Get 20M+ Full-Text Papers For Less Than $1.50/day. Start a 14-Day Trial for You or Your Team.

Learn More →

الأمل في التراث الصوفيّ

الأمل في التراث الصوفيّ ‫﴿وَالضُّحَىٰ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ (الضحى، 93: 1–5)‬…‫”من قال إنّ شمسَ الأملِ تموت؟ ذاك عدوّ الشمس، علا السطحَ ووضعَ عصابةً على عينيه، وقال: الشمس تموت.“ جلال الدين الروميّ (ت ‫672‬/1273)1‬∵1فاتحة‫عرَّف أحد المتصوّفة الأوائل التصوّف بأنّه ”فَقْد الأمل ومداومة العمل وكثرة الوجل،“2 وتابعه كثيرون من أهل الطريق الصوفيّ حتّى صار ”قِصَر الأمل“ خُلُقًا وسلوكًا يجب على المريد أن يتحلّى به وإلّا لابس يقينَه شكٌّ وتوكّلَه رُكون. وأمسى طول الأمل آفةً مهلكة حاول مشايخ الصوفيّة عبر القصص والأشعار أن يدرّبوا المريدين على التخلّي عنها، ومن ذلك ما قاله السريّ السقطيّ (ت ‫251‬/865): ”حسن الأدب ترجمان العقل،“3 ومن آدابهم تقريبهم الأجل وتقصيرهم الأمل. وحُكي عن بعضهم أنّه قال لأصحابه لمّا قدّموه في الصلاة: ”إن تقدّمتُ وصلّيت بكم هذه الصلاة لم أصلّ بكم صلاة أخرى،“ فقال له معروف الكرخيّ (ت ‫200‬/815): ”وأنت تحدّث نفسك أنّك تبلغ صلاةً أخرى! نعوذ بالله من طول الأمل، فإنّه يمنع خير العمل.“ ولم يصلّ خلفه.4‬‫استند المتصوّفة في ترسيخ هذا الخُلُق إلى أحاديث نبويّة شريفة تحضّ على عيش المرء مفارِقًا وغريبًا في رحلة الدنيا المؤقّتة، ونُظمت الأشعار ودُبّجت القصص في هذا الغرض، حتّى أضحى مفهوم الأمل مفهومًا مركزيًّا وأساسًا من أسس البناء الصوفيّ، ارتبط بالمشاعر (حزنًا وفرحًا ويأسًا ورجاءً)، كما ارتبط بالخلاص (نجاةً وهلاكًا). يحاول المقال أن يتتبّع مفهوم الأمل عند الصوفيّة، وكيف اتّصل بالمقامات والأحوال، وكيف أثرى المعجم الصوفيّ. ويستند المقال بصفة خاصّة إلى أعمال الحارث المحاسبيّ (ت ‫243‬/857) نظرًا لتقدّمه وكثرة تلاميذه وأقرانه ومعاصريه من الصوفيّة الأوائل الذين اعتمدوا عليه، فمن الذين أثبت أبو عبد الرحمن السلميّ (ت ‫412‬/1021) صحبتهم للمحاسبيّ أبو العبّاس بن مسروق (ت 298–‫299‬/910–911)، ومحمّد بن أبي الورد (ت ‫262‬/875)، وممّن ذكرهم القشيريّ (ت ‫456‬/1072) أحمد بن عاصم الأنطاكيّ (ت ‫220‬/835)، وأبو القاسم الجنيد (ت‫297‬/910)، على أنّ كلّ من وصفهم صاحب الرسالة بأنّهم من أقران الجنيد كان أغلبهم من تلامذة المحاسبيّ، بناءً على ما اتُّفق عليه بأنّه كان ”أستاذ أكثر البغداديّين.“5 ومن هنا، كان اختيارنا لنموذج المحاسبيّ لإظهار تطوّر المصطلح في كتاباته، ثمّ اختيار الهرويّ الأنصاريّ (ت ‫481‬/1089) نظرًا لمكانة عمله منازل السائرين في دراسة المقامات والأحوال. ولمّا كانت شخصيّة المسيح حاضرةً في التصوّف الإسلاميّ حضورًا بارزًا، حاول المقال أن يسلّط الضوء على رؤيته للأمل. وتجدر الإشارة إلى أنّ موضوع الأمل في التراث الصوفيّ لم تُفرَد له دراسات عربيّة بعد، وما راجعته من كتابات استشراقيّة لم يدرس الأمل وحده بل تناول معه العديد من المقامات والأحوال الصوفيّة، ولعلّ هذه الإضاءة التي يقدّمها المقال تساهم في لفت نظر الباحثين والمهتمّين إلى أهمّيّة الموضوع.‬2الأمل في اللغة والقرآن‫الأَمَلُ والأَمْلُ والإِمْلُ: الرجاء، والجمع: الآمال؛ والفعل منه: أَمَلَ الشيءَ يأْمُلُه، وأَمَّلَه تأميلًا؛ والتأَمُّلُ: النظر بتحديق والتثبُّت في الأمر.6 وقد ورد هذا اللفظ بالمعنى اللغويّ، وهو الرجاء في المستقبل، في موضعين في القرآن، أحدهما إيجابيّ، والثاني سلبيّ: الأوّل في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف، 18: 46) فمن ”كان باطنه مزيّنًا بأنوار المعرفة، وظاهره مزيّنًا بآداب الخدمة وضياء المحبّة ولمعان الشوق وشرف الهمّة وعلوّ النفس، فيُغلّب زينة باطنه زينة الحياة شوقًا منه إلى ربّه، ويُغلّب زينة ظاهره زينة الدنيا لأنّ زينته أزين، من فعل ذلك نجا من الانشغال بزينة الدنيا وأُقيم في الباقيات الصالحات، وهي الأعمال الخالصة والنيّة الصادقة وكلّ ما أريد به وجه الله وهذا خير الأمل“؛7 والموضع الثاني في قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ (الحجر، 15: 3)، ويقول بعض الصوفيّة في هذه الآية موصيًا مريده ”من شغلته تربية نفسه، وطلب مرادها، والتمتّع بهذه الفانية عن الإقبال علينا، فأَعْرِض عنهم، ولا تُقبل عليهم، وذرْهم وما هم فيه، فلن يصل إلينا إلّا من كان لنا ولم يكن لسوانا عنده قدرٌ ولا خطر.“8 وقد قسّم المتصوّفة رتب الانشغال بالدنيا إلى رتبتين، فالتزيّن بها من أخلاق المنافقين، والتمتّع المذكور في الآية هنا من أخلاق الكافرين.‬‫وممّا يتّصل بمعنى الأمل الإيجابيّ التَّأْمِيل؛ إذ يُضرب المثل في تدَبُّر القرآن الكريم بالجِنّ عندما استمعوا إليه، قال الله تعالى على لسانهم: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ (الجنّ، 72: 1–2)،9 يعلّق الحارث المحاسبيّ على سلوكهم قائلًا: ”لقد نطقوا بالحكم عن فهمٍ بيِّن وعن عقول ذكيّة في استماع آياتٍ في مقام واحد، فدعَوا إلى إجابة الله عزّ وجلّ، وأمّلوا المغفرة والنجاة من العذاب الأليم.“10‬‫يتّصل مفهوم ”الأَجَل والآجَال“ بمفهوم الأمل كذلك، ويلاحظ القارئ ذلك في ما كتبه الحارث المحاسبيّ، ففي آداب النفوس يُسائل المريدُ شيخَه عن التيقُّظ والغفلة، فيُجيب الشيخ قائلًا: ”التيقُّظ: تقريب الأجل ومراقبة الموت، والفكر فيما يصير إليه العبد من بَعد الموت، ومِن هذا يُفتح لك باب العمل، فتَبْتَدِرُ إليه قبل أن يَبْتَدِرَ إليك الموت، وتستغنم كلَّ ساعة من حياتك قبل انقضاء الأجل.“11 وعندما سُئل الحارث عمّا يُقوّي على طلب التوبة إلى الله، قال: ”دوامُ عِلم القلب بقرب الأجل، وأخذ الموت بالكظم بغتةً، وخوف فوت المأمول من الله عزّ وجلّ، وخوف العقاب لمن قَدِم على الله مصرًّا على الذنب.“12‬‫يقول الحارث المحاسبيّ عند وصف حُسن تصرّف المطيعين لله في تعبّدهم، باتّخاذهم أنجع الوسائل المقرِّبة إلى مقصودهم:‬‫إنّ أهل طاعة الله قدّموا بين يدي الأعمال لطيفَ معرفة الأسباب التي بها يُستدعى صالح الأعمال، ويَسهل عليهم مأخذه توطينًا منهم لأنفسهم على استصحابه إلى انقضاء آجالهم فيصير مآلهم في الدنيا يومًا واحدًا وليلة، كلّما مضت استأنفوا النيّة، وطلبوا من أنفسهم حُسن الصحّة ليومهم وليلتهم، فكلّما مضى عنهم يومٌ تحسن منهم الصحبة له، أو ليلة راقبوا أنفسهم فيها على جميل الطاعة كان عندهم غُنمًا، وذكروا اليوم الماضي فسُرّوا به، وصبّروا أنفسهم عن المستقبل لانقضاء الأجل فيه.13‬3الأمل في الحديث‫حظي أحد الأحاديث النبويّة باهتمام بالغ نظرًا لما جاء فيه من إشارة وأسلوب تمثيل رائع، وهو حديث الأمل الذي صحّحه الأئمّة ورُوي في كتب السنن بروايات متعدّدة، ونذكر هنا رواية الإمام البخاريّ (ت ‫256‬/870)، وجاء فيها: ”خطَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطًّا مربّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطَطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطَط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نَهَشهُ هذا، وإن أخطأه هذا نَهَشهُ هذا.“14‬‫سيكون هذا الحديث وأمثاله سببًا لعقد باب للأمل في كتب الحديث، وسيحظى الموضوع بأهمّيّة في كتب الزهد الأولى، وينهض شاهدًا على ذلك ما قدّمه وكيع بن الجرّاح (ت ‫197‬/812) في كتابه الذي جمع فيه الأجل مع الأمل في باب، وأورد عددًا من المرويّات الحديثيّة مؤكِّدًا فكرةَ تَوْق الإنسان إلى أمله وتعدُّد رغائبه. وهذا التَّوْق هو أمر من اثنين كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما يخاف على أمّته منهما، فطول الأمل يُنسي الآخرة ويجعل صاحبه مقبلًا على الدنيا ناسيًا عمله الأبقى والأجدر به،15 يقول النبيّ (ص): ”يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان، الحرص وطول الأمل.“16 وقد فُسّرت الأماني بالآمال، فالكيّس من عَلِم أنّ قِصَر الأمل من أعظم السعادات، فطهّر قلبه من كلّ شيء واستعدّ لدار الحقّ، والغافل من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني.17‬4الأمل في الرواية الصوفيّة لحياة عيسى بن مريم‫قدّم الصوفيّة للمسيح صورةً مختلفة عمّا في الأناجيل، ففي الأناجيل يظهر المسيح شخصًا متحرّرًا واجتماعيًّا، شخصًا يأكل ويشرب ويحبّ الطيب وينصح باستعماله، ومُعاشرًا للنساء والعشّارين،18 أمّا في المدوّنة الإسلاميّة والصوفيّة فيظهر في صورة الزاهد الذي يُعرِض عن كلّ مباهج الحياة، وبخاصّة النساء، ويدعو حواريّيه إلى الابتعاد عن الدنيا لكسب الآخرة، وقَطْع آمالهم واغتنامِ آجالهم بأحسن الأعمال. وتلخّص المرويّة الآتية نموذجًا للصورة التي رُسمت لعيسى الزاهد:‬‫إنّ عيسى بن مريم كان يأكل الشعير، ويمشي على رجليه، ولا يركب الدوابّ، ولا يسكن البيوت، ولا يصطبح بالسراج، ولا يلبس الكراسف/يعني القطن، ولم يمسّ النساء، ولم يمسّ الطيب، ولم يمزج شرابه بشيء قطّ، ولم يبرّده، ولم يدهن رأسه قطّ، ولم يقرب رأسه ولحيته غسول قطّ، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئًا قطّ إلّا لباسه، ولم يهتمّ لغداء قطّ، ولا لعشاء قطّ، ولا يشتهي شيئًا من شهوات الدنيا، وكان يجالس الضعفاء والزمنى والمساكين، وكان إذا قُرّب إليه الطعام على شيء وضعه على الأرض، ولم يأكل مع الطعام إدامًا قطّ، وكان يجتزئ من الدنيا بالقوت القليل، ويقول : هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير [كذا].19‬‫وجد الصوفيّة في شخص المسيح مرجعيّة نبويّة تدعمهم في سلوكهم، ولحسن حظّ المتصوّفة فإنّ موادّ كثيرة تتحدّث عن زهد المسيح كانت متوفّرة بعض الشيء في كتب القرنين الثاني والثالث للهجرة،20 فالفقيه أحمد بن حنبل (ت ‫241‬/855) يورد أكثر من سبعين خبرًا يتعلّق بزهد المسيح في كتابه الزهد، ويورد أبو بكر بن أبي الدنيا (ت ‫281‬/894) عددًا كبيرًا من هذه الأخبار في كتبه المختلفة، وهي تتعلّق بالمسيح وحثّه أتباعه على السير في الدنيا سيرَ راحل لا يؤمّل شيئًا فيها.21 ويبدو أنّه بحلول القرن السادس للهجرة، أصبحت هذه الأخبار عن المسيح في الأدبيّات العربيّة ذات حجمٍ كبير نسبيًّا؛22 إذ نجد أنّ حجّة الإسلام الغزاليّ (ت ‫505‬/1111) يورد أكثر من مائة خبر عنه، أو على لسانه، في كتابه إحياء علوم الدين، وهي في أغلبها لم تكن مستوحاة من صورة المسيح الواردة في الأناجيل والقرآن، وإن تقاطع جزءٌ منها مع ما ورد في بعض الأناجيل. ونذكر روايةً من جملة تلك المرويّات كرّرها الغزاليّ كثيرًا في كتبه، وجاء فيها ما يحضّ على قِصَر الأمل:‬‫بينما عيسى عليه السلام جالس، وشيخٌ يعمل بمسحاة يثير بها الأرض، فقال عيسى: اللهمّ انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع، فلبث ساعة، فقال عيسى: اللّٰهمّ اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى عن ذلك، فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، ثمّ قالت لي نفسي: والله لا بدّ لك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي.23‬5الأمل موضوعًا للتأليف‫صنّف محمّد كمال جعفر أعمال ابن أبي الدنيا ضمن المدرسة الحديثيّة في الأخلاق، وهي من أوائل المدارس العلميّة الأخلاقيّة نشأةً (بدأت مع نهايات القرن الأوّل الهجريّ). استمدّت هذه المدرسة مادّتها العلميّة من الحديث النبويّ، فكان الواحد من علمائها يورد حديثًا نبويًّا عن مكرمةٍ من مكارم الأخلاق، ثمّ يُلحقه ببعض الحِكَم أو الأقوال أو الأشعار أو القصص لإظهار معنى المكرمة ومكانتها.24 أمّا نهج هذه المدرسة فيتّسم بالسلاسة والسّرد البسيط اللذين مكّناه من إيصال خطابه إلى قاعدة كبيرة من عامّة المسلمين. وتمتّع أهلُ هذه المدرسة بالموثوقيّة فكانت كتبهم، بسبب عنايتهم بضبط السَّنَد، مرجعًا حديثيًّا في موضوعها. كما عمدوا أحيانًا إلى ترتيب الأحاديث النبويّة في أبواب جعلتها تشبه معجمًا للقيم الإسلاميّة، وكلّ ذلك بمصطلحات إسلاميّة أصيلة.25‬‫تتمثّل في مؤلّفات ابن أبي الدنيا – وهو المحدِّث والمؤدِّب لأولاد الخلفاء –26 الخصائص التي ذكرناها، ومن جملة مؤلّفاته كتاب قِصَر الأمل، ولعلّه النصّ التراثيّ الوحيد الذي وصلنا في موضوع الأمل وأصبح أساسًا معتمدًا لتخصيص الصوفيّة بابًا في مؤلّفاتهم للحديث عنه،27 يظهر ذلك واضحًا في كتابات أبي حامد الغزاليّ ومن نحا نحوه.28 تضمّ رسالة قِصَر الأمل خمسة أقسام متّصلة، هي على الترتيب الآتي: قِصَر الأمل (23–84)؛ والمبادرة بالعمل (85–132)؛ وذمّ التسويف (133–153)؛ والبناء وما ذمّوا منه (155–159)؛ والبناء وذمّه (161–212)،29 ويختم محقّق الرسالة بالفهارس التي بلغت مائة ورقة (212–312). وقد جمع ابن أبي الدنيا في هذا العمل مادّةً غزيرة من الأحاديث والآثار والأشعار والخطب والمواعظ والمحاورات والحِكم، كما جمع قصصًا كثيرة عن الخلفاء والزهّاد والعلماء والصحابة والأعراب والعبّاد والنسوة المتعبّدات، وكان للمنامات نصيب من تلك المرويّات. ولا يعلّق على ذلك كلّه إلّا في القليل النادر، وذلك مثلًا عند إيراد نسبة شعر إلى قائله أو تصحيح رواية، كما لا يصدّر رسالته بمقدّمة تفصح عن غرض التأليف.‬‫نفهم من مرويّات القسم الأوّل من قِصَر الأمل أنّ ابن أبي الدنيا أَوْلى عنايته الأملَ بمفهومه السلبيّ الذي أشار إليه القرآن بقوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ (الحجر، 15: 3). فالزهد في الدنيا هو قِصَر الأمل، والزهد سبب النجاة في الآخرة، والآخرة مقدَّمة على الدنيا، فهي الأصل. لذا يجب على المؤمن، تبعًا لرؤية ابن أبي الدنيا، أن يكون غريبًا في الدنيا، كعابر سبيل، ويَعُدّ نفسه من أهل القبور. وبذا يصبح قِصَر الأمل علامة الإيمان واليقين، وعطيّة الرحمن لعباده المخلصين، ولو رأى المؤمن ما بقي من أَجَله لزهد في طول الأمل ولرغب في زيادة العمل. ومن هنا استعاذ الزهّاد والعبّاد الأوائل من أملٍ يمنع العمل، وعدّوا الأمل حمقًا وقلّة عقل، فيكف لإنسان أن يؤمّل في الدنيا والموت يطلبه؟ وكيف يؤمّل وهو يرى الفجائع تغشى الخلق في ساعات الليل والنهار؟ للدنيا أبناء وللدين أبناء، وعلى المسلم أن يكون من أبناء الدين، والدين في قِصَر الأمل، ومن طال أمله تسلّط الشيطان على قلبه وصار من الغافلين.30‬‫تبدو مرويّات ابن أبي الدنيا في كتابه خالصةً لتوجيه رسالة إلى الفقراء في عصره ألّا يلتفتوا إلى مظاهر الترف في الدنيا ويتوجّهوا بكلّيّتهم إلى الآخرة، لكنّه في سبيل ذلك غضّ الطرف عن كثير من المرويّات الإيجابيّة التي تحضّ على العمل، ومن ذلك ما قيل: ”لولا الأمل ما خاب العمل.“ وقد أورد الإمام أحمد (ت ‫241‬/855) في الزهد روايةً عن الحسن البصريّ (ت ‫110‬/728) أنّ آدم قبل أن يصيب الخطيئة كان أجله بين عينيه وأمله وراء ظهره، فلمّا أصاب الخطيئة جعل أمله بين عينيه وأجله وراء ظهره، والحكمة فيه أنّه حين أُهبط إلى دار لا يعمّرها هو وذرّيّته إلّا بالآمال، أُلقيت عليهم لتتمّ أعمالهم فيستقيم معاشهم. ورُوي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: ”إنّما الأمل رحمة من الله لأمّتي، لولا الأمل ما أرضعت أمٌّ ولدًا ولا غرس غارسٌ شجرة.“31 وإن رأى ابن أبي الدنيا في مرويّاته ما يحضّ على ذمّ الأمل، فهناك من علماء الحديث من رأى أنّ ”الأمل سرٌّ لطيف“32 لأنّه لولا الأمل ما تهنّأ أحدٌ بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنّما المذموم منه الاسترسال فيه.‬6الأمل والرجاء مقامان صوفيّان‫قد يتلخّص سلوك التصوّف في السَّيْر القلبيّ المُوازِن بين الخوف والرجاء، فهما حالان متلازمان ومتكاملان، وينبغي عدم تغليب أحدهما على الآخر، حتّى لا يحصل للسالك يأسٌ ولا غرور، والصوفيّة يشبّهونهما بجناحَي الطائر الذي لا يمكنه الطيران إلّا بهما. وكثيرًا ما يقرن الحارث المحاسبيّ بينهما، ومن أمثلة ذلك أنّه في سياق جواب المريد السائل عمّا ينبغي له البدء به في الطريق، يقول له:‬‫أوّل ما يلزمك في صلاح نفسك الذي لا صلاح لها في غيره، وهو أوّل الرعاية، أن تعلم أنّها مربوبة متعبَّدة، فإذا علمتَ ذلك علمتَ أنّه لا نجاة للمربوب المتعبَّد إلّا بطاعة ربّه ومولاه، لأنّ الطاعة سبيل النجاة، والعلم هو الدليل على السبيل، فأصل الطاعة الورع، وأصل الورع التقوى، وأصل التقوى محاسبة النفس، وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء.33‬‫ويبيّن الحارث المحاسبيّ في سياق آخر للمريد أنّ الخوف والرجاء هما تمام الإيقان الذي به يتمّ الإيمان، ويصف له حال كلٍّ من الراجي والخائف، وعندما يسأله المريد بمَ تُنال به تلك الأحوال، يقول: ”لا يُنال ما وصفته إلّا بالصبر،“ ولمّا سأله ثانيةً عن خير ما يحقّق الصبر، ”قال: الزهد، والزاهد في الدنيا في حصنٍ حَصين شامخ، قد جمعَ له الزهدُ خيرَ الدنيا مع رجائه خيرًا لآخره.“34‬‫ويسأل المريد شيخه عمّا يغلب على قلوب العارفين، فيجيبه بأنّها ”أشياء كثيرة، منها: دوام الخوف والرجاء،“ فيعود ليسأله عمّا إذا كانت بسكون أو اضطراب، فيقول الشيخ: ”لهذه الحالات يا فتى هياجٌ في حركاتها، وسكون في وطناتها، واستعمال في خلواتها، ووجود في غدواتها، ومسير في مناهلها، وفوائد في زائدها، وفطنة في بصائرها ونفاذ وَهْمٍ في استدراك مرادها.“35 يحذّر الحارث المحاسبيّ، في المحاورة التي يجريها بين المريد والشيخ، المريدَ من الخلط بين الرجاء والاغترار، خلطًا قد يجرّ صاحبَه إلى التمادي في المعاصي، فيواجه المريد شيخه بما هو مقرّر من بَسْطِ الرجاء للموحِّدين وتحريمِ اليأس عليهم، فيوضّح له الحارث المحاسبيّ ذلك بقوله:‬‫أجل، وليس هذا موضعه الذي وُضع فيه، ولكنّه موضع خوف من الله، وقد يكون العبد عاصيًا مغترًّا، فإن عارضه القنوط قمعه بالرجاء، من أجل التوحيد، فقمَع به القنوط الذي هو معصية لمولاه، لئلّا يجمع معصية وقنوطًا فيكونا ذنبين، فإنْ طَيَّبَ بعد ذلك نفسه بذكر الرجاء فجَرَّأَه على المُقام على معاصي الله عزّ وجلّ، فقد اغترّ بالله عزّ وجلّ، لأنّ الله جعل الرجاء مُزيلًا للقنوط الذي يمنع من التوبة والعمل، باعثًا على الطاعة والقربة إليه، وجعل الخوف مانعًا من الأمن والاغترار، مُزيلًا عن الإقامة على الذنوب، مانعًا لمواقعتها عند الهمّ بها.36‬‫ويُفرّق الحارث بين الاغترار بالله والرجاء فيه، إذ يختلط الأمر على المغترّ فيظنّ أنّه راجٍ، والأمر ليس كذلك. وممّا يقوله في هذا السياق: ”فالمغترّ بذكر الرجاء يظنّ أنّ الغِرّة منه رجاء، فيقيم على معاصي الله عزّ وجلّ، ويظنّ ذلك حسن الظنّ منه، وليس ذلك بحسن ظنّ، فالرجاء هو ما هاج من الطمع والأمل في الله عزّ وجلّ، فسخّى نفس العاصي بالتوبة، وحال بينه وبين القنوط، وبعث العبدَ على الطاعة لله عزّ وجلّ، والتشمير والاجتهاد، رجاءَ ما وعد العاملين.“37‬‫ويُسائل المريد شيخه عن الخوف وما يوصّل إليه، والوسيلة التي ينال بها ذلك، وعندما يبيّن له الشيخ أنّ ذلك يكون بـ”تعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد،“ يسأل المريد مرّة أخرى ”بِمَ يُنال ذلك؟“ فيدلّه الشيخ على وسائل التيقّن من معرفة الموضوع الذي يجب الخوف منه؛ إذ هو غائب عن الأبصار، ويصف له الوسائل قائلًا: ”بالذكر والفكر في العاقبة، لأنّ الله عزّ وجل قد علم أنّ هذا العبد إذا غُيّب عنه ما قد خوّفه ورجّاه لن يخاف ولم يَرجُ إلّا بالذكر والفكر، لأنّ الغيب لا يُرى بالعين، وإنما يُرى بالقلب في حقائق اليقين، فإذا احتجب العبد بالغفلة عن الآخرة، واحتجب عنها بأشغال الدنيا لم يخف ولم يَرجُ إلّا رجاء الإقرار وخوفَه.“38‬‫ويسأل المريد من جديد قائلًا: ”فالرجاء والخوف على العمل أن يكون عمله لله أو لغير الله عزّ وجلّ إذن يستويان، فأمله في الله عزّ وجلّ ضعيف، فكيف ينعم بطاعته لله عزّ وجلّ ويجد حلاوتها؟“ فكان جواب الشيخ:‬‫بل الأمل والرجاء أغلب وأكثر، لأنّه قد استيقن أنّه قد دخله بالإخلاص لله وحده، ولم يستيقن أنّه راءى بشيء منه، فالإخلاص عنده يقين، والرياء هو منه في شكّ، فخوفه إن كان قد خالطه رياء، كان ذلك الخوف ممّا يرجو به أن يصفيه الله له، لإشفاقه على ما لا يعلم فيه، وكلّما أشفق ازداد نعيمًا بالطاعة وأملًا في الله عزّ وجلّ، إذا أيقن أنّه دخله بالإخلاص وختمه بالإشفاق والوجل من علم الله عزّ وجلّ، فبذلك يعظم رجاؤه وأمله ويتنعّم بطاعة ربّه.39‬‫ولكون الموازنة بين الخوف والرجاء أساس السَّيْر القلبيّ، يرى الحارث المحاسبيّ أنّ تحقُّق السلوك من دون الوقوع في القنوط أو العُجب يكون بالجمع بين الخوف والرجاء جمعًا يوافق الأمر والنهي حتّى يصل إلى الأدب مع الله، فيقول: ”فمن وضع الخوف حيث وضعه الله عزّ وجلّ، والرجاء حيث وضعه، فلم يقنط ولم يغترّ، فقد تأدّب بأدب الله تعالى.“40‬‫وتأسيسًا لعِلم الأحوال والمقامات العمليّ القلبيّ، يوضّح المحاسبيّ ما يتولّد عن حُسن الظنّ بالله وشكره من ثمار فيقول:‬‫فدَأَبَ [السالك] في الشكر رجاء المزيد، فزاده الله به أُنسًا وسرورًا بحسن الظنّ به، فبعث أصول الخوف والرجاء إلى قلبه، فكانا قائديه إلى الله تعالى، وصارا عِلمين في قلبه، إنْ عارضته غِرَّةٌ أهاج الإشفاقَ على الخوف، فخاف عواقب الآخرة، وإن عارضته فَترة أهاج الرجاء فنَفَى فترَتَه، وإن عارضه إياس أهاج حُسنَ الظنّ بالله والرجاء فقَمَعَه.41‬‫بالأمل والرجاء يتحقّق للسالك الإمداد، ويُقبل الله بلطفه عليه فيكون له كلّ ما أراد، ومن هنا، يُرشد الحارث مُريدَه الذي سأله عن كيفيّة تدبّر القرآن، قائلًا: ”فإذا أحضرتَ عقلك بجَمْع همّك بِنيّةٍ صادقة مع أمل ورجاء أن تنال ما قال، وتُسارعَ إلى مَحابِّه وتجتنب مَساخطه، وتُريده وحده ولا تريد أن تَفهم منه ما تتصنّع به عند العباد، فإذا نظر الله عزّ وجلّ إليك وأنت كذلك وعَلِمَ ذلك من ضميرك، أقبلَ بلطفه ووَلِيَ تقويم عقلك بفهم كلامه، فيُوضح الله لك به البرهان ويمدّك بالفوائد، ويُجلّي عنك ظُلَمَ الشُّبَه.“42‬‫تمثّل الحارث المحاسبيّ بما أرشد به مريده، فالنُّصح أوّلًا منه وإليه، فتوجّه إلى ربّه بالشكوى والرجاء، مُتوسّلًا إليه أن يصلح عيوبه ويُلحقه بأوليائه:‬‫أنا المغموم لِما مضى من إعراضٍ عنك، وممّا يكسر فؤادي ويقرح قلبي نظري إلى عُمّالك يتقلّبون في كرامتك، فأَلحِقْ عُبَيْدَك الفقير المحتاج بعُمّالك الأقوياء، فقل للخوف والوجَل والرهَب والشفَق أن تلزم قلبي، وللحبّ لك أن يعلو على جميع همّي، ولجوارحي بأن تدأبَ مسارِعة، ولِهواي وشهواتي أن تموت خاشعةً، حتّى تُذيقني الفرح بنعيم الطاعات، واصلًا بنعيم الأبد في جِوارك والنظر إلى جَمالك.43‬7الرجاء والأمل إرادةٌ ومعارضة‫أشار أحد الصوفيّة في القرن الثامن الهجريّ44 إلى أنّ الناس في شأن التصوّف ثلاثة ”واحدٌ يسير بين الخوف والرجاء شاخصًا إلى الحبّ مع صحبة الحياء، وهذا الذي يُسمّى المريد، ورجلٌ مختطفٌ من وادي التفرقة إلى وادي الجمع، وهو الذي يُقال له المُراد، ومن سواهما مدّعٍ مفتونٌ مخدوع.“45 وتقفُنا هذه الإشارة على فهم كيفيّة وضع الهرويّ الأنصاريّ الرجاء ضمن الأبواب الأولى من كتابه منازل السائرين،46 فقد قسم الأنصاريّ كتابه إلى عشرة أقسام، كلّ قسمٍ يضمّ عشرة أبواب. أودع في الستّة الأولى برنامجًا متكاملًا لتزكية المريد، وخصّص الأربعة الباقية للأحوال والولايات والحقائق والنهايات، وهي عطايا للسائر ومِنَح، وليست من جنس أعمال التزكية.47‬‫عدّ الهرويّ الرجاء أضعف منازل المريد؛ إذ رأى فيه معارضةً واعتراضًا، بل هو وقوع في الرعونة في مذهبه، وإن أشار إلى أنّ هذا هو رأي الطائفة (الصوفيّة). ولم يرَ فيه سوى فائدة واحدة احترازًا منه لإشارة القرآن والسُّنّة إلى فوائد الرجاء، وهي تبريد حرارة الخوف حتّى لا يعدو المريد إلى اليأس. والرجاء على ثلاث درجات، الدرجة الأولى رجاءٌ يبعث العامل على الاجتهاد ويولّد التلذُّذ بالخدمة ويوقظ لسماحة الطباع بترك المناهي، والدرجة الثانية رجاءُ أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفًا تصفو فيه هِمَمهم برفض الملذوذات ولزوم شروط العلم واستقصاء حدود الحميّة، والدرجة الثالثة رجاءُ أرباب طيب القلوب وهو رجاءُ لقاء الحقّ عزّ وجلّ.48‬‫يعلّق عفيف الدين التلمسانيّ (ت ‫690‬/1291) شارحًا وجه الاعتراض والمعارضة من العبد إذا رجا قائلًا: ”من تعلّق قلبه بالرجاء فكأنّه عارض الحقّ تعالى، حيث تعلّق بما يعارض المالك في ملكه، وكان الأليق به أن يرضى بحكمه، ويسلّم إليه في ملكه، ويكون راجعًا إلى مراد سيّده لا إلى مراده.“49 أمّا وجه الرعونة في الرجاء فهو الوقوف مع حظّ النفس من جهة أنّ الرجاء متعلّق بالراحات، وهذه الطائفة أوّل طريقها الخروج عن النفس فضلًا عن شهواتها.50 سيكرّر شرّاح المنازل ما قاله التلمسانيّ ويغضّ كثيرٌ منهم الطرف عن رؤية الهرويّ السلبيّة للرجاء، ويكتفي بعضهم بذكر جملة مختصرة من فوائد الرجاء،51 كتقوية الداعي الباعث على المعاملة، وحسن الظنّ بالله، وربط القلب بالاسم المحسن،52 دونما تعليق على درجات الرجاء الثلاث والتي تتعارض مع كَوْن الرجاء وقوعًا في الرعونة.53‬‫لعلّ موقف الهرويّ متّسق مع رؤيته لآمال الناس وطموحاتهم، فقد أرجع في أعماله الشعريّة معاناة الناس إلى أسباب ثلاثة، يطلبون قبل الأوان، ويريدون أكثر ممّا قُسم لهم، ويرجون ما لدى الآخرين.54 فإن كان الإنسان راضيًا بعطاء ربّه، فلماذا ينازع؟ وينصح الهرويّ مريديه بالرضا والقناعة بما هم فيه والسعادة به، فما هي إلّا أيّام ويأتي المستقبل وتكون ماضيًا. ورغم موقف الهرويّ الواضح من الرجاء في منازله وشعره إلّا أنّنا نظفر بنصّ من رباعيّاته يبيّن فيه أهمّيّة الأمل والرجاء في حياة المريد، بل يعدّهما أصلًا من أصول الإيمان، فأصول الإيمان أربعة: الأوّل الخوف؛ والثاني الرجاء؛ والثالث الحبّ؛ والرابع اليقين. إن لم يكن الخوف كان عدم الخشوع لله، وعدم الخشوع لله كفر، وإن لم يكن الرجاء كان اليأس، واليأس من رحمة الله كفر.55‬8خاتمة‫حاول المقال أن يلقي الضوء على حضور مفهوم الأمل في التصوّف المبكّر، راصدًا كيفيّة قراءة الصوفيّة الأوائل لمفهوم الأمل في اللغة والقرآن والحديث النبويّ، وقد اتّضح لنا عن طريق تتبُّع المفهوم في أدبيّات التصوّف تطوّرَه وثراءه. وقد أظهرت أعمال الحارث المحاسبيّ مركزيّة الأمل في التجربة الروحيّة، وحضورَه في منهجه التربويّ للمريد السالك، ومكانتَه الراسخة بين مقامات التصوّف. كما أبان كتاب قِصَر الأمل لابن أبي الدنيا عن كيفيّة استثمار العلماء للحديث النبويّ والاستفادة منه في تأصيل علم مكارم الأخلاق، وأظهر لنا استقلال باب الأمل في المصنّفات الحديثيّة. ورأينا كيف استمرّ حضور الأمل في باب المقامات والأحوال والمنازل في المدوّنات الصوفيّة باستشهادنا بكتاب الأنصاريّ الهرويّ منازل السائرين وشروحاته، فأوقفتنا قراءته على رؤية تتّسق مع النهج الصوفيّ في التعلّق بالباقي وقطع الرجاء والأمل في كلّ فانٍ. يبقى أنّ الإشارة التي التقطناها من شعر الهرويّ تعبّر عن وجه آخر للحديث عن الأمل، وتحفّز على متابعة بحث موضوع الأمل في الشعر الصوفيّ.‬ http://www.deepdyve.com/assets/images/DeepDyve-Logo-lg.png Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya Brill

الأمل في التراث الصوفيّ

Loading next page...
 
/lp/brill/D3SovXPkNR
Publisher
Brill
Copyright
Copyright © Koninklijke Brill NV, Leiden, The Netherlands
ISSN
2772-8242
eISSN
2772-8250
DOI
10.1163/27728250-12340021
Publisher site
See Article on Publisher Site

Abstract

‫﴿وَالضُّحَىٰ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾ (الضحى، 93: 1–5)‬…‫”من قال إنّ شمسَ الأملِ تموت؟ ذاك عدوّ الشمس، علا السطحَ ووضعَ عصابةً على عينيه، وقال: الشمس تموت.“ جلال الدين الروميّ (ت ‫672‬/1273)1‬∵1فاتحة‫عرَّف أحد المتصوّفة الأوائل التصوّف بأنّه ”فَقْد الأمل ومداومة العمل وكثرة الوجل،“2 وتابعه كثيرون من أهل الطريق الصوفيّ حتّى صار ”قِصَر الأمل“ خُلُقًا وسلوكًا يجب على المريد أن يتحلّى به وإلّا لابس يقينَه شكٌّ وتوكّلَه رُكون. وأمسى طول الأمل آفةً مهلكة حاول مشايخ الصوفيّة عبر القصص والأشعار أن يدرّبوا المريدين على التخلّي عنها، ومن ذلك ما قاله السريّ السقطيّ (ت ‫251‬/865): ”حسن الأدب ترجمان العقل،“3 ومن آدابهم تقريبهم الأجل وتقصيرهم الأمل. وحُكي عن بعضهم أنّه قال لأصحابه لمّا قدّموه في الصلاة: ”إن تقدّمتُ وصلّيت بكم هذه الصلاة لم أصلّ بكم صلاة أخرى،“ فقال له معروف الكرخيّ (ت ‫200‬/815): ”وأنت تحدّث نفسك أنّك تبلغ صلاةً أخرى! نعوذ بالله من طول الأمل، فإنّه يمنع خير العمل.“ ولم يصلّ خلفه.4‬‫استند المتصوّفة في ترسيخ هذا الخُلُق إلى أحاديث نبويّة شريفة تحضّ على عيش المرء مفارِقًا وغريبًا في رحلة الدنيا المؤقّتة، ونُظمت الأشعار ودُبّجت القصص في هذا الغرض، حتّى أضحى مفهوم الأمل مفهومًا مركزيًّا وأساسًا من أسس البناء الصوفيّ، ارتبط بالمشاعر (حزنًا وفرحًا ويأسًا ورجاءً)، كما ارتبط بالخلاص (نجاةً وهلاكًا). يحاول المقال أن يتتبّع مفهوم الأمل عند الصوفيّة، وكيف اتّصل بالمقامات والأحوال، وكيف أثرى المعجم الصوفيّ. ويستند المقال بصفة خاصّة إلى أعمال الحارث المحاسبيّ (ت ‫243‬/857) نظرًا لتقدّمه وكثرة تلاميذه وأقرانه ومعاصريه من الصوفيّة الأوائل الذين اعتمدوا عليه، فمن الذين أثبت أبو عبد الرحمن السلميّ (ت ‫412‬/1021) صحبتهم للمحاسبيّ أبو العبّاس بن مسروق (ت 298–‫299‬/910–911)، ومحمّد بن أبي الورد (ت ‫262‬/875)، وممّن ذكرهم القشيريّ (ت ‫456‬/1072) أحمد بن عاصم الأنطاكيّ (ت ‫220‬/835)، وأبو القاسم الجنيد (ت‫297‬/910)، على أنّ كلّ من وصفهم صاحب الرسالة بأنّهم من أقران الجنيد كان أغلبهم من تلامذة المحاسبيّ، بناءً على ما اتُّفق عليه بأنّه كان ”أستاذ أكثر البغداديّين.“5 ومن هنا، كان اختيارنا لنموذج المحاسبيّ لإظهار تطوّر المصطلح في كتاباته، ثمّ اختيار الهرويّ الأنصاريّ (ت ‫481‬/1089) نظرًا لمكانة عمله منازل السائرين في دراسة المقامات والأحوال. ولمّا كانت شخصيّة المسيح حاضرةً في التصوّف الإسلاميّ حضورًا بارزًا، حاول المقال أن يسلّط الضوء على رؤيته للأمل. وتجدر الإشارة إلى أنّ موضوع الأمل في التراث الصوفيّ لم تُفرَد له دراسات عربيّة بعد، وما راجعته من كتابات استشراقيّة لم يدرس الأمل وحده بل تناول معه العديد من المقامات والأحوال الصوفيّة، ولعلّ هذه الإضاءة التي يقدّمها المقال تساهم في لفت نظر الباحثين والمهتمّين إلى أهمّيّة الموضوع.‬2الأمل في اللغة والقرآن‫الأَمَلُ والأَمْلُ والإِمْلُ: الرجاء، والجمع: الآمال؛ والفعل منه: أَمَلَ الشيءَ يأْمُلُه، وأَمَّلَه تأميلًا؛ والتأَمُّلُ: النظر بتحديق والتثبُّت في الأمر.6 وقد ورد هذا اللفظ بالمعنى اللغويّ، وهو الرجاء في المستقبل، في موضعين في القرآن، أحدهما إيجابيّ، والثاني سلبيّ: الأوّل في قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ (الكهف، 18: 46) فمن ”كان باطنه مزيّنًا بأنوار المعرفة، وظاهره مزيّنًا بآداب الخدمة وضياء المحبّة ولمعان الشوق وشرف الهمّة وعلوّ النفس، فيُغلّب زينة باطنه زينة الحياة شوقًا منه إلى ربّه، ويُغلّب زينة ظاهره زينة الدنيا لأنّ زينته أزين، من فعل ذلك نجا من الانشغال بزينة الدنيا وأُقيم في الباقيات الصالحات، وهي الأعمال الخالصة والنيّة الصادقة وكلّ ما أريد به وجه الله وهذا خير الأمل“؛7 والموضع الثاني في قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ (الحجر، 15: 3)، ويقول بعض الصوفيّة في هذه الآية موصيًا مريده ”من شغلته تربية نفسه، وطلب مرادها، والتمتّع بهذه الفانية عن الإقبال علينا، فأَعْرِض عنهم، ولا تُقبل عليهم، وذرْهم وما هم فيه، فلن يصل إلينا إلّا من كان لنا ولم يكن لسوانا عنده قدرٌ ولا خطر.“8 وقد قسّم المتصوّفة رتب الانشغال بالدنيا إلى رتبتين، فالتزيّن بها من أخلاق المنافقين، والتمتّع المذكور في الآية هنا من أخلاق الكافرين.‬‫وممّا يتّصل بمعنى الأمل الإيجابيّ التَّأْمِيل؛ إذ يُضرب المثل في تدَبُّر القرآن الكريم بالجِنّ عندما استمعوا إليه، قال الله تعالى على لسانهم: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ (الجنّ، 72: 1–2)،9 يعلّق الحارث المحاسبيّ على سلوكهم قائلًا: ”لقد نطقوا بالحكم عن فهمٍ بيِّن وعن عقول ذكيّة في استماع آياتٍ في مقام واحد، فدعَوا إلى إجابة الله عزّ وجلّ، وأمّلوا المغفرة والنجاة من العذاب الأليم.“10‬‫يتّصل مفهوم ”الأَجَل والآجَال“ بمفهوم الأمل كذلك، ويلاحظ القارئ ذلك في ما كتبه الحارث المحاسبيّ، ففي آداب النفوس يُسائل المريدُ شيخَه عن التيقُّظ والغفلة، فيُجيب الشيخ قائلًا: ”التيقُّظ: تقريب الأجل ومراقبة الموت، والفكر فيما يصير إليه العبد من بَعد الموت، ومِن هذا يُفتح لك باب العمل، فتَبْتَدِرُ إليه قبل أن يَبْتَدِرَ إليك الموت، وتستغنم كلَّ ساعة من حياتك قبل انقضاء الأجل.“11 وعندما سُئل الحارث عمّا يُقوّي على طلب التوبة إلى الله، قال: ”دوامُ عِلم القلب بقرب الأجل، وأخذ الموت بالكظم بغتةً، وخوف فوت المأمول من الله عزّ وجلّ، وخوف العقاب لمن قَدِم على الله مصرًّا على الذنب.“12‬‫يقول الحارث المحاسبيّ عند وصف حُسن تصرّف المطيعين لله في تعبّدهم، باتّخاذهم أنجع الوسائل المقرِّبة إلى مقصودهم:‬‫إنّ أهل طاعة الله قدّموا بين يدي الأعمال لطيفَ معرفة الأسباب التي بها يُستدعى صالح الأعمال، ويَسهل عليهم مأخذه توطينًا منهم لأنفسهم على استصحابه إلى انقضاء آجالهم فيصير مآلهم في الدنيا يومًا واحدًا وليلة، كلّما مضت استأنفوا النيّة، وطلبوا من أنفسهم حُسن الصحّة ليومهم وليلتهم، فكلّما مضى عنهم يومٌ تحسن منهم الصحبة له، أو ليلة راقبوا أنفسهم فيها على جميل الطاعة كان عندهم غُنمًا، وذكروا اليوم الماضي فسُرّوا به، وصبّروا أنفسهم عن المستقبل لانقضاء الأجل فيه.13‬3الأمل في الحديث‫حظي أحد الأحاديث النبويّة باهتمام بالغ نظرًا لما جاء فيه من إشارة وأسلوب تمثيل رائع، وهو حديث الأمل الذي صحّحه الأئمّة ورُوي في كتب السنن بروايات متعدّدة، ونذكر هنا رواية الإمام البخاريّ (ت ‫256‬/870)، وجاء فيها: ”خطَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطًّا مربّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطَطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به، أو: قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطَط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نَهَشهُ هذا، وإن أخطأه هذا نَهَشهُ هذا.“14‬‫سيكون هذا الحديث وأمثاله سببًا لعقد باب للأمل في كتب الحديث، وسيحظى الموضوع بأهمّيّة في كتب الزهد الأولى، وينهض شاهدًا على ذلك ما قدّمه وكيع بن الجرّاح (ت ‫197‬/812) في كتابه الذي جمع فيه الأجل مع الأمل في باب، وأورد عددًا من المرويّات الحديثيّة مؤكِّدًا فكرةَ تَوْق الإنسان إلى أمله وتعدُّد رغائبه. وهذا التَّوْق هو أمر من اثنين كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما يخاف على أمّته منهما، فطول الأمل يُنسي الآخرة ويجعل صاحبه مقبلًا على الدنيا ناسيًا عمله الأبقى والأجدر به،15 يقول النبيّ (ص): ”يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان، الحرص وطول الأمل.“16 وقد فُسّرت الأماني بالآمال، فالكيّس من عَلِم أنّ قِصَر الأمل من أعظم السعادات، فطهّر قلبه من كلّ شيء واستعدّ لدار الحقّ، والغافل من اتّبع هواه وتمنّى على الله الأماني.17‬4الأمل في الرواية الصوفيّة لحياة عيسى بن مريم‫قدّم الصوفيّة للمسيح صورةً مختلفة عمّا في الأناجيل، ففي الأناجيل يظهر المسيح شخصًا متحرّرًا واجتماعيًّا، شخصًا يأكل ويشرب ويحبّ الطيب وينصح باستعماله، ومُعاشرًا للنساء والعشّارين،18 أمّا في المدوّنة الإسلاميّة والصوفيّة فيظهر في صورة الزاهد الذي يُعرِض عن كلّ مباهج الحياة، وبخاصّة النساء، ويدعو حواريّيه إلى الابتعاد عن الدنيا لكسب الآخرة، وقَطْع آمالهم واغتنامِ آجالهم بأحسن الأعمال. وتلخّص المرويّة الآتية نموذجًا للصورة التي رُسمت لعيسى الزاهد:‬‫إنّ عيسى بن مريم كان يأكل الشعير، ويمشي على رجليه، ولا يركب الدوابّ، ولا يسكن البيوت، ولا يصطبح بالسراج، ولا يلبس الكراسف/يعني القطن، ولم يمسّ النساء، ولم يمسّ الطيب، ولم يمزج شرابه بشيء قطّ، ولم يبرّده، ولم يدهن رأسه قطّ، ولم يقرب رأسه ولحيته غسول قطّ، ولم يجعل بين الأرض وبين جلده شيئًا قطّ إلّا لباسه، ولم يهتمّ لغداء قطّ، ولا لعشاء قطّ، ولا يشتهي شيئًا من شهوات الدنيا، وكان يجالس الضعفاء والزمنى والمساكين، وكان إذا قُرّب إليه الطعام على شيء وضعه على الأرض، ولم يأكل مع الطعام إدامًا قطّ، وكان يجتزئ من الدنيا بالقوت القليل، ويقول : هذا لمن يموت ويحاسب عليه كثير [كذا].19‬‫وجد الصوفيّة في شخص المسيح مرجعيّة نبويّة تدعمهم في سلوكهم، ولحسن حظّ المتصوّفة فإنّ موادّ كثيرة تتحدّث عن زهد المسيح كانت متوفّرة بعض الشيء في كتب القرنين الثاني والثالث للهجرة،20 فالفقيه أحمد بن حنبل (ت ‫241‬/855) يورد أكثر من سبعين خبرًا يتعلّق بزهد المسيح في كتابه الزهد، ويورد أبو بكر بن أبي الدنيا (ت ‫281‬/894) عددًا كبيرًا من هذه الأخبار في كتبه المختلفة، وهي تتعلّق بالمسيح وحثّه أتباعه على السير في الدنيا سيرَ راحل لا يؤمّل شيئًا فيها.21 ويبدو أنّه بحلول القرن السادس للهجرة، أصبحت هذه الأخبار عن المسيح في الأدبيّات العربيّة ذات حجمٍ كبير نسبيًّا؛22 إذ نجد أنّ حجّة الإسلام الغزاليّ (ت ‫505‬/1111) يورد أكثر من مائة خبر عنه، أو على لسانه، في كتابه إحياء علوم الدين، وهي في أغلبها لم تكن مستوحاة من صورة المسيح الواردة في الأناجيل والقرآن، وإن تقاطع جزءٌ منها مع ما ورد في بعض الأناجيل. ونذكر روايةً من جملة تلك المرويّات كرّرها الغزاليّ كثيرًا في كتبه، وجاء فيها ما يحضّ على قِصَر الأمل:‬‫بينما عيسى عليه السلام جالس، وشيخٌ يعمل بمسحاة يثير بها الأرض، فقال عيسى: اللهمّ انزع منه الأمل، فوضع الشيخ المسحاة واضطجع، فلبث ساعة، فقال عيسى: اللّٰهمّ اردد إليه الأمل، فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى عن ذلك، فقال: بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير؟ فألقيت المسحاة واضطجعت، ثمّ قالت لي نفسي: والله لا بدّ لك من عيش ما بقيت، فقمت إلى مسحاتي.23‬5الأمل موضوعًا للتأليف‫صنّف محمّد كمال جعفر أعمال ابن أبي الدنيا ضمن المدرسة الحديثيّة في الأخلاق، وهي من أوائل المدارس العلميّة الأخلاقيّة نشأةً (بدأت مع نهايات القرن الأوّل الهجريّ). استمدّت هذه المدرسة مادّتها العلميّة من الحديث النبويّ، فكان الواحد من علمائها يورد حديثًا نبويًّا عن مكرمةٍ من مكارم الأخلاق، ثمّ يُلحقه ببعض الحِكَم أو الأقوال أو الأشعار أو القصص لإظهار معنى المكرمة ومكانتها.24 أمّا نهج هذه المدرسة فيتّسم بالسلاسة والسّرد البسيط اللذين مكّناه من إيصال خطابه إلى قاعدة كبيرة من عامّة المسلمين. وتمتّع أهلُ هذه المدرسة بالموثوقيّة فكانت كتبهم، بسبب عنايتهم بضبط السَّنَد، مرجعًا حديثيًّا في موضوعها. كما عمدوا أحيانًا إلى ترتيب الأحاديث النبويّة في أبواب جعلتها تشبه معجمًا للقيم الإسلاميّة، وكلّ ذلك بمصطلحات إسلاميّة أصيلة.25‬‫تتمثّل في مؤلّفات ابن أبي الدنيا – وهو المحدِّث والمؤدِّب لأولاد الخلفاء –26 الخصائص التي ذكرناها، ومن جملة مؤلّفاته كتاب قِصَر الأمل، ولعلّه النصّ التراثيّ الوحيد الذي وصلنا في موضوع الأمل وأصبح أساسًا معتمدًا لتخصيص الصوفيّة بابًا في مؤلّفاتهم للحديث عنه،27 يظهر ذلك واضحًا في كتابات أبي حامد الغزاليّ ومن نحا نحوه.28 تضمّ رسالة قِصَر الأمل خمسة أقسام متّصلة، هي على الترتيب الآتي: قِصَر الأمل (23–84)؛ والمبادرة بالعمل (85–132)؛ وذمّ التسويف (133–153)؛ والبناء وما ذمّوا منه (155–159)؛ والبناء وذمّه (161–212)،29 ويختم محقّق الرسالة بالفهارس التي بلغت مائة ورقة (212–312). وقد جمع ابن أبي الدنيا في هذا العمل مادّةً غزيرة من الأحاديث والآثار والأشعار والخطب والمواعظ والمحاورات والحِكم، كما جمع قصصًا كثيرة عن الخلفاء والزهّاد والعلماء والصحابة والأعراب والعبّاد والنسوة المتعبّدات، وكان للمنامات نصيب من تلك المرويّات. ولا يعلّق على ذلك كلّه إلّا في القليل النادر، وذلك مثلًا عند إيراد نسبة شعر إلى قائله أو تصحيح رواية، كما لا يصدّر رسالته بمقدّمة تفصح عن غرض التأليف.‬‫نفهم من مرويّات القسم الأوّل من قِصَر الأمل أنّ ابن أبي الدنيا أَوْلى عنايته الأملَ بمفهومه السلبيّ الذي أشار إليه القرآن بقوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ﴾ (الحجر، 15: 3). فالزهد في الدنيا هو قِصَر الأمل، والزهد سبب النجاة في الآخرة، والآخرة مقدَّمة على الدنيا، فهي الأصل. لذا يجب على المؤمن، تبعًا لرؤية ابن أبي الدنيا، أن يكون غريبًا في الدنيا، كعابر سبيل، ويَعُدّ نفسه من أهل القبور. وبذا يصبح قِصَر الأمل علامة الإيمان واليقين، وعطيّة الرحمن لعباده المخلصين، ولو رأى المؤمن ما بقي من أَجَله لزهد في طول الأمل ولرغب في زيادة العمل. ومن هنا استعاذ الزهّاد والعبّاد الأوائل من أملٍ يمنع العمل، وعدّوا الأمل حمقًا وقلّة عقل، فيكف لإنسان أن يؤمّل في الدنيا والموت يطلبه؟ وكيف يؤمّل وهو يرى الفجائع تغشى الخلق في ساعات الليل والنهار؟ للدنيا أبناء وللدين أبناء، وعلى المسلم أن يكون من أبناء الدين، والدين في قِصَر الأمل، ومن طال أمله تسلّط الشيطان على قلبه وصار من الغافلين.30‬‫تبدو مرويّات ابن أبي الدنيا في كتابه خالصةً لتوجيه رسالة إلى الفقراء في عصره ألّا يلتفتوا إلى مظاهر الترف في الدنيا ويتوجّهوا بكلّيّتهم إلى الآخرة، لكنّه في سبيل ذلك غضّ الطرف عن كثير من المرويّات الإيجابيّة التي تحضّ على العمل، ومن ذلك ما قيل: ”لولا الأمل ما خاب العمل.“ وقد أورد الإمام أحمد (ت ‫241‬/855) في الزهد روايةً عن الحسن البصريّ (ت ‫110‬/728) أنّ آدم قبل أن يصيب الخطيئة كان أجله بين عينيه وأمله وراء ظهره، فلمّا أصاب الخطيئة جعل أمله بين عينيه وأجله وراء ظهره، والحكمة فيه أنّه حين أُهبط إلى دار لا يعمّرها هو وذرّيّته إلّا بالآمال، أُلقيت عليهم لتتمّ أعمالهم فيستقيم معاشهم. ورُوي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: ”إنّما الأمل رحمة من الله لأمّتي، لولا الأمل ما أرضعت أمٌّ ولدًا ولا غرس غارسٌ شجرة.“31 وإن رأى ابن أبي الدنيا في مرويّاته ما يحضّ على ذمّ الأمل، فهناك من علماء الحديث من رأى أنّ ”الأمل سرٌّ لطيف“32 لأنّه لولا الأمل ما تهنّأ أحدٌ بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنّما المذموم منه الاسترسال فيه.‬6الأمل والرجاء مقامان صوفيّان‫قد يتلخّص سلوك التصوّف في السَّيْر القلبيّ المُوازِن بين الخوف والرجاء، فهما حالان متلازمان ومتكاملان، وينبغي عدم تغليب أحدهما على الآخر، حتّى لا يحصل للسالك يأسٌ ولا غرور، والصوفيّة يشبّهونهما بجناحَي الطائر الذي لا يمكنه الطيران إلّا بهما. وكثيرًا ما يقرن الحارث المحاسبيّ بينهما، ومن أمثلة ذلك أنّه في سياق جواب المريد السائل عمّا ينبغي له البدء به في الطريق، يقول له:‬‫أوّل ما يلزمك في صلاح نفسك الذي لا صلاح لها في غيره، وهو أوّل الرعاية، أن تعلم أنّها مربوبة متعبَّدة، فإذا علمتَ ذلك علمتَ أنّه لا نجاة للمربوب المتعبَّد إلّا بطاعة ربّه ومولاه، لأنّ الطاعة سبيل النجاة، والعلم هو الدليل على السبيل، فأصل الطاعة الورع، وأصل الورع التقوى، وأصل التقوى محاسبة النفس، وأصل محاسبة النفس الخوف والرجاء.33‬‫ويبيّن الحارث المحاسبيّ في سياق آخر للمريد أنّ الخوف والرجاء هما تمام الإيقان الذي به يتمّ الإيمان، ويصف له حال كلٍّ من الراجي والخائف، وعندما يسأله المريد بمَ تُنال به تلك الأحوال، يقول: ”لا يُنال ما وصفته إلّا بالصبر،“ ولمّا سأله ثانيةً عن خير ما يحقّق الصبر، ”قال: الزهد، والزاهد في الدنيا في حصنٍ حَصين شامخ، قد جمعَ له الزهدُ خيرَ الدنيا مع رجائه خيرًا لآخره.“34‬‫ويسأل المريد شيخه عمّا يغلب على قلوب العارفين، فيجيبه بأنّها ”أشياء كثيرة، منها: دوام الخوف والرجاء،“ فيعود ليسأله عمّا إذا كانت بسكون أو اضطراب، فيقول الشيخ: ”لهذه الحالات يا فتى هياجٌ في حركاتها، وسكون في وطناتها، واستعمال في خلواتها، ووجود في غدواتها، ومسير في مناهلها، وفوائد في زائدها، وفطنة في بصائرها ونفاذ وَهْمٍ في استدراك مرادها.“35 يحذّر الحارث المحاسبيّ، في المحاورة التي يجريها بين المريد والشيخ، المريدَ من الخلط بين الرجاء والاغترار، خلطًا قد يجرّ صاحبَه إلى التمادي في المعاصي، فيواجه المريد شيخه بما هو مقرّر من بَسْطِ الرجاء للموحِّدين وتحريمِ اليأس عليهم، فيوضّح له الحارث المحاسبيّ ذلك بقوله:‬‫أجل، وليس هذا موضعه الذي وُضع فيه، ولكنّه موضع خوف من الله، وقد يكون العبد عاصيًا مغترًّا، فإن عارضه القنوط قمعه بالرجاء، من أجل التوحيد، فقمَع به القنوط الذي هو معصية لمولاه، لئلّا يجمع معصية وقنوطًا فيكونا ذنبين، فإنْ طَيَّبَ بعد ذلك نفسه بذكر الرجاء فجَرَّأَه على المُقام على معاصي الله عزّ وجلّ، فقد اغترّ بالله عزّ وجلّ، لأنّ الله جعل الرجاء مُزيلًا للقنوط الذي يمنع من التوبة والعمل، باعثًا على الطاعة والقربة إليه، وجعل الخوف مانعًا من الأمن والاغترار، مُزيلًا عن الإقامة على الذنوب، مانعًا لمواقعتها عند الهمّ بها.36‬‫ويُفرّق الحارث بين الاغترار بالله والرجاء فيه، إذ يختلط الأمر على المغترّ فيظنّ أنّه راجٍ، والأمر ليس كذلك. وممّا يقوله في هذا السياق: ”فالمغترّ بذكر الرجاء يظنّ أنّ الغِرّة منه رجاء، فيقيم على معاصي الله عزّ وجلّ، ويظنّ ذلك حسن الظنّ منه، وليس ذلك بحسن ظنّ، فالرجاء هو ما هاج من الطمع والأمل في الله عزّ وجلّ، فسخّى نفس العاصي بالتوبة، وحال بينه وبين القنوط، وبعث العبدَ على الطاعة لله عزّ وجلّ، والتشمير والاجتهاد، رجاءَ ما وعد العاملين.“37‬‫ويُسائل المريد شيخه عن الخوف وما يوصّل إليه، والوسيلة التي ينال بها ذلك، وعندما يبيّن له الشيخ أنّ ذلك يكون بـ”تعظيم المعرفة بعظيم قدر الوعد والوعيد،“ يسأل المريد مرّة أخرى ”بِمَ يُنال ذلك؟“ فيدلّه الشيخ على وسائل التيقّن من معرفة الموضوع الذي يجب الخوف منه؛ إذ هو غائب عن الأبصار، ويصف له الوسائل قائلًا: ”بالذكر والفكر في العاقبة، لأنّ الله عزّ وجل قد علم أنّ هذا العبد إذا غُيّب عنه ما قد خوّفه ورجّاه لن يخاف ولم يَرجُ إلّا بالذكر والفكر، لأنّ الغيب لا يُرى بالعين، وإنما يُرى بالقلب في حقائق اليقين، فإذا احتجب العبد بالغفلة عن الآخرة، واحتجب عنها بأشغال الدنيا لم يخف ولم يَرجُ إلّا رجاء الإقرار وخوفَه.“38‬‫ويسأل المريد من جديد قائلًا: ”فالرجاء والخوف على العمل أن يكون عمله لله أو لغير الله عزّ وجلّ إذن يستويان، فأمله في الله عزّ وجلّ ضعيف، فكيف ينعم بطاعته لله عزّ وجلّ ويجد حلاوتها؟“ فكان جواب الشيخ:‬‫بل الأمل والرجاء أغلب وأكثر، لأنّه قد استيقن أنّه قد دخله بالإخلاص لله وحده، ولم يستيقن أنّه راءى بشيء منه، فالإخلاص عنده يقين، والرياء هو منه في شكّ، فخوفه إن كان قد خالطه رياء، كان ذلك الخوف ممّا يرجو به أن يصفيه الله له، لإشفاقه على ما لا يعلم فيه، وكلّما أشفق ازداد نعيمًا بالطاعة وأملًا في الله عزّ وجلّ، إذا أيقن أنّه دخله بالإخلاص وختمه بالإشفاق والوجل من علم الله عزّ وجلّ، فبذلك يعظم رجاؤه وأمله ويتنعّم بطاعة ربّه.39‬‫ولكون الموازنة بين الخوف والرجاء أساس السَّيْر القلبيّ، يرى الحارث المحاسبيّ أنّ تحقُّق السلوك من دون الوقوع في القنوط أو العُجب يكون بالجمع بين الخوف والرجاء جمعًا يوافق الأمر والنهي حتّى يصل إلى الأدب مع الله، فيقول: ”فمن وضع الخوف حيث وضعه الله عزّ وجلّ، والرجاء حيث وضعه، فلم يقنط ولم يغترّ، فقد تأدّب بأدب الله تعالى.“40‬‫وتأسيسًا لعِلم الأحوال والمقامات العمليّ القلبيّ، يوضّح المحاسبيّ ما يتولّد عن حُسن الظنّ بالله وشكره من ثمار فيقول:‬‫فدَأَبَ [السالك] في الشكر رجاء المزيد، فزاده الله به أُنسًا وسرورًا بحسن الظنّ به، فبعث أصول الخوف والرجاء إلى قلبه، فكانا قائديه إلى الله تعالى، وصارا عِلمين في قلبه، إنْ عارضته غِرَّةٌ أهاج الإشفاقَ على الخوف، فخاف عواقب الآخرة، وإن عارضته فَترة أهاج الرجاء فنَفَى فترَتَه، وإن عارضه إياس أهاج حُسنَ الظنّ بالله والرجاء فقَمَعَه.41‬‫بالأمل والرجاء يتحقّق للسالك الإمداد، ويُقبل الله بلطفه عليه فيكون له كلّ ما أراد، ومن هنا، يُرشد الحارث مُريدَه الذي سأله عن كيفيّة تدبّر القرآن، قائلًا: ”فإذا أحضرتَ عقلك بجَمْع همّك بِنيّةٍ صادقة مع أمل ورجاء أن تنال ما قال، وتُسارعَ إلى مَحابِّه وتجتنب مَساخطه، وتُريده وحده ولا تريد أن تَفهم منه ما تتصنّع به عند العباد، فإذا نظر الله عزّ وجلّ إليك وأنت كذلك وعَلِمَ ذلك من ضميرك، أقبلَ بلطفه ووَلِيَ تقويم عقلك بفهم كلامه، فيُوضح الله لك به البرهان ويمدّك بالفوائد، ويُجلّي عنك ظُلَمَ الشُّبَه.“42‬‫تمثّل الحارث المحاسبيّ بما أرشد به مريده، فالنُّصح أوّلًا منه وإليه، فتوجّه إلى ربّه بالشكوى والرجاء، مُتوسّلًا إليه أن يصلح عيوبه ويُلحقه بأوليائه:‬‫أنا المغموم لِما مضى من إعراضٍ عنك، وممّا يكسر فؤادي ويقرح قلبي نظري إلى عُمّالك يتقلّبون في كرامتك، فأَلحِقْ عُبَيْدَك الفقير المحتاج بعُمّالك الأقوياء، فقل للخوف والوجَل والرهَب والشفَق أن تلزم قلبي، وللحبّ لك أن يعلو على جميع همّي، ولجوارحي بأن تدأبَ مسارِعة، ولِهواي وشهواتي أن تموت خاشعةً، حتّى تُذيقني الفرح بنعيم الطاعات، واصلًا بنعيم الأبد في جِوارك والنظر إلى جَمالك.43‬7الرجاء والأمل إرادةٌ ومعارضة‫أشار أحد الصوفيّة في القرن الثامن الهجريّ44 إلى أنّ الناس في شأن التصوّف ثلاثة ”واحدٌ يسير بين الخوف والرجاء شاخصًا إلى الحبّ مع صحبة الحياء، وهذا الذي يُسمّى المريد، ورجلٌ مختطفٌ من وادي التفرقة إلى وادي الجمع، وهو الذي يُقال له المُراد، ومن سواهما مدّعٍ مفتونٌ مخدوع.“45 وتقفُنا هذه الإشارة على فهم كيفيّة وضع الهرويّ الأنصاريّ الرجاء ضمن الأبواب الأولى من كتابه منازل السائرين،46 فقد قسم الأنصاريّ كتابه إلى عشرة أقسام، كلّ قسمٍ يضمّ عشرة أبواب. أودع في الستّة الأولى برنامجًا متكاملًا لتزكية المريد، وخصّص الأربعة الباقية للأحوال والولايات والحقائق والنهايات، وهي عطايا للسائر ومِنَح، وليست من جنس أعمال التزكية.47‬‫عدّ الهرويّ الرجاء أضعف منازل المريد؛ إذ رأى فيه معارضةً واعتراضًا، بل هو وقوع في الرعونة في مذهبه، وإن أشار إلى أنّ هذا هو رأي الطائفة (الصوفيّة). ولم يرَ فيه سوى فائدة واحدة احترازًا منه لإشارة القرآن والسُّنّة إلى فوائد الرجاء، وهي تبريد حرارة الخوف حتّى لا يعدو المريد إلى اليأس. والرجاء على ثلاث درجات، الدرجة الأولى رجاءٌ يبعث العامل على الاجتهاد ويولّد التلذُّذ بالخدمة ويوقظ لسماحة الطباع بترك المناهي، والدرجة الثانية رجاءُ أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفًا تصفو فيه هِمَمهم برفض الملذوذات ولزوم شروط العلم واستقصاء حدود الحميّة، والدرجة الثالثة رجاءُ أرباب طيب القلوب وهو رجاءُ لقاء الحقّ عزّ وجلّ.48‬‫يعلّق عفيف الدين التلمسانيّ (ت ‫690‬/1291) شارحًا وجه الاعتراض والمعارضة من العبد إذا رجا قائلًا: ”من تعلّق قلبه بالرجاء فكأنّه عارض الحقّ تعالى، حيث تعلّق بما يعارض المالك في ملكه، وكان الأليق به أن يرضى بحكمه، ويسلّم إليه في ملكه، ويكون راجعًا إلى مراد سيّده لا إلى مراده.“49 أمّا وجه الرعونة في الرجاء فهو الوقوف مع حظّ النفس من جهة أنّ الرجاء متعلّق بالراحات، وهذه الطائفة أوّل طريقها الخروج عن النفس فضلًا عن شهواتها.50 سيكرّر شرّاح المنازل ما قاله التلمسانيّ ويغضّ كثيرٌ منهم الطرف عن رؤية الهرويّ السلبيّة للرجاء، ويكتفي بعضهم بذكر جملة مختصرة من فوائد الرجاء،51 كتقوية الداعي الباعث على المعاملة، وحسن الظنّ بالله، وربط القلب بالاسم المحسن،52 دونما تعليق على درجات الرجاء الثلاث والتي تتعارض مع كَوْن الرجاء وقوعًا في الرعونة.53‬‫لعلّ موقف الهرويّ متّسق مع رؤيته لآمال الناس وطموحاتهم، فقد أرجع في أعماله الشعريّة معاناة الناس إلى أسباب ثلاثة، يطلبون قبل الأوان، ويريدون أكثر ممّا قُسم لهم، ويرجون ما لدى الآخرين.54 فإن كان الإنسان راضيًا بعطاء ربّه، فلماذا ينازع؟ وينصح الهرويّ مريديه بالرضا والقناعة بما هم فيه والسعادة به، فما هي إلّا أيّام ويأتي المستقبل وتكون ماضيًا. ورغم موقف الهرويّ الواضح من الرجاء في منازله وشعره إلّا أنّنا نظفر بنصّ من رباعيّاته يبيّن فيه أهمّيّة الأمل والرجاء في حياة المريد، بل يعدّهما أصلًا من أصول الإيمان، فأصول الإيمان أربعة: الأوّل الخوف؛ والثاني الرجاء؛ والثالث الحبّ؛ والرابع اليقين. إن لم يكن الخوف كان عدم الخشوع لله، وعدم الخشوع لله كفر، وإن لم يكن الرجاء كان اليأس، واليأس من رحمة الله كفر.55‬8خاتمة‫حاول المقال أن يلقي الضوء على حضور مفهوم الأمل في التصوّف المبكّر، راصدًا كيفيّة قراءة الصوفيّة الأوائل لمفهوم الأمل في اللغة والقرآن والحديث النبويّ، وقد اتّضح لنا عن طريق تتبُّع المفهوم في أدبيّات التصوّف تطوّرَه وثراءه. وقد أظهرت أعمال الحارث المحاسبيّ مركزيّة الأمل في التجربة الروحيّة، وحضورَه في منهجه التربويّ للمريد السالك، ومكانتَه الراسخة بين مقامات التصوّف. كما أبان كتاب قِصَر الأمل لابن أبي الدنيا عن كيفيّة استثمار العلماء للحديث النبويّ والاستفادة منه في تأصيل علم مكارم الأخلاق، وأظهر لنا استقلال باب الأمل في المصنّفات الحديثيّة. ورأينا كيف استمرّ حضور الأمل في باب المقامات والأحوال والمنازل في المدوّنات الصوفيّة باستشهادنا بكتاب الأنصاريّ الهرويّ منازل السائرين وشروحاته، فأوقفتنا قراءته على رؤية تتّسق مع النهج الصوفيّ في التعلّق بالباقي وقطع الرجاء والأمل في كلّ فانٍ. يبقى أنّ الإشارة التي التقطناها من شعر الهرويّ تعبّر عن وجه آخر للحديث عن الأمل، وتحفّز على متابعة بحث موضوع الأمل في الشعر الصوفيّ.‬

Journal

Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyyaBrill

Published: Mar 13, 2023

There are no references for this article.