراءات متماسكة ومنهجيّة مختلفة في التأليف،“23 ومصدره قوّة متعالية مرتبطة بقدرة الله على تحويل قدر الإنسان ومصيره من وسط المحنة والبلاء إلى الانفراج. ويولد داخل هذا الفرج بمعناه الواسع القَدَريّ الأملُ الذي يغيّره الإنسان بإرادته وتمسّكه، أي إنّ فهمنا للأمل بطابعه الإنسانيّ يتأتّى من قدرة الإنسان على ضبط انفعال النفس بالصبر، والدعاء، والإيمان بفرج الله، وتغيُّر مصير الإنسان بعد أزمة ما، أو ربّما بحلمٍ صعب المنال يرمي الفرد إلى تحقيقه،24 سواء في المرض أم السجن أم كسب الرزق كما في قصّة ”اللوزينج بالفستق.“25 فتصبح المسافة التي تفصل الواقعة المأزومة، التي يرويها لنا البطل نفسه، وتحوُّلَها بشكلٍ جذريّ، منوطةً بالإيمان المطلق، ومصدره عقديّ،26 فإن كان مؤسَّسًا على اليقين بالله بتغيّر الحال وزوال الشدّة، أو القدرة على تحقُّق ما هو صعب أو يبدو مستحيلًا، فهو كذلك يتمثّل البصمة المذهبيّة. ومع أنّ التنوخيّ كان قاضيًا بالمذهب الحنفيّ، وكان هدفه من الكتاب إنسانيًّا، لكنّه كان معتزليًّا، ولهذه العقيدة تأثير في كتابته،27 على غرار ما قدّم من أخبار تنتقد المتصوّفة ومفهوم التوكّل في الرزق في بيئتهم الفكريّة، وما أورده عن المعتقد الاعتزاليّ في الإطار الاجتماعيّ بدلًا من تقديمه بصورة تفكير فلسفيّ مجرّد.28بيد أنّنا وإن اتّفقنا على هذا المعنى الواسع والممتدّ لخصوصيّة تأميل الفرج عند التنوخيّ، فإنّ صياغة هذه الفكرة استُهلّت في الباب الأوّل من الكتاب بتفسير معنى الفرج في سورة الانشراح التي جاء اختيارها منسجمًا مع الموضوع، ومن ثمّ الانتقال إلى القصص الدينيّة والقرآنيّة التي اقتصر التنوخيّ على إعادة سردها من جديد سردًا دينيًّا في ظلّ مؤثّرات الخطاب الاعتزاليّ، فحملت القصص معنى فرج الله وصيغت ببصمته الاعتزاليّة. وقد لاحظت جوليا براي أنّ التمثّلات الاعتزاليّة للأخبار في هذا الباب قد جاءت وفقًا لثلاثة مستويات: المستوى اللغويّ، والمستوى المنطقيّ،29 والمستوى الدينيّ، بناءً على الخطوط العريضة والفكريّة للاعتزال؛30 إذ وقف التنوخيّ مثلًا عند تفسير سورة الانشراح لغويًّا لاستنباط بلاغة معنى الفرج وتأميله بالطريقة ذاتها التي سار عليها الزمخشريّ (ت 538/1143) لاحقًا، يقول التنوخيّ: ”لا يغلب العسرُ الواحد يسرين، يريد أنّ العسر الأوّل هو الثاني، وأنّ اليسر الثاني هو غير الأوّل، ذلك أنّ العسر معرفة فإذا أُعيد، فالثاني هو الأوّل لأنّ الألف واللام لتعريفه، ويسر، بلا ألف ولام، نكرة، فإذا أُعيد فالثاني غير الأوّل، وهذا كلام العرب.“31 عبّر التنوخيّ بهذا عن الموروث الفكريّ الاعتزاليّ في رؤيته التفسيريّة لمعنى الفرج لغويًّا، وبالطبع نجد تطبيقات أخرى على هذا المستوى في قصصٍ وأخبار حرّرها التنوخيّ وأبدى رأيه فيها.32حشد التنوخيّ تسع عشرة آية قرآنيّة، فضلًا عن سورة الانشراح ليبني فكرة الفرج والتيسير، وهي ذات بعدين: (1) الأوّل عقديّ راسخ يتطلّب الإيمان الصادق بفرج الله وتيسيره وتحقُّقِه واقعيًّا؛ (2) والثاني يفضي إلى ”إرادة إنسانيّة في السعي إليه عبر الصبر والدعاء والاستغفار والتوكّل التي هي مبدأ جوهريّ في الفكر الاعتزاليّ،“33 وقد صنّفته براي ضمن المستوى الدينيّ. وختم التنوخيّ هذا الجزء من الباب الأوّل بخبر مسند يؤكّد فيه مضمون هذه الآيات التي استحضرها شواهدَ على بناء مفهوم الفرج فقال: ”وروي عن الحسن [البصريّ] أيضًا أنّه قال: من لزم قراءة هذه الآيات في الشدائد كشفها الله عنه، لأنّه قد وعد وحكم فيهنّ بما جعله لمن قالهنّ، وحكمه لا يبطل ووعده لا يخلف.“34ومن الملاحظ أنّ الأخبار في البابين الأوّل والثاني قد ارتكزت في جلّها على رواية القصص القرآنيّة التي تحمل معاني الفرج والتيسير الذي لا يتحقّق إلّا بمشيئة الله وقدرته، يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.35 وتمثّل هذه الآية القضيّة الرئيسة التي بنى عليها التنوخيّ فكرة الفرج في مصنَّفه، فالإيمان المطلق بالله يقود المسلم إلى فرج مؤكَّد بعد عسر كبير، أو كما يعبّر عن ذلك ابن النحويّ (ت 513/1119): ”اشتدّي أزمةً تنفرجي،“36 والفرج مشروط بقيم الإسلام والدعاء والصبر والتوكّل على الله والتقوى.يقتبس التنوخيّ عامّة الأخبار في هذا الباب من القرآن الكريم، وقد عمد إلى استنباط فكرة الفرج وخلق الأمل في داخله سواء على مستوى الآيات التي عالجت سلوك المؤمن تجاه أزمة إنسانيّة تحلّ به، أم على مستوى القصّ القرآنيّ الذي تناول ابتلاءات الأنبياء وصبرهم عليها. ويبدو التنوخيّ في هذه القصص أكثر قدرةً على تحريك بوصلة السرد إلى مرحلة فنّيّة أكثر تطوّرًا؛ أي خصوصيّة القصّ الفنّيّ لاحقًا. ونجد أنّ معظم الأخبار التي وردت في هذا القسم من الكتاب، لم تأخذ حظًّا كبيرًا من السرديّة الفنّيّة ولا تتركّز على زمنيّة القصّ وأساليبه وطرائقه بمفهوم الناقد تودوروف (Todorov) مقارنةً بالأخبار الأخرى المتفرّقة التي أوردها في الأبواب الأخرى.37وقد صقل التنوخيّ الأخبار استنادًا إلى قدرة الإنسان على الصبر والتحمّل التي تقوده إلى حالة الانفراج، ولذلك يواجه فكرة اليأس بالصبر، والأخير قرينة عقديّة لمفهوم الإيمان عند المسلم، يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”أشدّ الناس بلاءً النبيّون والصالحون.“38 كما تناول التنوخيّ مفهومًا واسعًا للصبر في شتّى المحن كالمرض والكرب، مثل قصّة العلويّة الزَّمِنة.39 ويأتي التركيز على المحتوى القصصيّ في قصص الأنبياء40 لإبراز وظيفة تعليميّة وإخباريّة مباشرة تُغني مادّة الفرج بعرض أبرز الشدائد التي لحقت بعشرة أنبياء، ومن ثمّ إفراد أخبار الحوادث والوقائع الخاصّة بالرسول محمّد (ص).41 ونلاحظ أمرًا لافتًا، وهو أنّ التنوخيّ أفرد لنا خبرًا واحدًا42 حظي بشيء وفير من الصياغة الفّنيّة اللا واقعيّة – وإن كان الخبر بحدّ ذاته مصطبغًا ببعدٍ وعظيّ – وقد آثرتُ وضعه في قالب تصنيفيّ آخر أسميته ”الخلاص الروحيّ المأمول“ لأنّه انفكّ من أسر واقعيّة الخبر وتاريخيّته إلى غرائبيّته، وربّما دفعت روحانيّة هذا الخبر التنوخيّ إلى وضعه في الباب الأوّل من الكتاب.ونجد بين الأخبار الوعظيّة دعاءَ أعرابيّة ذهب البَرَد بزرعها فعوّضها الله خيرًا، وهذا الخبر قد نُقل كتابةً وسماعًا، فالمرويّ المكتوب بالإملاء والتدوين لا يمنع المسموع من الاستمرار وسيطًا مجانبًا للكتابة:أخبرني أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي بالبصرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، قراءةً عليه وأنا أسمع، عن البرقيّ، قال: رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعٍ كان لها، فجاء الناس يعزّونها، فرفعت طرفها إلى السماء، وقالت: اللّٰهمّ أنت المأمول لأحسن الخلف، وبيدك التعويض عمّا تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإنّ أرزاقنا عليك، وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرح، حتّى جاء رجل من الأجلّاء، فحُدّث بما كان، فوهب لها خمسمائة دينار.43إنّ حركة السرد – كما نرى – خافتة ولا تتجاوز مقدار الوظيفة الإخباريّة أو الإعلام، والوعظ الدينيّ في أهمّيّة الدعاء وقدرته على تحويل مسار الإنسان وموقفه من شدّة إلى رخاء. والواضح أنّ هذه الأعرابيّة قد توسّلت بدعائها الفرجَ من الله، وبذلك فإنّ الأمل لا يظهر هنا بطابعه الإنسانيّ وحسب، بل متعلّقًا بقدرة إلهيّة مقترنة بإرادة الله في الاستجابة وإرادة الإنسان في الدعاء والطلب. بيد أنّ هذا النمط الخبريّ – وإن اتّخذ طابعًا دينيًّا بسيطًا – يحمل للقارئ أبعادًا اجتماعيّة ”وإشارات مهمّة لطبيعة دور المرأة ومشاركتها في الحياة الاقتصاديّة من طبقات اجتماعيّة مختلفة.“444الخلاص الروحيّ المأمول في حكاية ”مَن يتوكّل على الله فهو حسبُه“تروي هذه القصّة حكاية رجل يبحر مع جماعة على متنِ مركب، ويسمع فجأةً هاتفًا يطلب أن يعطيه أحدهم عشرة آلاف دينار مقابل أن يعلّمه كلمةً تنقذه من هلاك محتّم يصيبه، ويستجيب بطل القصّة لمطلب الهاتف ويرمي ماله في البحر، فيغضب الراكبون ويعتقدون أنّه مجنون. وبعد أيّام، ينقلب المركب في البحر ويهلك الجميع ما عدا البطل الذي ينجو من الموت ويصل إلى جزيرة نائية، حيث يلتقي بامرأة مسجونة في قصر على يد الشيطان، فيبدأ صراعه مع الشيطان لتحريرها منه.تُعَدّ قصّة رجل يُبحر مع جماعة في مركبه من أبرز النماذج التطبيقيّة لعجائبيّة الخبر وعالم الهاتف والخفاء. ولعلّ ما يستوقفنا في قصّة ”مَن يتوكّل على الله فهو حسبه“ أنّ التنوخيّ يرويها من كتاب أبي الفرج المخزوميّ (ت 398/1008)، أي أنّه نقل الخبر نقلًا كتابيًّا لا سماعيًّا بعد أن أثبته المخزوميّ بسند متّصل يضمّ سبعة رواة، ليكون من جملة الأخبار التي اطّلع عليها التنوخيّ مكتوبة من دون معاينة، يقول: ”ووجدت في كتاب أبي الفرج المخزوميّ عبد الواحد بن نصر عن أبي القاسم عبد الرحمن بن العبّاس“45 وصولًا إلى المعتصم وهو أوّل راوٍ للخبر.تناقش هذه القصّة مفهوم التوكّل الذي ارتبط بنداء الله في عرض البحر، ممتزجًا بالطابع الصوفيّ والروحيّ، وقد حاولت نهى خليفة تقديم تحليلٍ مثير لهذه الحكاية عن طريق ربطها بالصراع الروحيّ/المادّيّ الذي عاشه البطل، فقد سمع صوتًا يطلب منه إلقاء ماله في البحر: ”فسمعوا هاتفًا يهتف بهم: من يعطيني عشرة آلاف دينار حتّى أعلّمه كلمةً إذا أصابه غمٌّ أو أشرفَ على هلاكٍ فقالها انكشف ذلك عنه.“46 ويبدو أنّ الحكاية تنطلق من فضائها الصوفيّ عبر الهاتف وكلمة السماء؛ إذ يجسّد ذلك الصوت غير المرئيّ ”رمزًا للمعرفة الروحيّة وكلمات الخلاص والحكمة ضدّ المال أو المادّيّة.“47 ولعّل ما يثير انتباه القارئ في هذا النموذج هو الطريقة التي بُني عليها خبر الفرج، ونعني هنا أسلوبًا متعلّقًا ببنية القصّة التضمينيّة والذي يمثّل تطوّرًا واضحًا وبارزًا في السرد العربيّ، ناهيك بأنّ التنوخيّ يعرض النتيجة المنطقيّة التي تقود دومًا إلى الفرج لارتباطها بالسببيّة المباشرة التي يؤمن بها الإنسان بإرادته. تبدأ القصّة بعرض فضاء المكان (مركب في البحر) الذي يدور فيه الحدث، ويتصاعد بصورة بسيطة ليتداخل مع خبر آخر، فينقلنا إلى قصّة جديدة في فضاء مكانيّ آخر هو القصر، حيث يبدأ صراع ومغامرة جديدة مع الشخصيّة المحوريّة نفسها.يعلّق الباحث دانييل بومون (Daniel Beaumont) على فكرة الهاتف ”بأنّها مألوفة في حكايات التحوّل الصوفيّة، فالهاتف صوتٌ يوقظ المرء من حلمه الدنيويّ إلى العالم الحقيقيّ للروح، ويعبّر عن قوّة إيمان الرجل وتشكيك الآخرين الذين كانوا على متن السفينة.“48 وقد أظهر سؤال الهاتف في بداية القصّة دافعًا وتشويقًا في الاستجابة/ردّ الفعل أو ما يمكن تسميته ”بنية اللغز“ التي ”تُستهلّ بأحوالٍ وأفعال لا يُعرف المحفِّز لها أو السرّ فيها، فهي تنطلق من وضع غامض ومفارق للمألوف، ثمّ لا تلبث أن تقدّم لنا تفسيرًا تؤوّل به السرديّة.“49 وتكشف بنية اللّغز عن أحداث متتالية تجلو غرابة المشهد حين يلقي البطل المال في البحر فيعدّ الراكبون تصرُّفَه ضربًا من الجنون والعبث والضياع لأنّه ”خارج عن يقينهم ومعرفتهم القلبيّة التي أيقنها البطل بإرادته“:50 ”فقال جميع مَن في المركب: لقد ضيّعتَ مالك.“ لقد كان الهاتف دعوةً إلى رحلة روحانيّة تصارع مادّيّة الإنسان، وظلّ البطل متمسّكًا به بإيمانه القلبيّ بانتظار لحظة مكاشفة تستشرف مستقبلًا من الخير والرزق والنجاة والسلامة، وانتهاءً إلى وظيفة تفسيريّة قدّمها السارد:51 ”قال: فلمّا كان بعد أيّام، كُسر بهم المركب فلم ينجُ منهم أحدٌ غير ذلك الرجل، فإنّه وقع على لوح.“52 يذكّر هذا اللوح باللوح المحفوظ (الكتاب)،53 وهو الذي دفع البطل إلى أن يزهد بدنياه ويرمي ماله في البحر بحثًا عن رحلة الفرج التي تنتظره، وانتصارًا على رمز الشرّ (الشيطان).يمكن أن نلاحظ على المستوى السرديّ أنّ البنية الخبريّة التي تميّز بها الخبر العربيّ في القرنين الثاني والثالث/الثامن والتاسع قد اتّخذت طابعًا بسيطًا أو مركّبًا نحو ما يرد مثلًا في قصص البخلاء التي تأرجحت بين هذين الشكلين، في حين تمّيزت بنيات أخبار الفرج بتطوّرها بفعل قرب التركيب من طور الكتابة، بعكس البنى البسيطة التي ارتبطت بقربها من المشافهة.54 ولذلك نرى بوضوح عددًا من الأخبار التي أودعها التنوخيّ في مدوّنته قد تجاوزت البنية الخبريّة – البسيطة والمركّبة – إلى بناء أكثر نموًّا وتشكّلًا في فنّيّة الخبر، ومثاله القصّة السابقة التي تحمل القارئ إلى عالم الهاتف المتّصل بعالم غيبيّ له مرجعيّته، حيث الاتّصال بين الأرض وصوت من السماء، يحمل البشرى والخير والأمل المنتظر، في حين نجد القصّة الفرعيّة الأخرى تمثُّلًا لعالم الشيطان، والمارد، وصراع الروح والمادّة.قدّم السارد هنا حكاية تضمينيّة متوالية في قصّة الهاتف والرجل، لكنّ خبر الرزق والفرج واستشراف الأمل والسعادة لم يقتصر على نجاة الرجل من موت محتّم في البحر، أو رؤية تنبّؤيّة استجاب لها بقوّة إيمانه، فأخذنا السارد إلى قصّة فرعيّة في فضاء الجزيرة. وإذا كان ”البحر يعكس الروحانيّة، فعلى النقيض من ذلك فإنّ الأرض (الجزيرة) تعكس الحياة المادّيّة متمثّلةً بالقصر وحضور المرأة الجميلة.“55 تتضمّن القصّة الكلّيّة (الرحلة الروحيّة) بنيةً صغرى ثانية – تؤدّي المرأة دورًا أساسيًّا فيها – متضمّنةً داخل الوحدة السرديّة الكبرى، كأنّها تضعنا في دائرة سحر ألف ليلة وليلة وأسرارها، يقول التنوخيّ:فحدّث بعد ذلك قال: طرحَني البحر على جزيرة فصعدت أمشي فيها، فإذا بقصرٍ منيف فدخلتُه، فإذا فيه كلّ ما يكون في البحر من الجواهر وغيرها، وإذا بامرأةٍ لم أرَ قطّ أحسن منها. فقلت لها: من أنت، وأيّ شيء تعملين ها هنا؟ قالت: أنا بنت فلان بن فلان التاجر بالبصرة، وكان أبي عظيم التجارة، وكان لا يصبر عنّي، فسافر بي معه في البحر، فانكسر مركبنا، فاختُطفت حتّى حصلت في هذه الجزيرة، وإنّه يخرج إليّ شيطان من البحر يتلاعب بي سبعة أيّام من غير أن يطأني إلّا أنّه يلامسني ويؤذيني ويتلاعب بي ثمّ ينظر إليّ ثمّ ينزل إلى البحر سبعة أيّام وهذا يوم موافاته، فاتّق الله في نفسك واخرج قبل موافاته وإلّا أتى عليك.56تأخذنا غرابة المشاهد التي تضمّنتها هذه القصّة إلى عالم شهرزاد السرديّ، حيث ”يتوالد السرد داخل الحكاية، وهو توالدٌ يتحقّق عن طريق التسلسل، وعن طريق احتواء كلّ حكاية على حكاية أخرى تحوي ثالثة بدورها،“57 في حين أنّ توالدَ الحكاية في كتاب الفرج اقتصر على اثنتين، فرحلة المغامرة لبطل القصّة تنتهي به من جديد على جزيرة غريبة نائية، مع امرأة ذات جمال مسجونة في قصر منيف، وصراع الخير والشرّ معها وعالم السحر والجنّ والشياطين.لقد كان المشهد الوصفيّ، الذي أقامه السارد من جهة، والمرأة السجينة من جهة أخرى، كفيلًا في تصوير حالة الضبابيّة والسوداويّة التي تعيشها المرأة داخل ذلك القصر تحت سلطة الجانّ والمارد وقواهم، وتجسّدت نقطة الخلاص من هذه المحنة، أو الموقف المأزوم الجديد الذي قدّمه التنوخيّ بهذا الشكل العجيب والغريب، بحضور ”المستوى الدينيّ (كلمات الله) عن طريق تلاوة آياتٍ من القرآن الكريم لتنهي محاكمة المرأة مع الشيطان،“ بتعبير نهى خليفة. وترى الأخيرة أنّ ”البطل في هذه الرحلة الجديدة يحمل العلم (المعرفة) في قلبه (الآيات القرآنيّة)، على عكس المعرفة التي يحملها قلب الإنسان-الشيطان (الجهل)“58 الذي يسيء إلى المرأة من دون أن يؤذيها. فالشيطان لا يجامع المرأة، الأمر الذي يؤكّد ضعف الجهل، ومن ثمّ انتصار نور المعرفة عليه، تقول المرأة على الجزيرة: ”فلمّا قرُب منّي وكاد يغشاني، قرأت الآية فإذا هو قد خرّ كقطعة جبل، إلّا أنّه رماد محترق.“59 وإذا كان أوّل الفرج بالنسبة إلى البطلين في الرحلة الفرعيّة الثانية الانتصار على رموز الشرّ والجهل والتخلّص منها بقوّة الإيمان والمعرفة، فإنّ الفرج يتوالى عليهما في الرحلة الثالثة والأخيرة حيث يتمّ إنقاذهما على متن سفينة.تحاول نهى خليفة موازنةَ هذه الرحلة مع وظيفة الإنقاذ التي قدّمتها قصّة نوح عليه السلام،60 عن طريق صور الفوز والجزاء المادّيّ في جمع الجواهر والنفائس، وتناوُل الأطعمة، والعودة بسلامٍ إلى البصرة؛ وإظهار حالة التناقض في علاقة كلٍّ من البطل والشيطان بالمرأة، فالأوّل يحمل الجهل والثاني يحمل المعرفة الإلهيّة؛ أي حالة العجز الجنسيّ والعقم في علاقة المرأة مع المارد، وحالة الخصب والاستمراريّة في زواج البطل من امرأة ذات جمال وإنجابه منها.61من الملاحظ أنّ القصّة بكاملها أُقيمت على بنية حواريّة، حيث حدّد الحوار الذي نقله السارد خطّ الحدث السرديّ وزمن القصّة، ولقد تبدّل الحوار بين الشخصيّات سواء أكان البطل/الرجل والهاتف في القصّة الأولى، أم البطل/المرأة في القصّة الثانية، فكانت صيغة السرد (قال) تتواتر في كلّ الأحداث دافعةً الحدث إلى التصاعد والتطوّر حتّى الانفراج وحلّ الأزمة. وقد اختار التنوخيّ لنا خبرًا انعتق من نشأته الواقعيّة نحو الخيال والعجائبيّة، لكن يبدو أنّ الحوار قد مثّل بنية مركزيّة تشكّل بها السرد الأدبيّ هنا، وكما يرى باختين ”يولد الخطاب داخل الحوار مثلما تولد إجابته الحيويّة، ويتكوّن داخل فعل حواريّ متبادل مع كلمة الآخر بداخل الموضوع، فالخطاب يُمَفْهِم موضوعه بفضل الحوار،“62 وعن طريقه تكوّن الأمل وأدب الفرج.5ترجمة الأمل بالفكاهة السرديّة في حكاية ”عَرِيف الفرّاشين في البادهنج“يزخر كتاب الفرج بعد الشدّة بحكايات وأخبار تمتزج بالطابع الفكاهيّ والتسلية منسجمةً مع الفأل والاستبشار، فهي وإن حَوَت في مضمونها ثيمة الفرج، فإنّ كثيرًا منها قدّم هذه الثيمة بصبغة فكاهيّة تحمل حظًّا غنيًّا وافرًا من السرد والوصف الأدبيّين، فضلًا عن بنيتها الدراميّة التي تميّزت بحركيّة عالية في سرد الأحداث ونموّها، وذلك يشير إلى المستوى الرفيع الذي وصل إليه النثر الفنّيّ في القرن الرابع/العاشر. وقد تميّزت قصّة الشيخ الخيّاط وأذانه في غير وقت الأذان63 بقدرتها على نحت المجتمع العبّاسيّ وإبرازه بصورة شاملة مع الاحتفاظ بروح الفكاهة، في مشاهد تنقل الشخصيّة من حدث متأزّم إلى آخر أكثر تأزُّمًا، فضلًا عن اشتمالها على وفرة المعاني والمفردات العامّة ودلالاتها الاجتماعيّة. وقد نجد في قصص أخرى، مثل قصّة ”مجلس غناء بمحضر الرشيد“ وقصّة ”اللوزينج بالفستق“ وقصّة ”أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر،“64 نجد الفرجَ متجسّدًا بالحظوة والغنى، وقد صاغ التنوخيّ هذه القصص بتندُّر فكاهيّ عفويّ يُخرج دراميّةَ السرد إلى حيويّته، لا إلى السخرية النقديّة على طريقة الجاحظ (ت 255/868–869) مع بخلائه.أمّل التنوخيّ إذن الفرج وصاغه صياغةً أسلوبيّة متعدّدة المستويات، وكما نال الأسلوب الوعظيّ الدينيّ حصّة كبيرة من الكتاب، فقد برع التنوخيّ في إظهار أدبيّة السرد وفنّيّته في أخبار الفرج الفكاهيّة التي عكست جانبًا مأزومًا لأبطالها، وعرضت لكلّ شخصيّة رئيسة مأزقًا كبيرًا تقع فيه ضحيّةً، ثمّ تصل إلى أقصى درجات التوتّر والانفعال وصولًا إلى حلّ العقدة والانفراج. ويمكن القول إنّ أهمّيّة هذه الأخبار تحديدًا ترتكز في قدرتها على نقل تطوّر فنّ الخبر العربيّ، فالكثير منها قد تميّز بـ: (1) طول وحداته السرديّة مقارنةً بما نجده في القرن السابق مع إثبات وتأكيد متكرّر للأسانيد؛ (2) أو بطبيعة تركيب بنياته التضمينيّة كما نجد في قصّة ”بالله يا طرفي الجاني على كبدي،“65 وهي واحدة من النماذج القصصيّة التي خرج معنى الأمل الإنسانيّ فيها إلى مكابدة العشق ومصارع العشّاق وأملهم في اللقاء؛ (3) أو باعتماده على تقنيّة الوصف السرديّ بوضوح كما في قصّة ”سقط من علوّ ألف ذراع ونهض سالمًا.“66ركّز التنوخيّ في رواية أخباره على فكرة التسلية والإمتاع، وقد جاءت موزّعة في أكثر من باب كما نجد في قصص كلٍّ من الباب السادس والسابع والثامن،67 يقول التنوخيّ: ”فإنّهم نسقوا ما أودعوه كتبهم جملة واحدة، وربّما صادفت مللًا من سامعيها أو وافقت سآمة من الناظرين فيها، فرأيتُ أن أنوّع الأخبار وأجعلها أبوابًا.“68 إنّ الفكاهة أو التسلية أمر نشأ مع طبيعة الخبر المتنقّلة ووظيفته التواصليّة التي ترتكز على التسلية بصفتها سنّةً ثقافيّة، ويكون هذا المجال غنيًّا ومتاحًا لصياغة فنّيّة مخصوصة تحقّق الضحك والمتعة بين المتكلّم والسامع بصورة كوميديّة تحافظ على قالبها الفكاهيّ بعيدًا من السخرية أو الحطّ من قيمة البطل، لأنّها على العكس تجعل القارئ متعاطفًا بمشاعره ومرتبطًا بشخصيّة مأزومة يتابع تفاصيل تعقُّد الأحداث حولها، منتظرًا لحظة الحلّ. ورغم وظيفتها الإمتاعيّة، لا يمكن تجاهل القيمة الإصلاحيّة والتنويريّة في دراسة السلوك الإنسانيّ والقيم الاجتماعيّة التي حوتها هذه القصص.69 ومن أبرز النماذج القصصيّة الفكاهيّة التي اخترقت الفضاء الخاصّ بقصر الخلافة حكاية ”عريف الفرّاشين في البادهنج،“70 ويرى التنوخيّ أنّها تُقارب في تصنيفها خبرَ ”مَن وقع في الحبس وخرج منه،“ وفيها يُحبس بطل القصّة فوق شجرة يومًا كاملًا حتّى يأتي فرج الله وينزل عنها. ولعلّ هذه القصّة هي واحدةٌ من القصص التي اتّخذت شكلًا استرجاعيًّا للحدث السرديّ وتركيبه التشويقيّ (اللغز) الذي يبعث التشويق واللذّة في المستمع أو القارئ عن طريق الاستهلال بالسؤال في أغلب الأحيان.71يُنقل هذا الخبر شفاهيًّا بسند يرويه ابن الأنباريّ (ت 328/940) عن دلويه (ت 252/866–867)،72 يقول التنوخيّ:قال: كان في دار المقتدر بالله، عريف على بعض الفرّاشين، يخدمني وصافيًا إذا أقمنا في دار الخليفة، ففقدتُه في الدار، وظننته عليلًا، فلمّا كان بعد شهور، رأيته في بعض الطرق، بزيّ التجّار، وقد شاب.فقلت: فلان؟ قال: نعم، عبدك يا سيّدي.فقلت: ما هذا الشيب في هذه الشهور اليسيرة، وما هذا الزيّ؟ وأين كنت؟ فلجلج.فقلت لغلماني: احملوه إلى داري، وقلت: حدّثني حديثك.73يحيلنا هذا المشهد الحواريّ الذي دار بين العريف والسارد المشارك (دلويه) إلى التفكير في زمن القصّة، وهو مشهد يدفع إلى التشويق والعجب من هول التحوّل الذي بدا على هيئة العريف، ويحثّ توالي الأسئلة الحواريّة بينهما السامعَ على الدخول إلى أحداث القصّة التي صيغت سرديًّا بفعل ”حدِّثني.“وتتناول هذه القصّة حكاية مهمّة رسميّة موكلة إلى أحد الفرّاشين الذين يرشّون الخيوش والغرف لتبريد المكان أيّام الحرّ الشديد في فضاء البلاط العبّاسيّ في بغداد، إلّا أنّ حالة السكر والثمالة التي وقع بها العريف قادته إلى النوم العميق في إحدى الدور، ولسوء حظّه، يدخل الخليفة المقتدر مع جواريه إلى تلك الدار لحظةَ استيقاظه. يمثّل مشهد قدوم المقتدر أهمَّ درجات التوتّر في نموّ تصاعديّ للحدث السرديّ، وبذلك يظهر الخبر عند التنوخيّ ”مرتّبًا بين موقف التحدّي للبطل على المستوى الكلّيّ، وتصنيف درجة معيّنة من التركيب الانفعاليّ للتعامل مع الموقف الحرج.“74 ولعلّ التنوخيّ قد رسم أزمة موقف العريف بصورة دقيقة جدًّا، فبدأ بحبسه فوق شجرة طوال الليل، وامتناعه عن النوم خوفًا من الهلاك على يد الخليفة إن كُشف أمره. وقد ارتكز الخطاب السرديّ بأكمله على الحدث أكثر من ارتكازه على الشخصيّة ليعكس وظيفة تأزُّم الموقف ودراميّته. وأدّت ”فاء العطف“ دورًا مركّزًا في استتباع الفعل وتعقّده لحظة بلحظة في اثني عشر مشهدًا، من لحظة التأزّم الأولى إلى الذروة وصولًا إلى الفرج/حلّ عقدة الحدث، فقد اقترنت الفاء بسبعة وعشرين فعلًا سرديًّا. وتضافرت كذلك المقاطع الوصفيّة المختلطة بالفكاهة والضحك والتوتّر، لتشارك في تسلسل الحدث من دون إيقافه أو إبطائه، كما نرى في مشهد المواقعة الجنسيّة بين المقتدر والجارية فيما العريف يقف أعلى الشجرة يصف ما يشاهد: ”ثمّ عنّ للمقتدر أن جذب إليه حظيّته التي هي صاحبة تلك الدار، فانصرف باقي الجواري، وخلا الموضع، فواقع المقتدر بالله الجارية، وأنا أسمع حركتهما وكلامهما، ثمّ ناما في مكانهما، ولا سبيل لي إلى النوم لحظة واحدة، لما أقاسي من الخوف.“75يتسلّل المحظور الخاصّ بداخل البلاط العبّاسيّ إلى السرد، ويبدو الدور الجنسيّ الذي تؤدّيه الجواري في هذا الفضاء مُرضيًا وظيفيًّا لطبيعة المكان الرسميّ، وتشيع الفكاهة والضحك في كثير من المقاطع الوصفيّة التي يسردها الراوي عن نفسه، فتمتزج مشاعر الضحك والعطف والقلق في كلّ لحظة يزداد فيها توتُّر الفعل. فيغدو المشهد بؤرةً نصّيّة أمام موقف لا يُحسد عليه العريف الحبيس على شجرة: ”فجلس وجلسن، وأخذ الجواري في الغناء، وأنا أسمع ذلك كلّه، وروحي تكاد تخرج، فإذا أعييت، نزلت فجلست في أرض البادهنج، فإذا استرحت، وخفت أن يُفطن بي، عدت فتسلّقت.“76ينتقل المشهد بالقارئ في خطٍّ زمنيّ متسلسل واقعيًّا إلى مجيء عدد من الفرّاشين في اليوم التالي ليتحقّق الفرج: ”فلمّا كان من غد نصف النهار، جاء عريف آخر من الفرّاشين، ومعه رجاله فرشّوا الخيش، فخرجت فاختلطت بهم، فقالوا: أيش تعمل ها هنا؟ فأومأت إليهم بالسكوت، وقلت: الله، الله، في دمي، فإنّ حديثي طويل، فتذمّموا أن يفضحوني.“77من المثير أنّ حرمة الفضاء الخاصّ يُعاد خلقها في الأدبيّات القصصيّة في سياق الحظر/المنع، وهي إحدى الوظائف المهمّة التي حدّدها بروب (Propp) في الحكاية الشعبيّة،78 ولا ريب أنّ الرواة يبتهجون بجعل هذه المساحة مغرية بقدر ما يستطيعون. وقد تكون عقوبات اختراق هذا الفضاء عجيبة، ومثل هذا يتكرّر كثيرًا في الأدبيّات السرديّة كما يشير مايكل كوبرسون (Michael Cooperson)؛ إذ ربط بين هذه الحكاية وحكايات أخرى مشابهة جدًّا، مثل حكاية التاجر والجارية للتنوخيّ79 وحكاية تاجر الأقمشة في ألف ليلة وليلة.80 وتمثّل حكاية عريف الفرّاشين اختراقًا للفضاء الخاصّ والبلاط السلطويّ على يد موظّفي القصر الرسميّين الذين قد يمارسون هذه الخروقات فلا تقتصر على طبقة العامّة فقط.81لم يعنِ الفرج النجاةَ من حبس البادهنج فحسب، بل أخذ أبعادًا سلوكيّة وإصلاحيّة أوسع للفرد، فلم يقتصر التنوخيّ على ذكر الموقف بحدّ ذاته، بل ذكر تحوّلًا في شخصيّة البطل ورؤيتها للأمور، وهو عزم العريف على التوبة عن المعاصي والشرب، والسعي إلى الرزق الحلال والتوكّل على الله، يقول: ”وقد كنت عاهدت الله تعالى، وأنا في البادهنج، إن هو خلّصني، أن لا أخدم أحدًا أبدًا، ولا أشرب النبيذ، وأقلعت عن أشياء تبت منها. فلمّا تفضّل الله تعالى بالعافية، وفيتُ بالنذر، وبعت أشياء كانت لي، وضممتها إلى دراهم كانت عندي، ولزمت دكّانًا لحميّي أتعلّم فيه التجارة معه، وأتّجر، وتركت الدار، فما عدت إليها إلى الآن، ولا أعود أبدًا إلى خدمة الناس ولا أنقض ما تبت منه.“82 لقد كانت المواقف الإصلاحيّة التي تقيّم سلوك الفرد مقصدًا تعليميًّا مهمًّا في الكتاب.6استدعاء الأمل من الموروثينِ الدينيّ والثقافيّ: ”قصّة الأخوين عاد وشدّاد“83وضع التنوخيّ هذه القصّة في باب ”مَن امتُحن من اللصوص بسرقٍ أو قطع فعُوّض من الارتجاع والخلف بأجمل ما صنع،“ وهي تضيء على فئة من مجتمع الهامش ابتُلي أصحابها بالسرقة أو القتل. ولهذه القصّة أهمّيّة في بناء مفهوم خاصّ للفرج والأمل عند التنوخيّ؛ إذ إنّها مصاغة بطابع سحريّ أسطوريّ يذكّر بـ حكايات ألف ليلة وليلة، ويتلاقى مع الوظيفة المرجعيّة النسقيّة في النظامينِ الثقافيّ والأدبيّ. والموروث التاريخيّ هو ما نقله التاريخ عن العرب البائدة من قوم عاد، والموروث الدينيّ هو ما ذكره القرآن الكريم عنهم في سورة عاد، وبذلك فإنّ ”الخطاب الأدبيّ ينتج ويتطوّر تبعًا لبنيات لا يخرقها إلّا لكونه يجدها الآن في حقل لغته وكتابته.“84 ويشكّل الخبر هنا مزيجًا مختلطًا من عدّة سياقات جعلته يتجاوز واقعيّة المنشأ التي ارتبط ظهوره بها وتجربة الواقع التي يعيشها، منتقلًا إلى مرحلة أبعد من إيهام التجربة الواقعيّة وسرديّتها. يقول كرد علي: ”وربّما دخل بعضَها شيءٌ من المبالغة للتأثير في النفوس والإدهاش بالغرائب،“85 بل إنّ غرائبيّته التي ظهرت في بنية تضمينيّة86 متطوّرة انتقلت بها الشخصيّة الرئيسة في أكثر من قصّة سرديّة وتركّبت بها. وقد يتبدّى ذلك في مفتتح الخبر حيث يروي السندَ أحدُ الشعراء يقول التنوخيّ: ”حكى عبد الله العبقسيّ الشاعر قال: حدّثني شاعر كان يُعرف بغلام أبي الغوث.“87لا تغادر القصّة في مجملها عالمَ الصحراء والبداوة وفضاءها المكانيّ، وتشارك شخصيّة الراوي في سرد أحداث القصّة الأولى والفعل السرديّ فيظهر ”الراوي هنا شريكًا، والمشاركة الأوسع في الرواية التي يتأكّد فيها الفعل فيرويه القول.“88 ويحيل اسم ”عاد“ إلى رمزيّة القوّة الجسديّة، كما يشير مدلول اسم ”شدّاد“ إلى تشارك في الحدث السرديّ تحت مظلّة الوظيفة السرديّة للسارد في إبراز تقاطعات السرد ووصلاته أو وظيفة إدارته.89 في حين نرى القصّة الفرعيّة الثانية تحوُّلًا في الخطاب المرويّ؛ إذ يؤدّي شدّاد دور السارد المشارك في الحدث، فيروي ويقدّم موقفه من المنظور السرديّ وهو التوبة عن قطع الطريق. ويبدو البحث عن فكرة الفرج في هذه القصّة متأرجحًا بين شقّينِ أساسيّين وُظّفت فيهما القوّة الجسديّة الخارقة ببعدها الأسطوريّ المتعارف عليه في أقاصيص العرب والسمّار عن هؤلاء الأقوام: فالقصّة الأولى تحمل معنى تفريج كروب الآخرين وإعانتهم بواسطة تمكُّنِ البطل شدّاد وقواه الجسديّة الخارقة؛ أمّا القصّة الثانية فقد أُغرقت بصبغة عجائبيّة غرائبيّة لتصوّر انتصار الخير على الشرّ، وتتمثّل بإنقاذ الجارية الحسناء المخطوفة من إحدى مغارات الجبال.تبدأ الحكاية الأولى بتعيين فضاء المكان بإحدى قرى الشام التي يجهد سكّانها في رزقهم ويواجهون مشقّة المشي الطويل وقسوة الشتاء لطحن حبوبهم. ويروي رجلٌ يُدعى أبا غوث معاناة أهل هذه القرية: ”كنت من أهل قرية من نواحي الشام أسكنُها أنا وأسلافي، فكنّا نطحن أقواتنا في رحى ماء على فراسخ من البلد يخرج إليها أهل البلد وأهل القرى المجاورة بغلّاتهم فتكثر فلا يتمكّن من الطحن إلّا الأقوى فالأقوى.“90 يظهر الموقف المأزوم في قصّة أبي غوث منسجمًا مع استحضار شخصيّة شدّاد وتفاعلها مع الأحداث وصولًا إلى حلّ العقدة، فالشخصيّة الرئيسة تعاني تعبًا ومشقّة لجلب رزقها وحمله إلى البيت وطبخه، وإنّ توظيف شخصيّة ”عاد“ بما تحمله من موروثٍ متّصلٍ بالخوارق الجسديّة يحمل الفرج ومعه الحلّ لأبي غوث المنهك جسديًّا. ولذلك يتفلّتُ الخبر في هذه القصّة من واقعيّته، ويتداخل مع عالم أسطوريّ فنتازيّ يحمل القارئ إلى زمن العمالقة العرب وأساطيرهم:فقال لي: فلِمَ لا تطحنها اليوم، فأخبرته بسبب تعذُّر ذلك عليّ.قال: فثار كالجمل، حتّى شقّ الناسَ وهم مزدحمون على الرحى، وهي تدور، فجعل رجله عليها فوقفت ولم تدر.فعجب الناس، وقال: من فيكم يتقدّم؟فجاء رجل أيّد شديد، فأخذ بيده، ورمى به كالكرة، وجعله تحت رجله الأخرى، فما قدر أن يتحرّك.وقال: قدّموا غلّتي إلى الطحن وإلّا كسرت الرحى، وكسرت عظام هذا.91قدّمت أحداث الحكاية الأولى فرجًا لأزمة أبي غوث التي يعانيها دائمًا في جمع رزقه، في حين انتقل السرد عبر مشهد الحوار بين الشخصيّتين إلى عرض موقف مأزوم جديد وقع به شدّاد. ينسجم الموقف مع فكرة مركزيّة الجسد وقوّته التي ساهمت بدورها في نموّ الحدث في الحكاية الثانية. وتطوّر الحدث في الصراع مع رموز الشرّ (قطّاع الطرق) بخطّ منطقيّ متسلسل، وانعكست العمليّة التواصليّة فغدا شدّاد هو السارد، وأبو غوث هو المستمع.تبدأ قصة عاد وشدّاد بمقطع وصفيّ يتميّز فيه الأخوان بقوّتهما في مصارعة قطّاع الطرق في الصحراء وحماية المسافرين منهم، يقول البطل واصفًا أحد الرجال في القافلة:فضرب ساق أخي بالسيف ضربةً أقعدته، وعدا عليّ، فقبض على كتفي، فما أطقت الحركة. فكتّفني، ثمّ كتّف أخي، وطرحنا على الناقة كالزاملتين، ثمّ ركبها وسار بعد أن أخذ من القافلة ما كان فيها من عين، وورق، وحليّ، وشيئًا من الزاد، وأوقر الراحلة بذلك، وسار بنا على غير محجّة، في طريق لا نعرفه، بقيّة يومنا وليلتنا وبعض الثاني، حتّى أتى جبلًا لا نعرفه، فأوغل فيه، وبلغ إلى وجه منه فدخله، فانتهى إلى مغارات، فأناخ الراحلة، ثمّ رمى بنا عنها وتركنا في الكتاف. وجاء إلى مغارة على بابها صخرة عظيمة لا يقلعها إلّا الجماعة، فنحّاها عن الباب واستخرج منها جارية حسناء، فسألها عن خبرها، وجلسا يأكلان ممّا جاء به من الزاد، ثمّ شربا، فقال لها: قومي، فقامت، ودخلت الغار. ثمّ جاء إلى أخي، فذبحه وأنا أراه، وسلخه، وأكله وحده، حتّى لم يدع منه إلّا عظامه.92قد تحرِّك هذه المشاهد الدراميّة الحدث السرديّ نحو العنف والقتل والدم والخطف، وربّما يعكس هذا الموقف الحادّ والمتوتّر تحوّلًا إلى العجز في رمزيّة البطل القويّ شدّاد وأخيه عاد. ولا يمكن تجاهل دور المرأة في تحوّل خطّ الأحداث، وهي غالبًا ما تتميّز بالذكاء في صناعة الحيل والظروف لتوجِّه الموقف نحو الفرج أو الخلاص، وتخلق بذكائها وشجاعتها الأملَ للنجاة من الموت، وتنال نصيبها كذلك من الفرج. قدّمت المرأة هنا لشدّاد مشورةً أنقذته من القتل، يقول شدّاد: ”فلمّا كان في الليل، لم أحسّ إلّا بامرأة تكلّمني، فقلت لها: ما بالك؟ فقالت: إنّ هذا العبد قد سكر ونام، وهو يذبحك في غدٍ كما ذبح صاحبك، فإن كانت لك قوّة فاجهد في دفع الصخرة واخرج فاقتله، وانجُ بي وبنفسك.“93لقد ساعدت الحسناء شدّاد في الخلاص حين ساندته في تحريك الصخرة من باب المغارة، وقد تحقّق ذلك بفضل إيمان شدّاد الخالص بالله، ودور المرأة (الجارية) الحاضر بقوّة في وظيفة سرديّة مركزيّة. سينال البطل حظًّا وافرًا من الرزق بزواجه من هذه المرأة بفضل ذكائها، وهو موتيف متكرّر كما رأينا في حكاية ”مَن يتوكّل على الله فهو حسبه.“ أمّا الرزق الآخر فيشير إلى استرجاع الشخصيّة المحوريّة مركزيّةَ الجسد والقوّة والبسالة التي كاد أن يفقدها في سجنه داخل المغارة، يقول: ”فجئت إلى الصخرة فاعتمدت عليها بقوّتي، فتحرّكت، فإذا قد وقع تحت الصخرة حصاة صغيرة، وقد صارت الصخرة مركّبة تركيبًا صحيحًا، وذلك لما أراده الله تعالى من خلاصي.“94يتّفق المشهد السرديّ الأخير مع خطٍّ منطقيّ تقوم عليه الأحداث منذ نموّها مرورًا بذروتها في التعقيد ليكون الحلّ فرجًا وخلاصًا في نهاية السرد. ويتمثّل الحلّ بالانتقام من قاطع الطريق وقتله بالطريقة نفسها التي مات فيها عاد، ثمّ جمعِ الغنائم والجواهر من المغارة. يليه تحوّلٌ جذريّ أخلاقيّ في موقف الشخصيّة من قطع الطريق، أي فعل التوبة كما رأينا في قصّة عريف الفرّاشين. وهكذا ينتقل الفرج من البلاء إلى تهذيب السلوك والقيم الاجتماعيّة ليعني تحوّلًا في المنظور والرؤية عند الشخصيّة المأزومة.7الفرج في واقعيّة الخبر والسرد التاريخيّيحظى الخبر الواقعيّ التاريخيّ بمساحة كبيرة جدًّا من السرد في كتاب التنوخيّ، وترد الأخبار الواقعيّة في سلسلة متنوّعة ارتبطت قصص أصحابها بظروف وحوادث تاريخيّة وسياسيّة ”ومراجع دقيقة ومفصّلة لشخصيّات وأحداث وأماكن تشمل طبقة واسعة من المجتمع العبّاسيّ.“95 إنّ الخبر ”فنٌّ يتصاهر فيه التاريخ والخيال والسبك الفنّيّ، ويندرج ضمنه ما يُعرف بأيّام العرب وأدب السِّيَر وأقاصيص الأقوام ومفاخرات القبائل وأدب التراجم.“96لقد انتقى التنوخيّ عددًا كبيرًا من الأخبار التي اصطبغت بصبغة إخباريّة إعلاميّة، فَرَوَتْ قصّة شخصيّة معيّنة مذكورة في كتب التراجم والسِّيَر، ومثّلتْ جانبًا موضوعيًّا – بمحتواه – من أدب المحنة وطرق الفرج والخلاص منها. وقد ركّز التنوخيّ في هذه الأخبار على التقاء السرد التاريخيّ بواقعيّة الخبر وصورته كاملة، لا سيّما أنّ الدارس يواجه صعوبة في تدقيق الحدّ الفاصل بين الخبر، أي حين يكون مظهرًا من مظاهر الإنشاء الأدبيّ، والخبر حين يكون نصًّا تاريخيًّا، فالخبر مشترك بين الأدب والتاريخ،97 لكنّ الملاحَظ أنّ معظم سرديّات الخبر التاريخيّ في كتاب الفرج قد حافظت على الأسانيد المتّصلة وواظبت على ذكرها. وهكذا منح التنوخيّ للحكايات ذات النمط الرسميّ (الشائع في التقارير والكتابة التاريخيّة) جوًّا من الحقيقة بذكر الإسناد، وذكر التفاصيل الدقيقة للمكان الذي تجري فيه الأحداث، فضلًا عن المصداقيّة.98 ونلمس كذلك أنّ التنوخيّ قد ركّز بشدّة على المجال السياسيّ في بناء هذا الشكل من الأخبار، ونعني بذلك قصصه عن الفرد المأزوم في مواجهة السلطة السياسيّة، وتعرّضه لموقفٍ ما بالغ الخطورة ثمّ النجاة منه. وليس غريبًا أن يتقاطع ويتماهى هذا النمط من السرد التاريخيّ مع تجربة سِيَريّة خاضها التنوخيّ نفسه، واستشعر ألمها وشدّتها، لتنسجم مع ثيمة الكتاب، وتأخذ الحصّة الأكبر منه، سواءٌ أكان بتتبّع الحوادث التاريخيّة في العصور الإسلاميّة المختلفة (صدر الإسلام والعصرينِ الأمويّ والعبّاسيّ)، أم بتخصيص مواضيع أخرى كالأسر والنفي وأدب السجون، أم بنقل حوادث وقصص من أيّام الفرس والروم.99 لقد استمدّ المؤرّخ دومينيك سوردل (Dominique Sourdel) كثيرًا من المعلومات التاريخيّة من كتاب الفرج بعد الشدّة ”بوصفه أهمّ الأعمال الأدبيّة التي تضمّ أخبارًا تاريخيّة لها قيمة الشهادة الحقيقيّة للتاريخ، وحتّى إن لم يعدّها الباحث حقيقةً فليس من السهل عليه تجاهلها.“100حاز الجزء الأوّل من الكتاب على أكثر من خمسة عشر خبرًا تاريخيًّا، وكان الفرج في كلٍّ منها يتأتّى بالدعاء؛ إذ تتمّ مواجهة الفرد للسلطة السياسيّة بدعاء الفرج، وهو من أبرز الدعائم التي قدّمها التنوخيّ في أخباره لا سيّما في الأبواب الأربعة الأولى، في حين ساهم ذكاء الشخصيّة وسرعة بديهتها في إفحام ذوي السلطة والخلاص من الهلاك كما نجد في حكاية الجاحظ مع أحمد ابن أبي داود،101 أو في مجموعة من الأخبار كثُر نقلها عن الحجّاج بن يوسف الثقفيّ (ت 95/714) والرشيد (ت 193/809) والمأمون (ت 218/833) في الباب الرابع الذي خصّه لـ ”مَن استعطف غضب السلطان بصادق اللفظ أو استوقف مكروهه بموقف بيان أو وعظ.“102ورغم أنّ هذا النمط الخبريّ يتميّز بقلّة أدبيّته وضيق حصّته من الفنّيّة في سرد الخبر وتشكيل بنيته، فإنّه قد أدّى وظيفة جوهريّة لمتن الكتاب الذي ضمّ عددًا كبيرًا من الشواهد التاريخيّة والقصص الواقعيّة. وتظهر قدرة الخبر على التمثّل السياسيّ واللبوس الأيديولوجيّ في مرحلة زمنيّة، أو دخوله معتركًا من الصراع السياسيّ والقبليّ والمذهبيّ، في نماذج من عفو الخليفة أو الولاة عن شخصيّات مثقّفة أو سياسيّة في الدولة.يستوقفنا في هذا المقام خبرٌ تاريخيّ يرتبط بأحداث ثورة ابن الأشعث (ت 85/704) بعنوان ”الشعبيّ يروي قصّة دخوله على الحجّاج،“ وقد نقل التنوخيّ هذا الخبر مدوّنًا بخطّ القاضي أبي جعفر الأنباريّ (ت 360/970) مرويًّا عن الشعبيّ (103/721) صاحب الخبر، أي أنّه خبر يوازي التجربة الواقعيّة ويناظرها، فهو صورة تلتزم بنقل حيثيّات الواقعة التاريخيّة وزمنيّة أحداثها (زمن ثورة عبد الرحمن بن الأشعث الكنديّ التي ”اجتمع فيها مع جنده الذين بايعوه على خلع الحجّاج حتّى يخرج من العراق“).103 وإزاء هذا الحدث، يدور الخبر حواريًّا بين شخصيّات تاريخيّة معروفة: الحجّاج، منفّذ شرعيّة الدولة الأمويّة وسلطتها، والشعبيّ، ممثّل معارضة هذه الشرعيّة، ويزيد بن أبي مسلم (ت 102/721)،104 ممثّل أحد الوسطاء بين الجانبين، يقول يزيد: ”يا عامر، أنا أخوك الذي تعرف، ووالله، ما أستطيع نفعك عند الحجّاج، وما أرى لك إلّا أن تمثل بين يديه، فتقرّ بذنبك، فإنّ الحجّاج ليس ممّن يُكذَب، فاصدقه، واستشهدْني على ما بدا لك.“105يقوم الخبر بأكمله على الحواريّة بين هذه الشخصيّات، ونلاحظ ابتعاد هذا الشكل الخبريّ عن حركة السرد الدراميّة؛ إذ تتركّز فيه عمليّة الإخبار التاريخيّة، وهو ما يُطلِق عليه محمّد القاضي مفهوم ”الأيديولوجيا السافرة،“ خلافًا للأيديولوجيا المقنّعة للخبر التي تشهد نموّ وظيفة جديدة جماليّة أو فنّيّة تغلّفها.106 وتبدو الشخصيّات في هذا الخبر وسط نقاش وحوار حجاجيّ يحاول فيه الشعبيّ الخلاص من بطش الحجّاج. إنّ الأخبار التي أوردها التنوخيّ عن الحجّاج كثيرة، وهي من جملة الأخبار في بطش القوّة السياسيّة وأساليب الفرج والنجاة منها، وقد روى التنوخيّ ما يقارب خمسة عشر خبرًا للحجّاج، ”لأنّه يمثّل نموذجًا متميّزًا لعنف الدولة الأمويّة، وكان لهذا العنف مبرّراته على مستوى الظرفيّة التاريخيّة، حيث تميّزت الفترة التي تولّى فيها السلطة بكثرة الاضطرابات والثورات بالحجاز.“107 وقد كان الشعبيّ مقتدرًا على التحايل والنجاة من الموت بحجاجيّة لسانه وصدق قلبه في ردّه على الحجّاج، ”قال: فما الذي أخرجك عليّ، وأين كنت في هذه الفتنة؟ قلت: أصلح الله الأمير، أوحش الجناب، وأُحزن بنا المنزل، فاستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، واستحلسنا البلاء، وفقدنا صالح الإخوان، وشملتنا فتنة، لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، وما أعتذر ألّا أكون سعيت، وهذا يزيد بن أبي مسلم، يشهد لي بذلك، وأنّي كنت أكتب إليه بعذري،“108 فينتهي الخبر بعفو الحجّاج عنه.8الفرج المأمول في المجاهدة الصوفيّة في حكاية ”الصوفيّ المتوكّل وجام فالوذج حارّ“109ننتقل في هذه القصّة إلى شكل جديد يُصاغ به الفرج مرتبطًا بالتجربة الروحيّة التي يعيشها الصوفيّ، وفيها يختار التنوخيّ مفهومَي التوكّل والرزق عند المتصوّفة ليكونا موضوعًا لفكّ الكرب. وتُعَدّ هذه إحدى القصص التي نقلها التنوخيّ من كتابه نشوار المحاضرة وضمّها إلى قائمة أخبار الفرج. والملاحظ أنّ القصّة تتشابه جدًّا في كلا الكتابين مع وجود فوراق بسيطة، فالسند أحاديٌّ في الفرج وثنائيٌّ في نشوار المحاضرة110 نظرًا لارتباط الأخير الواضح بالرواية الشفويّة للخبر، والصياغة السرديّة في الفرج أكثر غزارةً وتفصيلًا لا سيّما في الحوار السرديّ. ورغم أنّ القصّة تخدم فكرة الفرج في ظاهرها، فإنّ أبعادها المذهبيّة تظهر في جملة من الانتقادات التي وجّهها التنوخيّ إلى فكر المتصوّفة و”جهلهم“ و”تفكيرهم اللامنطقيّ،“111 على نسق نماذج نقديّة أخرى ترد في كتاب النشوار نحو قصّة جعفر الخلديّ وقصّة انتقام الأمّ.112تتحدّث القصّة عن شيخ من المتصوّفة يمتحن نفسه ومدى مقاومتها لشهوات الجسد [الطعام]، وتعرض سلوكًا ومنهجًا تعبّديًّا يختاره البطل لتطهير النفس. خلق الشيخ المتصوّف هنا الموقف المأزوم بنفسه ليجاهد ويحارب وينتصر، فحرّم على نفسه الأكل في الصحراء يومين وليلتين حتّى كاد أن يهلك. ونلحظ أنّ القصّة تقدّم دورًا وظيفيًّا في تمثيل قدرة الروح الصوفيّة على أداء مهمّتها، لأنّ التجربة الصوفيّة لا تتمّ إلّا باختبار النفس عن طريق المجاهدة التي تقود إلى الرزق في النهاية، يقول الراوي ابن سيّار (ت 268/881–882):فقال ذلك الشيخ: عليّ وعليّ، وحلف بأيْمان مغلّظة، لا ذقتُ شيئًا أو يبعث الله عزّ وجلّ إليّ جام فالوذج حارّ، ولا آكله إلّا بعد أن يُحلف عليّ أو يجري عليّ مكروه، وكنّا نمشي في الصحراء، فقالت الجماعة: أنت جاهل، ونحن نمشي حتّى انتهينا إلى القرية، وقد مضى عليه يومان وليلتان، ولم يطعم شيئًا، ففارقته الجماعة، غيري، فطرح نفسه في مسجد في القرية وقد ضعفت قوّته، وأشرف على الموت.113استشرف الشيخ المتصوّف نوعًا من الأكل تشتهيه نفسه، واشترط عليها عدم الأكل إلّا بعد مشقّة وقرب من الموت، وخاض صراعًا كبيرًا ضدّها، وقد فارقه الجميع ولم يبق معه سوى ابن سيّار. لم تنفصل هذه الأحداث – وإن ارتبطت بفكرة الأزمة وتشكُّلها – عن مكوّناتها المذهبيّة الأصليّة، ولذا يرى فلوريان أنّ التنوخيّ يسخر من عقيدة التوكّل في هذا النموذج ويرفضها، كما يُظهر عواقبها على البطل ويصوّرها قتلًا للنفس أو انتحارًا استنادًا إلى موروثه الاعتزاليّ.114 يتطوّر الحدث في ليلة اليوم الثالث بحضور جارية إلى ابن سيّار والشيخ المتصوّف، والأخير قد هلك جسده من الجوع وأُغمي عليه، فيبدأ مشهد الانفراج: ”فإذا بجارية سوداء ومعها طبق مغطّى، قالت: أنتم من أهل القرية أم غرباء؟“115قدّمت الجارية الفالوذج الحارّ الذي تنبّأ به الشيخ المتصوّف واشتهته نفسه، إلّا أنّ سؤالها وهي تحمل الطبق قد ارتبط بقصّة أخرى يؤدّي الاستفهام فيها عنصرًا من التشويق والإثارة، فشكّلت القصّتان معًا وحدة سرديّة كبرى بُنيت على ما اشترطه الشيخ المتصوّف من شروط ليأكل؛ إذ حين يقدَّم الفالوذج للمتصوّف يرفض أكله فتُقسِم الجارية عليه أيْمانًا مغلّظة بالأكل. يؤدّي الملفوظ السرديّ (القَسَم) وظيفة كبيرة في ربط بؤرة الحدث في القصّة الأولى، المستندة إلى شروط قاسية وضعها المتصوّف للأكل، بوظيفة مطابقة لها تؤدّيها الجارية في حوارها معه، فقالت: ”والله لا أكلتُ أو تأكل، ووالله لتأكلنّ، لأبرّ قسمه.“ ويُصعَّد الحدث لتقوم الجارية بصفع المتصوّف صفعة عظيمة تمثّل ”المكروه“ الذي اشترطه على نفسه: ”فشالت الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله، لئن لم تأكل لأصفعنّك هكذا إلى أن تأكل،“116 وبعد تحقّق الشروط كلّها كان الفرج بأكل ما اشتهاه، ولكن بصبغة إيمانيّة روحيّة على طريقة المتصوّفة.تعالج القصّة التجربة الصوفيّة بحدّ ذاتها وطبيعة خبر الفرج الذي صيغ بها ليتناسب مع الإبستمولوجيّة الصوفيّة، ولكن لا يمكن تجاهل دور الموضوع (أي جام الفالوذج) الذي تركّب السرد به ونما الحدث بواسطته، كما لا يمكن تجاهل مفهوم الرزق والتدابير الإلهيّة. وذلك أنّ الحديث لا يتوقّف عند المتصوّف بل يستمرّ بتحوّله وانتقاله إلى الجارية التي تتولّى مهمّة إخبار السامع بقصّة تلك الأكلة، أو بعبارة أخرى الكشف عن إجابة السؤال الذي طرحته من قبل ”هل أنتم غرباء أم من أهل القرية؟“ تستكمل الجارية إجابة هذا السؤال بعد أن يعيد الراوي ابن سيّار إثارته عن طريق الطلب: ”حدّثينا بحديث الجام،“ فيؤدّي وظيفة تفسيريّة لوجود الفالوذج معها، وبذلك يتمّ التوزيع السرديّ بين وظيفتين أساسيّتين لشخصيّة المتصوّف الذي خلق أزمة الحدث وشخصيّة الجارية التي أوجدت انفراجًا لها. ونلاحظ أنّ النتيجة مرتبطة بالمقدّمة السببيّة التي يرتّب التنوخيّ لها نهاية مفترجة ومأمولة في قياس منطقيّ يرتبط بموروثه الاعتزاليّ. وممّا قالته الجارية في نهاية القصّة:نعم، أنا جارية رئيس هذه القرية، وهو رجل حديد [كذا]، طلب منّا منذ ساعة، فالوذج حارّ، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن نُخرج الحوائج ونعقد الفالوذج، تأخّر عليه فطلبه، فقلنا: نعم، فحلف بالطلاق أنّه لا يأكله، ولا أحد من أهل داره، ولا أحد من أهل القرية، إلّا غريب. فأخذته وجعلت أدور في المساجد إلى أن وجدتكما، ولو لم يأكل هذا الشيخ لقتلته صفعًا، ولا تطلق ستّي.117يرد الجزء الأخير من القصّة ليكشف عقدة أخرى بصورة فكاهيّة مضحكة، فغضبُ رئيس القرية وحلفه بالطلاق، كان سببًا في تحقيق الفرج للمتصوّف. ومع تباين رمزيّة الملفوظ السرديّ (القَسَم) ومفارقته عند المتصوّف ورئيس القرية، فإنّه كان يخدم الحلّ وظيفيًّا (الفرج) في كلتا القصّتين. كما لا يمكن تجاهل دور الجارية (السوداء) وظيفيًّا.
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote