Get 20M+ Full-Text Papers For Less Than $1.50/day. Start a 14-Day Trial for You or Your Team.

Learn More →

مفهوم الأمل واللاأمل في الشعر الفلسطينيّ: ريم غنايم ووسام جبران نموذجين نصّيّين

مفهوم الأمل واللاأمل في الشعر الفلسطينيّ: ريم غنايم ووسام جبران نموذجين نصّيّين 1تقاطب الأمل واليأس في الشعر الفلسطينيّ‫يتأسّس الشعر الفلسطينيّ الراهن على جدليّة الأمل واليأس. فشِعْر المقاومة الفلسطينيّ هو حلم بأمل تغيير الوضع الراهن بوضع أفضل أو استبدال جحيم الحاضر بفردوس المستقبل، إنّه في نهاية المطاف امتداد لرؤية الفرج بعد الشدّة أو تربية الأمل. أمّا اليأس فهو في هذا السياق انعدام كلّيّ لوجود حلول مستقبليّة يمكنها أن تمحو الاستلاب والعدميّة وتبثّ التفاؤل من جديد في الإنسان الفلسطينيّ وتطلّعاته الوجوديّة.‬1.1المقاومة بصفتها فعلَ أمل وفرجًا بعد شدّة‫حاولت السيرورات الفلسطينيّة الشعريّة الحديثة إيجاد بديل للواقع المأساويّ الذي حلّ بالشعب الفلسطينيّ مع بداية النزاع القوميّ ليكون تعويضًا عن فاجعة فُرضت عليه. من هنا، تشكِّل المقاومة في الشعر العربيّ الفلسطينيّ الحديث ركيزةً أساسيّة تؤثّر في مضامينه وشكله، بل إنّ صبغته المركزيّة كانت تستند إلى تسميته بـ”شعر المقاومة“ نتيجةً للأحداث التاريخيّة والأزمات القوميّة التي عصفت بالشعب الفلسطينيّ مع بدايات القرن العشرين. ومع أنّ هذه الثيمة المهيمنة على الشعر الفلسطينيّ قد موضعت مضامينه وأشكاله ضمن الأدب الأيديولوجيّ المناهض والملتزم، فإنّها كانت تخدم أساسًا ثيمة الأمل بتغيير راهن الوضع الفلسطينيّ القائم على عناصر التهجير، والتشرّد، والخراب، والاعتقالات القسريّة، والإقامة المؤقّتة، والموت بتنويعاته المتعدّدة.‬‫تحوّل الأمل بذلك، بصفته فعلَ مقاومة متفائلًا في الشعر الفلسطينيّ برموزه المختلفة (كحلم العودة، ومفاتيح البيوت التي تمّ تهجيرها وهدمها، والإيمان بقدرة المقاومة على تغيير الحال)، تحوّل إلى أيقونة ثقافيّة ”عالية“ ووجوديّة راسخة في الشعر الفلسطينيّ الحديث، بل أيقونة أُحاديّة المسار، في حالات معيّنة، تحدّد أوجه التعبير الشعريّ هذا شكلًا ومضمونًا. تلائم علاقة الأيقونة العالية نظريّة إروين بانوفسكي (Erwin Panofsky، ‫1892–1968‬) التي تتعامل مع الأيقونة على أنّها تعريف ماهويّ يرسّخ التفكير التقليديّ. ويمكن رؤية هذا الموقف على أنّه يحيّد عمل الفنّ المستقلّ ويمتنع أيضًا عن وصف الطريقة الفريدة التي تَخلق بها الصورةُ أو الظاهرة الثقافيّة معناها.1‬‫إنّ ”تربية الأمل“ التي وسمها الشاعر محمود درويش (1941–2008) في الشعر العربيّ والفلسطينيّ على وجه الخصوص بقوله:‬‫هنا،‬‫عند مُنْحَدَرات التلال،‬‫أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،‬‫قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ،‬‫نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،‬‫وما يفعل العاطلون عن العمل:‬‫نُرَبِّي الأملْ.2‬‫تعبّر تربية الأمل أساسًا عن هذا التلاحم الرومانسيّ بين تحمّل المشاقّ وحلم الفرج بعد الشدّة. إنّ نهايات قصص الفرج بعد الشدّة في الأدب العربيّ نهايات سعيدة ومُرضية، وترتكز على مفهوم متفائل من الأمل يقضي بتحمّل العيش ضمن الظلم والقهر، بمعنى آخر، معايشة الفساد الأخلاقيّ والصبر على الضيم مهما كان قاسيًا بانتظار التحوّلات المصيريّة التي تغيّر الأحوال. وتربية الأمل وشعر المقاومة كقصص الفرج بعد الشدّة، يقضيان إذن بحتميّة الإيمان بأنّ مع العسر يسرًا، بكلمات أخرى، بحتميّة التحمّل والانتظار، تحمُّل الكرب والمكروه من العيش بانتظار الفرج واليسر في نهاية المطاف.3‬‫وتلتقي تربية الأمل في الشعر الفلسطينيّ مع تربية الأمل في الشعر العربيّ الحديث، تلك التي تتجلّى في شعر المقاومة العربيّ عامّة وشعر الشعراء التمّوزيّين الذين نشطوا على نحوٍ مبلور في العقد الثاني من القرن العشرين. يتقاطع شعر المقاومة العربيّ في فحواه مع شعر المقاومة الفلسطينيّة شكلًا ومضمونًا، أمّا الشعراء التمّوزيّون فهو لقبٌ أطلقه الشاعر والناقد جبرا إبراهيم جبرا (1919–1994) على مجموعة من الشعراء العرب مثل أدونيس (1930–)، وبدر شاكر السيّاب (1926–1964)، وخليل حاوي (1919–1982)، ويوسف الخال (1916–1987)، وغيرهم.4 وقد اشترك هؤلاء الشعراء في استعمالهم لأساطير القيامة بعد الموت، مثل أسطورة الفينيق وعشتار وتمّوز وأدونيس. وقد آمنت هذه المجموعة بأنّ الحياة الجديدة لن تصلح إلّا بعد الموت التامّ أو المحو والخراب التامّ. هكذا يتحوّل حلم القيامة بعد الموت إلى أمل وتفاؤل بالقادم الأجمل.‬‫ومن القصائد المهمّة في فلسفة تربية الأمل في الشعر العربيّ قصيدة ”سفر أيّوب“5 للشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب. تتمثّل في هذه القصيدة ثيمات التحمّل والمعاناة من أجل الفرج الذي سيحلّ حتمًا بمعونة الله:‬‫لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاء‬‫ومهما استبدّ الألم‬‫لكَ الحمدُ إنّ الرزايا عطاء‬‫وإنّ المصيبات بعض الكرَم.6‬‫الرزايا من وجهة نظر الشاعر منّة من الله يبتلي بها عباده بكرم، إنّها المحن التي من الجميل الصبر عليها لأنّ الله سيأتي بعدها بعطاياه الجميلة:‬‫وإن صاحَ أيّوبُ كان النداء‬‫لك الحمدُ يا راميًا بالقدر‬‫ويا كاتبًا بعد ذاكَ الشفاء.7‬‫تكشف ثيمة الأمل في الشعر العربيّ عامّة عن مدى تشابك خطاب الشعريّة العربيّة الحديثة والخطاب الدينيّ والتراثيّ على حدّ سواء، إنّه الأمل الحالم النابع من فلسفة الرضا بالمحن والابتلاء من أجل الأمل القادم. تتقاطع تربية الأمل في الشعر الفلسطينيّ، إذن، مع التفاؤل بمستقبل أفضل في الشعر العربيّ، يأخذ الشعر هنا على عاتقه أن يكون وسيطًا لزرع الأمل وتخطّي المحنة الوجوديّة التي يمرّ بها الشاعر، تمامًا كما في ”سفر أيّوب“ وقصص الفرج بعد الشدّة.‬1.2اليأس بصفته فعلَ استلاب وتفكُّك‫تحوّلَ الأمل – هو الآخر – بصفته ثيمةً مميّزة للشعر الفلسطينيّ إلى تمظهرات عديدة تعكس الوضع الوجوديّ الفلسطينيّ الراهن بمساراته الحياتيّة المتنوّعة، وتقف إذّاك على تنوّع تعريف الهويّة الفلسطينيّة التي فرضتها المعايشات اليوميّة. إن المتتبّع للنتاج الشعريّ الفلسطينيّ يقف على حقيقة أنّه يعيش في الوقت الراهن حالةً من إعادة تقييم المشهد الثقافيّ، حالةً من تقييم النجاعة الوجوديّة التي يمثّلها الشعر الفلسطينيّ عامّة، وبالتالي حالةً من إعادة تعريف دوائر الانتماء والهويّة. من هنا، يطرح الشعر الفلسطينيّ في المشهد الشعريّ الراهن مجموعةً من التوجّهات المغايرة للتفاؤل الرومانسيّ الآمِل في شعر المقاومة، أوّلها خيار اليأس؛ القطب الآخر ونقيض الأمل، القائم على التعبير عن الوضع القاتم للأوضاع الفلسطينيّة. وهو يأس محكوم بوضعيّات وجوديّة مغلقة المسار ومعدومة الحلول بشأن مستقبل أفضل، فالفرج في هذه الأشعار لا يأتي بعد شدّة، لأنّ الشدّة وضعٌ قائم غير متحوّل البتّة. إنّ نظرةً متعمّقة إلى آخر النتاجات الشعريّة الفلسطينيّة تكشف عن تبنّي الشعراء الشباب قطبَ اليأس مسارًا للتعبير عن الحالة الوجوديّة البائسة التي يعايشونها. ففي المختارات الشعريّة غزّة أرض القصيدة،8 نقف على العديد من نماذج قطب اليأس الأنطولوجيّ، أو حتّى العدميّة9 أو العبثيّة10 مفهومًا معيشيًّا. يقوّض هذا المفهوم فكرة النهايات السعيدة للحالة المزرية أو لاحتمالات الخروج من المتاهة. ففي قصيدتها ”حليب مرّ،“ تخرج الشاعرة أمل أبو قمر عن النظرة البطوليّة المتفائلة التي تقضي برضاعة النصر من الطفولة، لتتحوّل إلى مفهوم تكريس الهزيمة والخوف في الجسد الفلسطينيّ المنهك، هذا الجسد الذي تحوّل من رمز للمقاومة والتصدّي والتحمّل، إلى جسد لا يورِث إلّا الضعف ولا يرث إلّاه:‬‫هل تدرك معنى أن ينمو في جسدك إرث الهزيمة والخوف‬‫والضعف ومرارة حليب الثدي..؟11‬‫يمكننا أن نرى السؤال المدمج بالنصّ الشعريّ علامةَ تحذير؛ إذ يمارس نمط الأسئلة العنيد في النصّ هجومًا على فكرة التوحيد؛ أي السير وفق مفاهيم التيّار المركزيّ، ويشقّ هذا السؤال بالتالي شرخًا ذهنيًّا في المرسِل والمرسَل إليه. السؤال علامة تحذير قبل السقوط في هاوية اللااحتمال، أو في هاوية اللاكلمات أو الكلمات التي لا تفي بغرض التغيير. إنّها علامة موجّهة إلى الداخل، ولكنّها في الوقت نفسه تفحص الظروف الخارجيّة.12 إنّ الموت، علامة اليأس التامّ أو نقيض الحياة والأمل، هو الحضور الوجوديّ الوحيد في الحاضر الفلسطينيّ والغزّيّ على وجه الخصوص:‬‫كلّ شيء فانٍ هنا إلّا الموتى …‬‫الموت هنا هو الأبديّة.13‬‫يتجلّى عمق اليأس بوحدانيّة بقاء الموت، أو العدم؛ الموت رمز البقاء في عالمٍ ملؤه الخراب والدمار، والموت بتعبير أوكسيمورونيّ14 (oxymoron) هو الامتلاء الوحيد؛ فالفناء فراغ وغياب، والموت باقٍ من غير منازع. هذه الأرض، التي كوّنت سابقًا رمز القيامة والمقاومة المتفائلة، تنعدم فيها الآن فرص النجاة على جميع الأصعدة:‬‫فدعونا مع الريح نروّض خذلاننا‬‫ونمسّد شعر الغباب‬‫نحن المدفونين بالأمس‬‫ماذا يسعنا أن نقول‬‫سوى أنّ‬‫النجاة؟؟‬‫كذبة.15‬‫يصبح اليأس في هذه الأشعار واقعًا حقيقيًّا، إنّه الواقع الأقرب إلى التعبير الصادق عن الحياة الفعليّة المعيشة يوميًّا، ويصير الأمل وهمًا مخادعًا لا يأتي بثمارٍ تحسّن الأوضاع الحقيقيّة التي يعايشها الفلسطينيّون في غزّة خصوصًا:‬‫وفي عين وحيِنا‬‫يوجد بؤسنا‬‫وفي بؤسنا‬‫قد لا يواتينا الهواء.16‬‫اليأس هنا خطاب ضدّيّ متقاطب مع ”الأمل المخادع،“ أو ”الأمل الفاشل،“ إذا صحّ التعبير، لأنّه لم يأتِ البتّة بأيّ إنجاز حقيقيّ.‬‫تصوّر هذه المختارات الشعريّة المغايرة تجربة الاستلاب17 والتفكّك (Anomie) في المجتمع الفلسطينيّ الفاقد للأمل، إنّها وفقًا لعالِم الاجتماع إميل دوركهايم18 (Émile Durkheim، ‫1858–1917‬) التجربة الحديثة في عالمٍ أُفرغ من الأعراف والقوانين الملزِمة؛ إذ لم يعد بإمكان هذا العالم غير المستقرّ توفير إطار وقائيّ ودليل أساسيّ للتفاعل الاجتماعيّ. وفي عالم غير مستقرّ، لم تعد السعادة البشريّة، التي هي ثمرة التوفيق بين التطلّعات الفرديّة والبنية الاجتماعيّة، ممكنة. تمثّل هذه المجموعة من الأشعار غياب الترابط بين تطلّعات الفرد الفلسطينيّ والبنية الاجتماعيّة غير المستقرّة التي تمنع تحقيق طموحات الفلسطينيّ العاديّ. وتضعف نتيجة ذلك الرغبةُ الطبيعيّة في السعادة الشخصيّة والأمل بالأفضل. إنّ النتيجة المترتّبة على هذه الحالة هي الارتباك والقلق، أي عدم القدرة على الاستعداد لحالات عدم الاستقرار المستمرّة. إنّها الحالة التي انخفض فيها المقياس القديم للقيم والأعراف، ولم يُنشأ في المقابل أيّ مقياس آخر ليحلّ محلّه.19 النتيجة الذهنيّة لهذه الحالة المعيشيّة المرتبكة هي جوّ التوتّر والضغط المستمرّ واليأس الذي يعيش فيه الإنسان الفلسطينيّ.‬‫بهذا، تسعى الكتابة في هذه المختارات إلى فعل التوحيد في ظلّ الشرذمة واليأس، وهي بهذا المعنى تخدم محاولة استعادة النظام المنطقيّ أو النفسيّ إلى مساره الصحيح وسط حالة التمزّق وانعدام الأمل. الكتابة الشعريّة، بصيغتها هنا، تقوّض وهم النظام الذي يتشكّل في مقاطع القصائد، وتوضّح أنّه لا يمكن إعادته وإيجاد تفسير له، وإنّما الكشف عن غيابه. إنّها كتابة المساءلة التي تثير التوق للتفسير وهي تؤثّر في اليقين غير المعلن، لتبقى ضائقة الشرخ أو الصدع كما هي. الواقع الداخليّ في نصوص هذه المجموعة يلتقي وجهًا لوجه بصدمة الفراغ ونقص السببيّة وانعدام الاستمراريّة.‬2نحو إلغاء تقاطبيّة الأمل واليأس في الشعر الفلسطينيّ: ريم غنايم ووسام جبران‫قبل أن نتناول موضوعة الأمل واللاأمل في شعر كلٍّ من ريم غنايم (1982–)20 ووسام جبران (1970–)،21 بصفتهما نموذجين نصّييّن يؤسّسان لنظرة شعريّة متشابكة وغير معهودة بالشعر الفلسطينيّ الحديث، رأيت من المناسب في هذا السياق التطرّق، بدءًا، إلى السمات العامّة لشعر كلّ منهما تمهيدًا لفهم أعمق لجدليّة مفهوم الأمل واللاأمل في نصوصهما الشعريّة. وهذا المفهوم، على ما سنرى، يلغي تقاطبيّة الأمل واليأس أو ضدّيّتهما لينتج مفهومًا جديدًا يطرح الشاعران بواسطته نظرةً مغايرة للواقع الوجوديّ الفلسطينيّ وللتطلّعات الأنطولوجيّة الفلسطينيّة المستقبليّة.‬‫يتعزّز انتماء الشعر الفلسطينيّ المعاصر في نصوص ريم غنايم ووسام جبران بالقدر نفسه الذي يخضع فيه هذا ”الانتماء“ إلى مساءلات وزعزعات تُخرجه من دوائر اليقين ومن تأطيرات الزمان والمكان النمطيّة، لتعيد تشكيله من جديد خارج كلّ إطار. ينتفي الانتماء هنا بمكوّناته السابقة وبوصفه حالة ثبات وطمأنينة من جهة، وبوصفه ضدًّا لآخرَ صداميّ. هو لا انتماء إذن، حيث لا النافية تقوم على تقويض مكنونات الانتماء بمعناه الانغلاقيّ/الصداميّ، وتحيله إلى حيّز التحوّل والتخطّي والمساءلة الذاتيّة الحركيّة ليُعيد تشكيل هُويّته من دون انتهاء عن طريق التجربة الفردانيّة الباطنيّة والوجوديّة، خارج الزمن بوصفه أداة تسلّط، وخارج المكان بوصفه ”وعدًا إلهيًّا،“ وخارج العلاقات الصداميّة التي تُنتجه، من دون أن يتهرّب من التواجه مع القوى التي تعمل داخل هذا الوعي المتشكّل وهذه المعرفة/الجماليّة الجديدة.‬‫”سفر الخروج“ من الانتماء للزمان والمكان بكلّ ما فيهما من تضميناتٍ يشكّل الخطاب السلطويّ، هو الخروج إلى اللاانتماء وإلى المنافي، وهو نقطة البداية في مشروعَيْ جبران وغنايم الشعريّين؛ إذ بدأ جبران حياته الشعريّة مع ديوانه إنت-anti-ماءات،22 وبدأت ريم غنايم مع ديوانها سيرة المنافي.23‬‫الشعور العميق بالغربة عند غنايم هو شعورٌ كامنٌ دفينٌ يرتبط بتلك المساحة التي تراهن عليها الشاعرة في ذاتها ”… آخر أسرارها،“ والتي تتشظّى برصاص الحداثة الولوجيّ المخترق، وبها ستتخطّى ”أكاذيب الهداية وقسوة النبوءات.“24 ألم المتكلّم في النصّ هنا هو ألمٌ وجوديٌّ ذاتيّ في مواجهة العالم وقوانينه؛ إنّه ألمُ المتكلّم الواقع بين طرفين صداميّين: التحريم والانتهاك، وهو ليس ألمًا مُنكشفًا ظاهريًّا مثرثرًا ”كثلاث أرامل“ ”ينتصبْنَ“ مثل ”ثلاث يماماتٍ“ هُنّ ”صيفٌ“/انكشافٌ تعرّ، وهنّ في الوقت ذاته الوجودُ في فراغه وغيبيّاته التي ترعى ”الغنم في الآخرة.“25 هو ألم مَنْ يعتنق الكذب الصادق الذي يُحيل الإنسان الفردَ إلى وجوده الواقعيّ الفاني والمنتهي في مواجهة حقيقةٍ كاذبة: ”فالحقيقةُ تأتأةٌ لا تنتهي.“26 هو ألمٌ و”نشازٌ عذابٌ“ يعيش في برزخ حواريّ لا صِداميّ بعيدًا من لغة الكتب البُرهانيّة و”تجارة الغيبِ“ والزمن المؤجّل، تجارةُ العدم الخبيث الذي ”يخرم السكينة كوردةٍ … يتاجر بألمي …“27 هذا الألم المرارةُ هو اللقاء مع ”السواد“ ومع ”الحقارة“ و”الدناءة“ التي يتمّ إقصاؤها من الذوات جسدًا، ومادّةً، ونفَسًا وأفكارًا؛ السواد لا نجده في الكلمات لكنّه حاضرٌ بقوّةٍ في الصور الشعريّة الكثيفة، أكان على مستوى التعفّن والموت الجسديّ: ”كخفافيشَ متفسّخة“ أم ”كرداءة مرثيّة،“28 أم على مستوى ”الخدر“ المدمّر لسائل الحياة الأحمر، و”رصاص الحداثة“ الذي ”يُشظّي آخر أسراري“ متسلّطًا على مساحة الصمت الباقية؛ المساحة التي ما زالت تحافظ على وجودها الفائق خارج منظومة الزمان والمكان. مساحةٌ تثق بوجودها التائه ”ثقة اللاشيء في مكانه،“ و”ثقة تدعو للخيانة/ثقة موجوعة …“29‬‫”في نهرٍ يتماوج، يُطلُّ وجهي،“30 من هنا تبدأ نبوءات، من هذه العبارة التي تلخّص مقولةً أساسيّة في هذا الكتاب، هي تجربة وجوديّة قلقةٌ مُلغّزة تعيشها الشاعرة ريم غنايم؛ تفتتح بها نبوءاتها وتختم بها بعد غوصٍ مُربِكٍ ومزعزعٍ تنحلُّ فيه الصور القائمة حين تمرّ في لجّة متاهاتها. هذه الإطلالة المتماوجة للذات، لا استقرار فيها إلّا في جوهر المياه/الحياة؛ مياه النهر الجارية بتدفّق قلق، حيث لا وقوف وسكينة، ولا رجوع إلى الوراء. من تماوجٍ يُطلّ منه الوجه قلقًا، قفزًا إلى العبارة الأخيرة في نبوءات، إلى تماوجٍ يتأرّق بين صُبح رائع كشيخوخة عاشق، وسحابة جارحة لا تمرّ، في آن معًا.‬‫هذا الصّبح‬‫رائعٌ كشيخوخةِ العاشق‬‫وجارحٌ كسحابةٍ لا تمرّ31‬‫لا يُطلُّ الوجهُ الفرديُّ المنفصل في وجوده إلّا من حياةٍ جوهرها التدفّق؛ التدفّق غير المستقرّ المعنيُّ بحركته وحسب، متّجهًا إلى ”أين“ خارج سؤال المكان؛ إلى تيه أكبر من تيه الحياة الواقعيّة الفانية بوصفها مِفتاحًا للكينونة التي لا تفنى، أي إلى حياةٍ/نهرٍ تتماوجُ مياهه في اضطراب ماجن متجاوز لِذاته، يتلذّذ باندفاعه مكتسبًا القدرة على مواجهة الموت. هنا تصير نشوة الالتحام بالبحر والانصهار في تيهه الأعظم في صلب علاقة غنايم بالموت. لا يُطلّ الوجه من الماء من دون أن يخضَّ الماء. وفي ”معموديّة“ الماء تجاوزٌ للذات، لا يمكن تجاوزه إلّا بـ”معموديّةٍ“ أخرى هي ”معموديّة النار“/معموديّة التجربة الحارقة: ”أراني أسير في موكبِ النار مع السائرين …“32‬‫لا تخطّيَ لسؤال الموت عند ريم غنايم إلّا عن طريق التواجه مع الموت، لا بوصفه نهاية، بل بوصفه الموازي المعيشيّ الناشز والمعذِّب والرديء والمتفسّخ والمدمّر والمشظّي/الموازي الحياتيّ الذي نُقصيه فينا موغلين في ”أكاذيب الهداية وقسوة النبوءات.“33 لا تخطّيَ في شعر ريم غنايم من دون المكوث داخل التيه؛ التيه بوصفه لازمن ولامكان، بل هو الذات البشريّة المغتربة التائهة في وجودها/الموجودة في تيهها.‬‫التّيه الخُنثى … التّيه اللئيم … (التّيه الملعون) تبًّا لك أيّها التّيه … تحرّرني من ظلام العدل‬‫وتهبني تيهًا لتيهي مثل غريبٍ لغريبٍ في أرضِ الغرباء.34‬‫ويقف المتتبّع لنصوص غنايم الشعريّة على ثلاث مراحل أساسيّة تكوّن مفهومها من الرؤية الشعريّة. المرحلة الأولى في مجموعتها ماغ: سيرة المنافي وهي مرحلة التقويض، مرحلة مليئة بالعنف، أو ”تصفية حسابات،“ إذا صحّ التعبير، مع مفهوم الذاكرة الفلسطينيّة، ومع تكرار الذاكرة وتكريسها. المرحلة الثانية تتمثّل في مجموعتها نبوءات، وهي مجموعة ذاتيّة تتّجه نحو السكون والهدوء الروحانيّينِ، وقد لجأت فيها إلى معالم التصوّف وعوالمه، ليس التصوّف الدينيّ، بل الداخليّ الروحانيّ والفرديّ الخاصّ. أمّا مجموعتها الثالثة التي تعدّها للنشر إمّا أو: قصائد بديلة، فتحتوي على حالة تجاوز، باحثةً فيها عن بدائل تتخطّى الخطاب الفلسطينيّ بمقوّماته الراهنة والتقليديّة؛ الواقع، والتاريخ، والماضي، والذاكرة ومفهوم الـ”الأنا“ الذاتيّة والجمعيّة التي لم تعد تمثّلها بمكوّناتها المألوفة.‬‫تبدو الشاعرة كما لو أنّها تستجيب لتيّارات الكلام التي لا يمكن السيطرة عليها، والتي تبدو ”فوضويّة“ أو ”غير قابلة للسيطرة“ ويبدو أنّها تلمس عتبة الوعي نفسها؛ ”عتبة الجنون“ نفسها. إنّ الاختراق الحداثيّ إلى حدٍّ ما في صبغتها الشعريّة يربط بين الكسر الحداثيّ للمعايير الشعريّة والصدع النفسيّ للحالة الوجوديّة التي تحياها الشاعرة بصفتها جزءًا من أقلّيّة قوميّة أو جندريّة، والذي يمثّل أيضًا أزمة في مواجهة المعايير الإنسانيّة البطوليّة لهذه الأقلّيّة. هذه الشاعرة ”المحرّضة،“ التي تتفوّق في استيعاب القيم الجماليّة لسيرورة الأقلّيّة القوميّة والأقلّويّة النسويّة وتتفوّق في تحقيق قيمها العمليّة، تمارس في شعرها ”الخطاب الزئبقيّ“ الجديد.‬‫عند جبران، يبدأ سفر الخروج واللاانتماء عن طريق تحرّره من ”سطوة الأب.“ ففي ”نشيد اللعنة،“ ضمن ”قصيدة كون لا زمن،“35 يُنشد الشاعر نشيده للّعنة بوصفها منفذًا لفهم ”اسم الأب“ وسطوته وضدًّا للانكشاف على اللذّة؛ هذه ”اللعنة“ التي تصير بوّابةً ضروريّة للخروج من ”سطوة الأب“ برمزيّتها. هنا، وفي نهاية النشيد، تنهار المقولاتُ الكبيرة (العتمة) التي تدعو إلى طمأنينة العقل: ”قالَتْ: العتْمَةُ العتْمَةُ العتْمَةُ | ضَعْ رأْسَكَ فَوْقَ صَدْري!“36 مقابل ”دعوة“ الرأس/المجرّة، إلى نبذ الأفكار الشموليّة الكبرى، ونبذ الكمال، ليلوذ بخطابٍ يفكّك أيقونة الكمال؛ لا خطاب الصراط المستقيم المرسوم سلفًا، بل خطاب التّيه المتحصّن في ذاته الصغيرة الشخصيّة، المحض شخصيّة، لكن الفاعلة: ”قُلْتُ: رَأْسي مَجَرَّةٌ تَبْحَثُ عَنْ تيهِها في ثُقْبِ نَمْلَةٍ.“37‬‫في شعر وسام جبران مضلّعٌ من المفاهيم والصور، لا يكون شعره من دونه ومن دون أن تكتمل أضلاعه أو ينغلق: مضلّع أضلاعه مركّبة، متعدّدة الأبعاد، من بينها، التيه/الخريف/الفقدان/ الهجرة، النُقصان/النضج، اللذّة/الصمت/الآتي/الانبعاث، الآخرُ/المرآة/تعدّد الذات، والآخر/اسم الأب/الله.‬‫في خطاب التّيه/خطاب البحث سؤالٌ لا جواب:‬‫ماذا تَقُولُ الفَراشَةُ لِلشَّجَرِ‬‫حينَ يَمْتَطي خَريفَهُ ويَرْحَلْ‬‫ويَصيرُ الأَصْفَرُ سَيِّدا‬‫وَجِلا‬‫أو يَقْتَفي التِّيهُ آثارَ التِّيهِ‬‫فلا يَجِدُ بَيْنَ الوُجُوهِ وَجْهَهْ؟38‬‫وفي القصيدة نفسها، تتنوّع الفكرة وتتّسع آفاقها مع الهَجر تارةً والرحيل تارةً والانبعاث تارةً أخرى.39 يتلاقى التّيه مع اللذّة باستمرارٍ في كون لا زمن:‬‫ها هيَ المَوْجَةُ التَّائِهَةُ‬‫تُمارسُ سِرَّها مَعَ صَخْرَةٍ نائِيَهْ‬‫وتُداعِبُ شَعْرَ المَغيبْ‬‫وَقَدْ تَدَلَّى على صَدْرِ الحَبيبْ40‬‫وها هو التلذّذ (عطر الغانية) يتشكّل في خطاب ”الجنون“ لا خطاب ”العقل،“ وفيما تتناقله الأبجديّة، لا اللغة، عن ”كمال“ عالق في لانهائيّته، في آخرة مُرْجأة:‬‫ها هُوَ عِطْرُ الغانِيَةِ‬‫يُلمْلِمُ جِسْمَهُ في جُنُونِ الرّيح.41‬‫لا مكانَ في شعر وسام جبران، وحده التّيهُ مكانه، حيث يتماهى الكونيّ مع الذاتيّ الإنسانيّ في بحث الإنسان الفرد عن ذاته بوصفِها آخر، ”فقدتُ وجودي | عثر عليَّ التّيهُ استوطَنْتُهُ.“42 ولا مكان في شعر جبران خارج اللغة؛ اللغة التي تقول وتُفصح بقدر ما تُسكتُ وتحجب، اللغة التي يكتب بها بمقدار ما تكتبُه هي. وهنا، لا يكون المكان إلّا بوصفه زمنًا كُلّيًّا لا اتّجاه له، كأنّ به حاضرًا ”يَمْضي“ إلى غدِه، حيث التاريخُ الذي تأتي منه اللغة يتغيّر باستمرار بفعل رؤيويّة اللغة الآتية من المستقبل، من الصمت، ممّا لم يُفصَحْ عنه بعد. ”نزلت إلى سوق التاريخ | عاريةً | أبتاعُ ساعةً قادمةً من نبوءة…“43 المكان، إذن، وجودٌ لغويٌّ إنسانيٌّ أبعد من أبجديّة اللغة؛ وجودٌ لم يتحقّق بعد، والمكان أكبر من المقدَّس الثابت المتسلّط، هو خيانةٌ دائمة وتجاوزٌ مستمرّ. يقول جبران:‬‫سنخرجُ مِنْ أرضِنا إليْنا‬‫سنُعيدُ كتابَةَ أسْفارِنا‬‫والمَتاهْ‬‫فأرضُنا أبعَدُ مِنْ الأبجديّة.44‬‫في هذا اللاانتماء للمكان انتماءٌ لكلّ مكان، لا بوصف ”المكان“ وطنًا أو مُسْتَقَرًّا أو مقولةً اكتملت، بل بوصفه منفى لكلّ وطن وتيهًا يؤدّي إلى متاهات، وسؤالًا يقود إلى أسئلة.‬‫لا تنتمي الذاكرة، في شعر وسام جبران إلى الماضي. الذاكرةُ ليست حنينًا سوداويًّا أو نكوصًا يأتي من عجزٍ عن مواجهة ظروف الحاضر وأسئلة المستقبل. الذاكرة ليست ”شيئًا ما هناك“ انقضى، نعرفه، نألفه، نرى فيه حلًّا أو ملاذًا، بل هي ذلك المخزون الذي لا نكون إلّا به، لا بوصفه ثابتًا يرتكز إليه حاضرنا ويوجّه مستقبلنا، بل بوصفه طينةً طَيِّعةً يُمكن العَوْدُ إليها دائمًا وإعادة تشكيلها من جديد. فالذاكرةُ للأحياء فقط، للرؤيويّين القادرين على تغيير الماضي ”أخلاقيًّا“ أو ”رؤيويًّا،“ أي انطلاقًا من فهم مستقبليّ آخر متجدّد. هكذا، وهكذا فقط، تكون الذاكرة حيّزًا حيًّا نابضًا مُثريًا، لا حاجزًا مانعًا أمام تطوّر الكائن الإنسانيّ. ”الذاكرةُ جدولُ خيانة يتلوّى | الخيانةُ بَعْثٌ.“45‬‫وبينما يغوص جبران في أسئلة وجوديّة يراها كبيرة قارئًا متأمّلًا أحيانًا، ومجرِّبًا لاعبًا أحيانًا أخرى، ثمّ كاتبًا مؤلِّفًا، مُستعيرًا لغته من قاموس ”الكونيّات“ و”الأفلاك“ البعيدة، ناظرًا إلى الوجود الإنسانيّ من علياء شاهق، فهو في الوقت ذاته، يتمعَّنُ في الأعماق الغائرة للإنسان بوصفه فردًا، مكمِّلًا استعاراته اللغويّة من قاموس التحليل النفسيّ والرصد الدقيق للمشاهد الإنسانيّة التي تشكّل مرآةً ما للإنسان الفرد في وجوده محض الأرضيّ ومحض الإنسانيّ. وبين هذا وذاك مساحاتٌ للإفلات والإفصاح أو الإحجام، وأماكن للصُّدَفِ ومعايشة الحياة و”الانْوجادُ“ في اللغة، إذا صحّ التعبير، على نحو تماهٍ متناهٍ معها وفيها، بحيث يمكنها أن تفاجئ، أن تشارك في الكتابة.‬‫لا تولد اللغة عند وسام جبران من رحم المعاجم أو الكلمات العاديّة، بل تتحوّل في نصوصه إلى مسكوكات لغويّة غريبة، نبتة في باطن الأرض تنتظر من يكتشفها فينال رضا الكشف والمعرفة. والعمل على نصوص جبران يعني بالدرجة الأولى ممارسة حفريّات معرفيّة ”خطيرة“ تؤدّي بثبات إلى اكتشاف سعة الكون أمام ضيق ما نمارسه من عيش ضمن الإطار. الحفريّات المعرفيّة في نصوص مجموعاته توصل القارئ النخبويّ إلى استيعاب كمّيّات الفكر المؤطّر الذي تتمّ ممارسة أركانه في كلّ لحظة من الوجود. هذا بالضبط ما تحاول هذه النصوص فعله، الكشف عن لا حدوديّة الكون وكيفيّة ملاءمة تفكيرنا في هذا المشاع الفكريّ اللامتناه.‬‫ويقف جبران من أبجديّة الصمت المخادعة على عتبة من معرفة الأشياء التي لا تُعرف إلّا بالحدس العميق. إنّه يحاور المقدَّس ذاته في محاولة لنزع القداسة عن أفعاله وانتقاده لنفسه من أجل دحر الخمول. لا يكتب جبران من أجل فعل التغيير أو الثورة ولكنّ نصوصه تؤدّي حتمًا إلى ثورة المعرفة العميقة بأمور الوجود، يفكّكها إلى أبسط عناصرها ويعيد خلقها من عناصر مختلفة، كيف لنا أن نفهم إذن:‬‫أولدُ من جديدٍ‬‫أولدُ من جديدْ‬‫ويُصبِحُ لي صوتٌ واسمٌ …‬‫هذا أكيدْ‬‫[…] أنْ أولَدَ كُلَّ يومٍ، كلّ يومٍ من جديدْ‬‫هذا هو … كُلُّ … ما أريدْ46‬‫لن نفهم هذا النصّ إلّا بواسطة فهم سيرورة شعر جبران القائمة على التصادم مع الموجود العفن والمؤطّر، وتجاوز موت الروح عن طريق مسايرتها لطرق العيش الخانقة بالبدهيّات. هذا جلّ ما يريد الشاعر قوله، لا يمكن العيش ضمن منظومات معرفيّة ووجوديّة أبديّة وذات لون واحد وطعم واحد وجماليّة واحدة وتكوين موحّد، الطينة التي تعجن حياتنا من جديد يجب أن تتغيّر على الدوام وإلّا أصابنا الإرهاق الروحيّ القاتل. أن نولد من جديد مقولة جدّ خطرة، إنّها بالحقيقة نفي مستديم لكلّ ما يُسمّى ماضويًّا، إنّها الحياة الحركيّة التي لا تقبل ضيم الثبات والجوهر الأبديّ الساكن. من هنا، تتفاعل نصوص هذه المجموعة بين الساكن والثابت على الدوام:‬‫تيهي طَريقي‬‫لَسْتُ في الكَوْنِ ساكِنًا، ولا عابرَ طَريقْ‬‫أنا الكَوْنُ حينَ لا أكُونُهُ، وحينَ لا يكُونُني الكَوْنُ:‬‫مَوجٌ أنا عالِقٌ في جَوْفِ بَحْرٍ غَريقْ47‬‫ليس التيه هنا إلّا مَفْرِقٌ لكلّ الاتّجاهات وهو بوصلة إلى الولادة من جديد، والولادة من جديد ضدٌّ للساكن. التيه هو الموج المتغيّر والزائر الدائم لشطآن الأمل.‬‫طائِرٌ..‬‫أَلِأنَّهُ فَقَدَ سَريرَ طُفُولَتِهِ؟‬‫أَلأَنَّ لَهُ أُمًّا، وَلَدَتْهُ ذاتَ يَوْمٍ وَقَتَلَتْهُ كُلَّ يَوْمْ؟‬‫طائِرٌ إلى الرَّعْدْ؛‬‫طائِرٌ إلى ذاتِهِ الّتي‬‫لَمْ يَلِدْها‬‫وَلَمْ يَجِدْها بَعْدْ48‬‫إنّ الحركة والسكون بوصفهما ثنائيّةً ضدّيّة أو متجانسة تدخل ضمن أغلب مجالات الحياة الوجوديّة للإنسان، وقد اختبرها جبران بشكل واضح في تفريقه بين الحياة والموت بوصفهما ثنائيّة ضديّة بارزة حيّرته وأعملت فيه الخيال ومحاولات التفسير الدينيّة أو العلميّة. ارتبطت هذه الثنائيّة، بمنظورها الفلسفيّ، بمفهوم التبديل والتغيير الذي يستند بالأساس إلى فعل الحركة. إنّها في هذا السياق تعبير عن فكرة بقائه أو فنائه. يلامس التغيير المنبثق من الحركة ثنائيّة الزمان والمكان، وبالتالي فهو يلامس ذات الإنسان التي تنظر إلى هذه الثنائيّة ضمن أفعال السكون والحركة. تحدّد ثنائيّة الحركة والسكون الأبعاد الموسيقيّة للنصّ الشعريّ؛ إذ يوظّف الشاعر لغته ودلالاته وتراكيبه اللغويّة من أجل التعبير عن ذاته المتموّجة تمامًا كأمواج الموسيقى التي تسرد حالات موسيقيّة نفسيّة أساسًا.‬‫يمكننا القول في هذه العلاقات الوجوديّة المختلفة في شعر كلٍّ من جبران وغنايم: إنّ التعامل مع موضوع الأمل واللاأمل لديهما هو تأسيس لفكرة المابعديّة (post) التي تحتفي بديناميكيّة تلغي الحاضر ولا تنقطع عنه في الوقت ذاته، أو هي فكرة خطّ التماسّ أو الأرض الحرام التي تجمع في داخلها مقوّمات إلغاء التقاطبيّة والضدّيّة، على ما سنرى.‬‫كنت قد ذكرت سابقًا أنّ الشعر الفلسطينيّ يطرح في المشهد الشعريّ الراهن مجموعةً من التوجّهات المغايرة للتفاؤل الرومانسيّ الآمِل في شعر المقاومة، أوّلها خيار اليأس الذي خضنا فيه أعلاه، أمّا الخيار الثاني الذي يطرحه الشعر الفلسطينيّ فيتعلّق بمحاولة إلغاء هذا التقاطب أو الضدّيّة بين مفهومي الأمل واليأس. وينتج هذا الخيار عن خوض تجربة قوميّة ووجوديّة خاصّة تعيشها الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ. إنّها تجربة دوائر الانتماء والهويّة وكيفيّة تعريفها عن طريق الهمّ المعيشيّ المغاير الذي تواجهه هذه الأقلّيّة في الحياة اليوميّة. ويقوم هذا الخيار على انتهاك المفاهيم الشعريّة الفلسطينيّة الراهنة وزعزعتها في محاولة للخروج إلى مساءلة فكريّة عميقة، مفادها الرؤية الحركيّة والزئبقيّة المتجدّدة نحو الذات والجماعة، بل نحو الكون. وقد رأيت أن أمثّل لهذا الخيار بشعر كلٍّ من غنايم وجبران لما يطرحانه من لايقينيّة وجوديّة، ومحاولة عميقة لنسف التقاطبات البدهيّة في الثقافة العربيّة والعالميّة، ومحاولة لتآلف المتناقضات الوجوديّة ضمن الكتابة الشعريّة.‬2.1ريم غنايم والانفلات من فكرة الأمل‫تحتاج الإجابة عن سؤال الأمل في شعر ريم غنايم إلى نوع من المراوغة والانفلات من فكرة الأمل نفسها، في محاولة لتعريفها من بعد. وهو سؤال يعودُ بنا إلى فخّ التعدّديّة والأُحاديّة في مفهوم الأمل. الأمل لديها حالةٌ من حالات التوقّع والترقّب بحدوث شيء، بالرغبة في العثور أو الوصول. إنّه مفهوم سرابيّ يتقاطع مع مفهوم فيلسوف اليأس إميل سيوران (Emil Cioran، ‫1911–1995‬) في تعريفه لليأس والأمل: ”المزعجُ في اليأس أنّه بدهيّ ومُوَثَّق وذو أسباب وجيهة. إنّه ريبورتاج. والآن أمعِنوا النظر في الأمل. تأمّلُوا سَخاءَهُ في الغشّ، رُسُوخَهُ في التدجيل، رفضَه للأحداث، إنّه تيه وخيال. وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال تتغذّى.“49 الأمل لدى ريم، كما سنرى، سؤال المراوغة بعبارة السخاء في الغشّ. نعم إنّها ”تربية الأمل“ التي تحدّث عنها درويش، ولكنّه أمل من نوع آخر، لا يوحي بالتفاؤل ولا بالتشاؤم. ”تربية الأمل“ عندها استعارة للخيال المقموع، للأمكنة التي طغت عليها فوبيا التفكير في المستقبل. الأمل الذي تربّيه في شعرها هو وهمٌ، وفي الوهم تخييل، وفي التخييل حرّيّة ومساحات الأفق المفتوح. لذا لا ترى الأمل كلمة ساذجة، بل مفخّخة بالمعاني ونقائضها، تحمل الشيء وضدّه. ومن الجنون، على حدّ تعبير سيوران، إدخال الأمل في المنطق، على عكس اليأس في مرتفعاته وحيدًا أُحاديّ الاتّجاه واضحًا بريئًا لا مناورات فيه.50‬‫لقد ارتكن الشعر العربيّ القديم على افتتاحيّات الأطلال والبكاء عليها،51 البكاء وقطع الأمل، هكذا كانت بداية الإبداع في القصيدة العربيّة. على الشاعر أن يبكي القطيعة وأن يبكي الفقدان وأن يبكي غياب الأمل، ليأتي من بعدها فيض من الشعريّة وصورها. وقد عرفت الصوفيّة الأمل من رحم الانقطاع عن الأمل،52 هكذا قد تُعرَف الأشياء بأضدادها، ونقيضُها لا ينفصل عنها ولعلّه بشكل أو بآخر تحويرات عليها ولها، وهذا بالضبط ما ترمي غنايم إليه.‬‫هل يمكن أن تفصل الشاعرة اليأس عن الأمل؟ هل اليأس هو اللاأمل؟ أهو أصلًا نقيض الأمل؟ فالأشياء شعرًا، بحسب غنايم لا طباق فيها، بقدر ما هي انفتاح المفاهيم على بعضها. تمكث الشاعرة في حالة تفاوض مع المفهومين، لا تجدهما نقيضين، تجدهما يتناوبان ويتنافسان. إنّهما غريزتان حيوانيّتان في الكائن البشريّ، ولا يربطهما نظامٌ لغويّ أو نفسيّ بعينه. حينما تكتب عن الأمل، فهي تقوم بمحوه تمامًا، فلا تجده عين المرسل إليه، ويصير حضوره شكلًا من أشكال الغياب، وغيابه شكلًا من أشكال الحضور. اللعب والمراوغة في فتح الفكرة على أكثر من وجود، وأكثر من معنى، في سقف الحداثة المابعديّة، وفي سقف الحداثة المابعديّة الفلسطينيّة. فلسطين استعارة الأمل واستعارة اليأس، وكلاهما حاضران غائبان، الواحد في قلب الآخر. تقول:‬‫شاخَت قسماتُ وجهِ الرّمل‬‫وأنا أحاول أعوامًا فكّ أزراره زرًّا زرًّا.‬‫شاخَت قسماتُ وجهِ الرّمل مرّةً أخرى‬‫وأنا أُهينُ وجهَه المُجرم.‬‫ثمّ شاخَت قسماتُ وجهي‬‫حين أدركت أنّ وجعي ووجعه مأمآتٌ ونهايةُ أملٍ53‬‫”ونهاية أمل،“ من دون أن يقتصر الأمر على تعريف الأمل بلام التعريف. نهاية أمل واحد ضمن محاولات لا تنتهي. المحاولات التي تصل إلى شيخوخة الوجه والأشياء التي من حوله، حيث يوضع حدّ لأمل ما، لوهم ما، من دون أن ينتهي الأمل بعينه، الآمال في المحاولات. أمل ينتهي، ومحاولات كثيرة تبدأ تنفتح على آمال أخرى لا تنتهي. الأمل في ما هو قادم. إنّه اللعب بين المفرد والجمع، بين الطريق والوصول، بين نهاية الأشياء والطريق إليها:‬‫لا شيءَ يستأهلُ المقايضةَ بدهاء قلبِك.‬‫أنت الحرّ كالخطيئة..‬‫كاللعنةِ‬‫عذّب نفسكَ ما استطعتَ..‬‫عذّبها‬‫نفسكَ الطّاهرة كالخطيئة.‬‫عذّب سمات الأمل والدعة فيكَ.‬‫اشرط قلبكَ كما يُشرطُ شَرفُ الأقحوان.‬‫واسكُت..‬‫فالحقيقةُ تأتأةٌ لا تنتهي.54‬‫هكذا هي المعادلة في الشعر إذا ما تحدّثنا عن الأمل والحقيقة. الحقيقة تأتأة، الحقيقة صدى الكلام يتردّد، ولا ينتهي. الحقيقة لا يمكنها أن تكون اليأس، ولا يمكنها أن تكون الأمل الواعد بالسعادة. كلّ الأمل يكمن في العذاب، ثمّ الصمت. هكذا توجد الحقيقة في الأشياء الصامتة التي وجدت حرّيّتها في العذاب. إذن، الأمل لا يمكنه أن يكون سعيدًا إذا أراد أن يلمس الحرّيّة:‬‫اغفر لي وجهي..‬‫شُدّ عضديّ‬‫بمُعجزةٍ‬‫من معجزاتكَ..‬‫فكُلّي صياغاتُ أملٍ‬‫تأتي ولا تأتي55‬‫إذن، هكذا ترى نفسها، وهي ابنة المكان الذي يتحقّق ولا يتحقّق، يكون ولا يكون. في منطقة وسطيّة بين شيء يأتي ولا يأتي. لكنّه ليس مفردًا، لا يمكن للأمل أن يكون بصيغة المفرد، لأنّه حتمًا سينتهي، وفي النهاية موت.‬‫هكذا تجيب غنايم عن سؤال الأمل بوصفه صياغة إلى طريق الحرّيّة والوجود، إلى الحقيقة بأنّه صياغات كثيرة، تموت واحدة لتبدأ أخرى. وعليها أن تظلّ قابعة في هذا الحيّز الملتبس، في اللاوضوح، الغامض الذي لا تعريف له، هناك فقط تجد جوهر الأمل. هناك فقط، بين أن تكون ولا تكون، في الحدّ الفاصل بينهما، تستطيع أن تراوغ، وتهدم وتبني كما يحلو لها، تلك هي منطقتها الليّنة والزئبقيّة التي لا تعرف إجابات قاطعة، تمامًا مثل حال المكان: يسقط ولا يسقط، يموت وينجو، يحترق وينهض من الرماد. تقول في قصيدة ”الإبادة الجماعيّة“ (Genocide):‬‫سأسقطُ يومًا.. حقيقَةً مخمَليّة.‬‫ألِأنّ قلبي يرقص بطيشٍ كصحابيٍّ فتيّ يحمل علمًا بين النّاس‬‫ترشقون دَمامَتي بالحنّاء؟‬‫… سأعِدُ آل هذا الكَون بِمَوتٍ حراريّ يَحبسُ عُنوستَه الثّقيلة‬‫سأهندس معسكرَ إبادَةٍ يَليقُ بِخُبثِه ومن بَعدِها أرقعُ السّوادَ بالبياض الصّعب‬‫سأهدم أملًا وأشرط حالات النّهار والليل بظفري..‬‫وبوردةٍ في خرابٍ.. أحملُها وأردّد:‬‫أسقط.. لا أسقط.. أسقط.. لا أسقط56‬‫يتجلّى المفهوم البينيّ للأمل واللاأمل عند غنايم بوضوح في مجموعتها الثالثة إمّا أو: قصائد بديلة. هذه المجموعة التي تتجاوز فيها الشاعرة المعطيات الثقافيّة والتاريخيّة والسياسيّة الفلسطينيّة نحو بديل لايقينيّ، إنّها بدائل تشابه حيّز طبقة الأعراف في سورة الأعراف،57 إنّه حيّز تتساوى فيه المعطيات الضدّيّة والتقاطبات المتقابلة لإنتاج منطقة وسطى:‬‫عند تُخومِكِ أدركتُ أنّي الحيوانُ الأليف الزاحفُ في هاوية المعارف نحو هاويةٍ أخرى‬‫لا أجدُ يقينًا يزمّلني، ولا سرابًا يمدّ عنقه يتلصّص على زرنيخ القلب‬‫أزلتُ بيدِي حيّزك يكادُ يشبهُ حيّزي لا لشيءٍ إلّا لأنهي الشّكوكَ بومضةٍ‬‫لا لشيءٍ‬‫إلّا لأتوسّع في يقينٍ جديد‬‫ليسَ إلّا جلاء في زمن58‬‫إنّ الهاوية من هذا المنظار مسار للاستزادة من المعارف والكشف. إنّها ليست مسارات الموت اليقينيّ بل آفاق التواجد ضمن تخوم الشكّ المؤدّي إلى خوض تجارب الانفلات من المعطيات الجاهزة والبالية، بمعنى آخر إنّها المغامرة المزدوجة من الشكّ واليقين، إنّها جلاء لا يعرف السكون.‬‫إنّ خطّ التماسّ القائم على ازدواجيّة فهم الوجود عن طريق التعالي على طرفيْه، خطّ يطرح في ماهيّته أسئلة التحرّر من قوالب تفكيريّة مألوفة:‬‫في الخطّ الأخضر يبدأ ازدواجي من جديد:‬‫حريقٌ يتوسّط الخريفَ وألمي.‬‫لفمٍ لا لسان يقضمُ معجمه..‬‫لرخاوةٍ في الحبّ تقطعُ طريقَها إليّ أبدًا‬‫أشدُّ جوارحي.‬‫رمادُ حريقٍ يُسيء إلى سُمعتي عند عتباته‬‫رمادٌ غشّاشٌ يزجُّ اسمي في تيهِ الساعات والنكسات‬‫يخيّرُني:‬‫إمّا أثرُ نارٍ في حواشيّ‬‫أو انتدابُ ألمٍ يضرب جذورًا في فُصولي‬‫طبيعة هذا الرماد في الخطّ الأخضر الفاصل بين حيّزينِ متقابلينِ طبيعةٌ هجينة تزجّ الأنا الشعريّ المتكلّم في القصيدة أعلاه في مساءلات كيانيّة حادّة؛ تساؤلات هويّة تحاول كسر تضادّ الأسود والأبيض في انتماءاتها، وبالتالي تحاول رؤية الأمل أو اللاأمل من منطلقات التخطّي لمكوّنات الإنسان الفلسطينيّ الراهن.59‬‫من هذا المنطلق، تشكّل كلّ هذه المساءلات طرحًا مقلقًا لفحوى السير مع التيّار المتدفّق. المساءلة هنا تشويشٌ للاطمئنان الممتلئ بفكرة اختيار الأسهل، أو الموجود، وتشكيكٌ في نجاعة السير في التَّلَم الواحد. المساءلة من هنا حفرٌ لمسارات وجوديّة لم يتمّ حفرها بعد، والأمل هنا هو أملٌ ماهيّته الشكّ والخيارات الزئبقيّة.‬2.2وسام جبران: اللاأمل بوصفه تشظّيًا بنّاءً ومُبدعًا‫من جهته يلوذ وسام جبران إلى الذات في زمنٍ ”ما بعد حداثيّ،“ تساقطت فيه الأفكار الشموليّة والأيديولوجيّات والسرديّات الكُبرى، ثمّة فقدانٌ للأمل من الأحلام الواسعة، ومن المستقبل الذي بات ”في كفّ عفريت،“ وثمّة عودة إلى الذات والرهان عليها، لا بوصفها ذاتًا جمعيّة، بل بوصفها ذاتًا ”بلا ظلّ،“ فردانيّة ارتحاليّة، ومجنونة خارجة:‬‫أرتكي على حافّة الشّمس والأرض كبريت‬‫لا شيءَ غير الجنون يتقدّمني ولا ظلّ لي …‬‫كأنّ الكون ملجأ حلمٍ،‬‫يستشرف الآتي‬‫في كفّ عفريت60‬‫يدفع اللاأمل إلى الرهان على الذات بعد أن يشعر الشاعر بالخذلان من العالم، بنُخَبه وشعرائه وقدسيّه ومقدّساته:‬‫أجالس الصّمتَ. أخاصرُهُ، وأرتق الضّوءَ.‬‫أغوصُ في ثقب نملةٍ وأطالع الغدَ‬‫أنسجُ حصنيَ معتنقًا وهن العناكب،‬‫أطرّزُ صمتي فوق الجباهْ‬‫هكذا تسمو قضيّتي‬‫هكذا، من عليائها، تودّعُ الإله.‬‫لا سبيل بعد الآن، يؤدّي إلينا سوى درس النملة:‬‫لست شاعرًا لأصنع من الموت قصيدةً لوطنٍ يُحاصرني من أسفله إلى غده.‬‫لست شاعرًا لأثأر من أفقٍ معدنيٍّ بالكلمة.‬‫لست نبيًّا لأتباهى بعصا تشقُّ الضّياعَ إلى ضياعيْن،‬‫وأُحيي الموتى ليموتوا مرّتيْن، أو أحارب بشرًا، هُمُ أعدّوا لإلهي اللُّغةَ والأبجديّة.‬‫لست إلهًا ولا أشتهي أن أختنقَ في هيكل بؤسٍ فوق تلّةٍ وأفتعل قضيّة. قضيّتي يا إخوتي تعرفها النّملةُ: قضيّةٌ شخصيّهْ.‬‫لكنّها كالبذرةِ حين أموت، تصعدُ، تُشاكسُ الجاذبيّهْ.61‬‫في الخروج انتشارٌ لا يتوقّف عند ماضٍ بعينه أو حاضرٍ أو مستقبل؛ انتشارٌ يُتقن الابتعاد عن شباك اللغة وفخاخ التفاصيل وألغام الزمن، لينظر من بعدٍ ومن مسافةٍ تليق بكشف الحقيقة من دون ”تخريبها،“ إلّا أنّ هذا غير ممكن، فمجرّد النظر إلى الحقيقة يغيّر فيها، ويُخصبها بالأسئلة الجديدة. إنّ النظر إلى الوجود هو، في ذاته، فعل تدخّلٍ وحضور لا يترك الوجود على حاله، بل يصير الوجودُ وجودَ الناظر إليه وحسب. من هنا، فإنّ فعل ”التخريب“ هو ابن النظر، وما النظر غير البحث والاستكشاف والفضول والرغبة الواعية:‬‫أبحثُ في أشياء الطبيعة عن طبيعة الأشياء‬‫ثمّ أتركها خلفي مُخصبة بالأسئلة.62‬‫لكنّ ”الوجود“ بوصفه سلطة رمزيّة وسلطة خطاب لا يقبل بهذا النظر/التخريب؛ يعدّه انتهاكًا وتمرّدًا وتدخّلًا وتطاولًا وانتقادًا، وهنا، يبدأ فعل تشكّل الهويّة بوصفه فعلًا جدليًّا واحتداميًّا. الهُويّة لا تنشأ ولا تتشكّل خارج الصراعات والاحتدامات، أو لنقل، لا تتشكّل بدون الآخر.‬‫تشكيل الهويّات فعل رفض واصطدام يُلقي بظلاله على صانع الهويّة القَلِق، لا على وارثها المطمئنّ، وتشكيل الهويّات فعلٌ سوداويٌّ أحيانًا، وغاضبٌ، بل حتّى يائس فاقد للأمل في بعض الأحيان، لكنّه في ذاته ووجوده فعل يعيش على أمل تغيير الوجود، أو التأثير فيه، أو إحالته من ”الإلهيّ“ إلى ”الإنسانيّ“:‬‫بأصابعنا‬‫يمسح الله جبينَ الكون | بأصابعنا.63‬‫ويقول:‬‫حليب الآلهة لا يروي ترابي …‬‫خالعًا قميص الوقت،‬‫أناجي الإله الذي فرّ من هنا دون رجعةٍ.64‬‫فُقدان الأمل في شعر جبران ليس موازيًا أو مطابقًا لليأس، بل هو إعلان موقف، أو هكذا ينبغي له أن يكون. إنّه الخروج من الزمن اللاهوتيّ، والزمن السلطويّ، والزمن الأبويّ … إنّه ”خلعٌ لقميص الوقت،“ وانتشارٌ في الزمن بوصفه ”لا زمن،“ أو زمنًا خارج الأزمنة المؤطَّرة والمؤطِّرة. هنا، يصير الفعل صامتًا متأنّيًا لديه، منغمسًا في غياب قويّ الحضور بقدر ما يترك من ثراء تأويليّ.‬‫على صدركِ، أحفرُ كلماتي بصمتٍ‬‫كما الكونُ يكتبُ الثُّريّا‬‫على صدرك، حيث الموت رفيقي‬‫أنغمسُ‬‫ثمّ أُبعَثُ فيكِ حيّا.65‬‫واللاأمل، هو لا أمل من خيبات الحاضر، ووطأة الماضي الموروث، لكنّه ”الأمل“ في المستقبل الآتي:‬‫وعلى صدركِ‬‫تتناوبُ القُبلاتُ العابرةُ قتلي‬‫فيا صليبي المُتعب هيّا‬‫احملني إلى دربك الآتي‬‫واجعل من موتي لك مُحيّا.66‬‫فُقدان الأمل، بما هو موقف ورؤية، هو بمعنًى ما شكلٌ من أشكال الأمل وتجلّياته، لا الساذجة منها بل تلك التي ترى النور من أعماق الوحل والظلمات، وانطلاقًا من التجربة والجروح والمكابدة. تنتِج هذه النصوص اللاأمل بوصفه تشظّيًا بنّاءً ومُبدعًا، والتشظّي، فلسفيًّا، لا يكون خارج تشظّي الزمن، حيث لا فلسفة خارج سؤال الزمن، فلا إبداع إذن من دون الخروج من الزمن بوصفه إطارًا سلطويًّا متحكّمًا باللغة والأفكار والعقل. هكذا يصير اللاأمل مرادفًا للّازمن، أو يصير انتشارًا لا يقبل التأطير، أو يصير عبثًا كونيًّا يُعيد ترتيب النجوم من جديد. يقول الغائب:67‬‫أن تكونَ بلا اسمٍ‬‫أن تكونَ بلا ولدْ‬‫فلا أنتَ امتدادٌ ولا أنتَ البدايهْ‬‫ولا أنت المعاني ولا أنتَ الكِنايهْ‬‫لا في الكتابِ أنتَ‬‫ولا في الصلاةِ‬‫لا في العُقْرِ‬‫ولا في السُّلالَهْ‬‫لا ممالكَ لك على هذه الأرضِ‬‫لا عُروشَ لا جَلالَهْ‬‫مملكَتُكَ‬‫في غير هذه الدُّنى‬‫والأرضُ تعرّتْ لغازٍ‬‫ولّى مِن هنا‬‫وغازٍ مِن هنا وَفدْ‬‫إنّ فُقدان الأمل عند جبران، شعريًّا، ليس خيارًا لا فكريًّا ورؤيويًّا وحسب بل خيار جماليّ كذلك؛ فقدان الأمل يدفعنا إلى ”الخلق“ من نوعٍ ما، أو إلى ”التكوين“ بوصفه غيابًا، يُراقبُ من دون أن يتدخّل، مؤجّلًا فعله عبر صياغةٍ شعريّةٍ لا تداعب الآنيَّ في الحاضر، ولا المتحجّر في الماضي، ولا المتوهّم في الآتي. خيارُ الغياب هو خيار اللاهويّة، بوصفها هويّةَ انتشارٍ في الأزمنة والأمكنة والوجدان.‬‫تحدّى الاثنان، غنايم وجبران، كلٌّ على طريقته الخاصّة الخطابَ الرمزيّ لجيل المؤسّسين في الشعر الفلسطينيّ، وكلاهما ربط هذا التقويض الشعريّ بالتواشجات القوميّة والفرديّة للصراعات الوجوديّة للأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة. يرى كلّ منهما ما تحت سطح الوعي، يسردان مشاهد الوعي الكابوسيّ، وتجلّيات رعب الروح المعذّبة وأشكال ”الخروج من العقل.“ يتمثّل جزء أساسيّ (ولكن ليس جزءًا رئيسيًّا) من الأهمّيّة الثقافيّة لكلّ من غنايم وجبران في حقيقة أنّهما أعطيا حيّزًا شعريًّا لحالات الأزمات البشريّة، والتي أفردت للأمل واليأس والتناقضات واللايقينيّة وعدم الملاءمة تعابيرَ تقوّض الكلام المعياريّ من داخل اللغة الشعريّة الفلسطينيّة.‬‫ويمكننا في هذا السياق استعارة مصطلح ”وقف/قطع“ سيزورا (caesura) للتدليل على مفهوم الأمل لدى كلٍّ من وسام جبران وريم غنايم، لما يحتويه من دلالات الجمع بين القطع والاستمراريّة أو الانفصال واللُحمة، وهو مفهوم يتماهى مع إلغاء تقاطبيّة الأمل واليأس عند كليهما. يُستعمل هذا المصطلح في علم الموسيقى ويعبّر عن مسافة أو وقفة في أثناء التسلسل الموسيقيّ. وفي الشعر هو مفهوم عروضيّ يسمّى ”الوقف،“ وهو قطع سَير الإيقاع في منتصف بيت الشعر تقريبًا.68 كذلك يُستعمل هذا المصطلح في علم النفس للدلالة على استمراريّة الحياة حتّى لو بدت متوقّفة ومقطوعة عمّا قبلها، يقول سيغموند فرويد (Sigmund Freud، ‫1856–1939‬) في هذا السياق: ”بين الحياة في الرحم ورضاعة الطفولة المبكرة، هناك استمراريّة أكبر ممّا تسمح لنا سيزورا حدثِ الولادةِ أن نصدّق.“69 وبهذا المعنى، فإنّ مصطلح ”سيزورا“ يتضمّن في داخله فكرة أنّ هناك سكونًا، وعلى الرغم من أنّ هذا السكون يقطع، فإنّه جزء من تسلسل مستمرّ. تتيح لنا نظريّة السيزورا التأسيسيّة أن نفهم أنّ انفصال شيءٍ عن شيء بشكلٍ لا لبس فيه قد يعمينا عن رؤية الاستمراريّة الشديدة.‬‫هذه اللحظة المبكرة التي تنطوي على دراما قويّة ودمويّة من الانفصال سويّة مع استمراريّة الوجود، تحفر فينا لأوّل مرّة معرفة الموت. وهكذا، نجد أنفسنا في الحياة نغطس في آماد سيزوريّة لحالات وأحداث نفسيّة قد تبدو منفصلة، ولكنّ بينها استمراريّةً وتلاحقًا: بين الذات والآخرين، بين الحالات النفسيّة المختلفة، بين الداخل والخارج، بين اللغة الأمّ ولغة الأب، بين دوائر الانتماء الحقيقيّة والفضاء خلف الهاوية، وأساسًا بين الأمل واللاأمل.‬‫إنّ العلاقات الوجوديّة التي يؤسّس لها كلٌّ من جبران وغنايم في محيطهما المعيشيّ المتشابه بعض الشيء، وحالات القطع اليوميّة الناتجة عن الصراعات القوميّة أو الاجتماعيّة أو حتّى الفلسفيّة؛ كالضياع والاهتداء القلِق أو اللااهتداء، والانتماء الهويّاتيّ الواضح أو البلبلة الهويّاتيّة الحركيّة، وتخبّطات الذاكرة الجليّة أو المشوّشة، كلّها علاقات سيزوريّة لا يتمّ البتّ فيها في شعرهما، إنّما يطرحان بديلًا بينيًّا يعتمد على القطع والاستمراريّة سويّة. وهكذا، فإنّ كلًّا من جبران وغنايم لا يصفان في أشعارهما وكتاباتهما حالة سيزوريّة فقط، بل يؤسّسانها تجريبيًّا. إنّ سعيهما وراء المعنى، وقد يكون سعي القارئ أيضًا، ليس عبور السيزورا ووصول شاطئ الأمان، بل توسيع إمكانيّة الحركة والتدفّق الحرّ بين ضفّتي نهر الزمان والمكان، أو بين جانبي السيزورا. يُعَدّ الانتقال أو التدفّق بحدّ ذاته أمرًا مهمًّا، فهو ليس تحرّكًا للأمام نحو الحلّ أو الشفاء، ولكنّه حركة مكانيّة تسمح بالتفكير المستمرّ وتطوير التفكير في احتمالات وجود مختلفة. إنّ مفهوم إلغاء القطبيّة بين الأمل واليأس في شعر كلّ من جبران وغنايم ينمّ عن محاولة كلّ منهما طرح الحلول النابذة للأوضاع الديستوبيّة الفلسطينيّة، تلك الأوضاع التي لا تحتمل وفق عقيدتهما حلّ الأمل الممثّل لحالة متفائلة، ولا اليأس الممثّل لحالات التشاؤم المعطّل للحركيّة.‬‫تبدو السيزورا في هذا السياق كأنّها مشبك عصبيّ (synapse) يقود إلى راديكاليّة شعر غنايم وجبران، فهما يقدّمان موقفًا حداثيًّا يؤكّد أهمّيّة ”الحياة الداخليّة.“ ومع ذلك، وعلى أيّة حال، فإنّ ”داخلهما“ موجود في ”الخارج“ و ”خارجهما“ في ”الداخل“ بطريقة جذريّة لدرجة أنّ شعرهما يقوّض مفهوم ”الداخل“ الحديث ولا يمكن ترجمته إلى لغة التحليل النفسيّ الذي يميّز بين ”الحقيقيّ“-الداخليّ و”العَرَضيّ“-الخارجيّ. شعر جبران وغنايم هو مساحة سيزوريّة تشقّقت فيها الحدود بين رجل/امرأة؛ داخل/خارج؛ حيوان/آدميّ، والأكثر من ذلك: أنّ القطع/الاتّصال ليس فقط بين رجل/امرأة، ولكنّه أيضًا بين ما ليس من النوع نفسه: بين الحيوان والموسيقى والمجتمع والجوقة والحضارة. إذا قمنا بتعريف العمليّة الشعريّة لديهما على أنّها مشروع ”مجنون،“ فإنّنا سنفتقد هذه الراديكاليّة الثوريّة، لأنّ شعرهما يزيل المقاطع الرأسيّة التي ينتجها المجتمع ويحوّلها إلى أقسام عرضيّة، أقسام مكانيّة، ضخمة، مفتوحة كجرح، ولكنّها في الوقت عينه تتدفّق كنهر من الحياة، كتجربة جمع، حتّى عن طريق الألم، مشاركةً وليس انفصالًا.‬‫إنّ تجربة الأمل واللاأمل في تجربة كلٍّ من جبران وغنايم تشابه في صياغتها المعضلةَ المحيّرة المثيرة للشكّ على الدوام، إنّها الأبوريا (aporia)70 التي تجابه طريقًا مسدودًا للتفكير، وتدعو إلى إعادة صياغة الأسئلة المطروحة. ويشبه توجّه كلّ من جبران وغنايم في تعاملهما مع محو تقاطبيّة الأمل واليأس ما كتبه دريدا (Derrida، ‫1930–2004‬) عندما عرّف الأبوريا على أنّها ”أرض نزاع محرّمة،“ حيث يصبح عدم القدرة على العبور هو عدم القدرة على تشكيل الحدود أو إقامة هيكلها أو مشروعها أو تحديدها. إنّ تعريف الأمل واليأس في شعر غنايم وجبران مناقض للحدود: الحدود هي دائمًا ”الحدود غير المرئيّة،“ وينطبق الأمر على ”حدود الحقيقة“ أيضًا. هذه الحقيقة تكون دائمًا محدودةً ولانهائيّة على حدٍّ سواء، وتشير إلى فجوة أو مأزقِ التعريف نفسه. كلّ خطاب عن الحقيقة أو العقلانيّة أو العدالة أو القانون، أو الثقافة أو الشعر، ملزم إذن بعمل أبوريّ أوّليّ: يجب أوّلًا صياغة أشكال استحالته، أي الطريقة التي يمكن بها تفكيك الخطاب السلطويّ من هالته المتعالية. هكذا تمامًا تأتي تجربة غنايم وجبران في ما يتعلّق بإلغاء الحدود الفاصلة بين الأمل واليأس، إنّها في نهاية المطاف محاولة لإعادة قراءة المعطيات الثقافيّة ضمن وضعيّة قوميّة واجتماعيّة أبوريّة وصل بها الاثنان إلى طريق مسدود ممّا يستوجب إعادة صياغة الأسئلة الأنطولوجيّة والثقافيّة الفلسطينيّة من جديد. إنّها عمليًّا تجربة تخرج ضدّ الطريق المسدود للطروحات الفلسطينيّة الثقافيّة الراهنة، محاولةً إيجاد بدائل ثقافيّة تخرج عن تعريفات تقليديّة سائدة وواضحة، نحو طروحات ملتبسة وغامضة تثير المساءلات وتعيد تعريف ماهيّة الإنسان الفلسطينيّ.‬‫وتتماهى تجربة جبران وغنايم في ما يخصّ الأمل واللاأمل مع مفهوم المابعديّة أو الـ”post“ بصفته إحدى السمات المميزّة للثقافة المعاصرة وتعريفها الذاتيّ، وعمليّةً تتجاوز ذاتها؛ إذ تشير بادئة ”post“ إلى أنّه بغضّ النظر عن استمرارها المحتمل فإنّ ما يميّز الثقافة المعاصرة هو عدم ثقتها بالحاضر؛ بدلًا من ذلك، فهي تتبنّى عمليّة التغيير والتأخير، والتي تحوّل الـ ”post“ إلى قيمة في حدّ ذاتها، تحوّلها إلى مانترا (mantra)، تعويذة سائدة، أو إلى استعارة للتفكير غير الآمن بثقافة السائد. كذلك هو الأمل الذي يطرحه كلٌّ من جبران وغنايم، إنّه المابعد أمل المختلف في ماهيّته عن تصوّر الأمل التقليديّ في الشعر الفلسطينيّ الراهن، إنّه الأمل البديل؛ حالة من الانزياحات والتجاوزات، هذا الأمل الذي يطرحه الشاعران يعكس بادئةً المابعديّة سوداويّةَ التأخّر: زمنًا عائمًا ودوريًّا ومُعادًا تدويره، يسعى جاهدًا إلى إعادة تعريف نفسه بواسطة موقف رافض ومصادر لتعريفات ”كيانيّة“ فلسطينيّة سابقة.71‬إجمال‫يمثّل كلّ من الشاعرينِ وسام جبران وريم غنايم صوتًا شعريًّا فلسطينيًّا يعيد قراءة المعطيات الثقافيّة العربيّة والفلسطينيّة من أجل إيجاد متخيَّل ثقافيّ بديل. ويحمل هذا البديل الثقافيّ لديهما واقعًا بطلت فيه التعريفات المتقاطبة والثنائيّات، مثل الأمل مقابل اليأس، والخوف مقابل الجرأة، والبطولة مقابل الانكسار. والسمة الأساسيّة للعمليّة الشعريّة لدى كلٍّ منهما هي التجاوز، تجاوز الوضوح ”المهترئ“ بنظرهما لإعادة تعريف دوائر الانتماء المتعدّدة، هذا الوضوح البعيد كلّ البعد من تمثيل الواقع الفلسطينيّ الحقيقيّ. وإذا كان كلّ من الأمل واليأس يطرحان نوعًا من الحلول الكيانيّة للوضع الفلسطينيّ بكلّ أوجهه، فإنّ كلًّا من غنايم وجبران يتبنّيان الالتباس والشكّ مسارًا مفتوحًا لحلول لم يتمّ تبيانها بعد. ويعمد هذا المسار إلى انتهاك المفاهيم الشعريّة الفلسطينيّة الراهنة وزعزعتها في محاولةٍ للخروج إلى مساءلة فكريّة عميقة، مفادها الرؤية الحركيّة والزئبقيّة المتجدّدة نحو الذات والجماعة، بل نحو الكون.‬‫بمعنى معيّن، فإنّ يوتوبيا الأمل لدى جبران وغنايم، إن وُجدت، هي يوتوبيا ما بعد حداثيّة ومابعديّة: ليست مكانًا ولا تتيح السيطرة، وليست كمالًا، ولكنّها ربطٌ للأجزاء من دون التحام وبدون تعزيز الأقطاب أحدها على حساب الآخر. حتّى هذه اليوتوبيا التي تحتوي مسبقًا على شكوك وتحدٍّ للكلّيّة – السمات التي تميّز ما بعد الحداثة – لا تتجسّد في نصوص كلّ من جبران وغنايم. ومع ذلك، فإنّ في نصوصهما نوعًا من الأمل – ترافقه برأيي نغمة نبويّة؛ إنّها اليوتوبيا البديلة والمشروطة، تلك التي ستشكّل أسلوب حياة، وهي يوتوبيا مناهضة للنُّصب التذكاريّة التقليديّة الممثّلة للخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ الراهن، لكنّها مع ذلك تشكّل نُصبًا تذكاريّة للأمل لأنّها تمثّل انقلابًا نفسيًّا سيسمح بتعايش الأكوان المتقابلة والضدّيّات المتقاطبة. إنّها الحيّز المركّب الذي يسلّط الضوء على التعقيد التاريخيّ والسياسيّ.‬‫لا تستجيب قصائد غنايم وجبران عمليًّا بكلّيّتها لحالات الاغتراب الخمس التي حدّدها عالم الاجتماع ميلفين سيمان (Melvin Seeman، ‫1918–2020‬)؛ إذ يرى سيمان الاغتراب في العجز (عدم القوّة)، واللامعنى، واللاعرفيّة، والعزلة والقطيعة الذاتيّة،72 وهي في مجملها حالات الإنسان المنسلخ عن اللاأخلاقيّة الاجتماعيّة واللامعياريّة والخلل الاجتماعيّ وتفسّخه واستلابه (anomie)،73 بل هي نصوص مغرقة بالترابط مع بيئتها ولكن عن طريق كشف سَأَم هذه البيئة وعجزها عن تقديم بدائل أخلاقيّة ووجوديّة. وبهذا يصبح نصّ كلّ من غنايم وجبران الشعريّ نصًّا لا نفاديًّا (inexhaustibility)؛ أي أنّه نصّ لا ينضب ويحمل في طيّاته عنصر التضادّ للسائد والمتعارف، وتصبح صفة التضادّ للنصّ الأدبيّ عنصرًا للانفاديّته، على حدّ قول روس (Ross، ‫1935–‬).74 هذا النصّ اللانفاديّ يتيح للقارئ التعامل معه على أساس الندّ ويمكّنه من إعادة تشكيله من جديد وفق تحليل الإجراءات الأسلوبيّة للعناصر الموسومة، أي غير المتداولة.‬ http://www.deepdyve.com/assets/images/DeepDyve-Logo-lg.png Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya Brill

مفهوم الأمل واللاأمل في الشعر الفلسطينيّ: ريم غنايم ووسام جبران نموذجين نصّيّين

Loading next page...
 
/lp/brill/GKIAAkMDSU

References

References for this paper are not available at this time. We will be adding them shortly, thank you for your patience.

Publisher
Brill
Copyright
Copyright © Koninklijke Brill NV, Leiden, The Netherlands
ISSN
2772-8242
eISSN
2772-8250
DOI
10.1163/27728250-12340028
Publisher site
See Article on Publisher Site

Abstract

1تقاطب الأمل واليأس في الشعر الفلسطينيّ‫يتأسّس الشعر الفلسطينيّ الراهن على جدليّة الأمل واليأس. فشِعْر المقاومة الفلسطينيّ هو حلم بأمل تغيير الوضع الراهن بوضع أفضل أو استبدال جحيم الحاضر بفردوس المستقبل، إنّه في نهاية المطاف امتداد لرؤية الفرج بعد الشدّة أو تربية الأمل. أمّا اليأس فهو في هذا السياق انعدام كلّيّ لوجود حلول مستقبليّة يمكنها أن تمحو الاستلاب والعدميّة وتبثّ التفاؤل من جديد في الإنسان الفلسطينيّ وتطلّعاته الوجوديّة.‬1.1المقاومة بصفتها فعلَ أمل وفرجًا بعد شدّة‫حاولت السيرورات الفلسطينيّة الشعريّة الحديثة إيجاد بديل للواقع المأساويّ الذي حلّ بالشعب الفلسطينيّ مع بداية النزاع القوميّ ليكون تعويضًا عن فاجعة فُرضت عليه. من هنا، تشكِّل المقاومة في الشعر العربيّ الفلسطينيّ الحديث ركيزةً أساسيّة تؤثّر في مضامينه وشكله، بل إنّ صبغته المركزيّة كانت تستند إلى تسميته بـ”شعر المقاومة“ نتيجةً للأحداث التاريخيّة والأزمات القوميّة التي عصفت بالشعب الفلسطينيّ مع بدايات القرن العشرين. ومع أنّ هذه الثيمة المهيمنة على الشعر الفلسطينيّ قد موضعت مضامينه وأشكاله ضمن الأدب الأيديولوجيّ المناهض والملتزم، فإنّها كانت تخدم أساسًا ثيمة الأمل بتغيير راهن الوضع الفلسطينيّ القائم على عناصر التهجير، والتشرّد، والخراب، والاعتقالات القسريّة، والإقامة المؤقّتة، والموت بتنويعاته المتعدّدة.‬‫تحوّل الأمل بذلك، بصفته فعلَ مقاومة متفائلًا في الشعر الفلسطينيّ برموزه المختلفة (كحلم العودة، ومفاتيح البيوت التي تمّ تهجيرها وهدمها، والإيمان بقدرة المقاومة على تغيير الحال)، تحوّل إلى أيقونة ثقافيّة ”عالية“ ووجوديّة راسخة في الشعر الفلسطينيّ الحديث، بل أيقونة أُحاديّة المسار، في حالات معيّنة، تحدّد أوجه التعبير الشعريّ هذا شكلًا ومضمونًا. تلائم علاقة الأيقونة العالية نظريّة إروين بانوفسكي (Erwin Panofsky، ‫1892–1968‬) التي تتعامل مع الأيقونة على أنّها تعريف ماهويّ يرسّخ التفكير التقليديّ. ويمكن رؤية هذا الموقف على أنّه يحيّد عمل الفنّ المستقلّ ويمتنع أيضًا عن وصف الطريقة الفريدة التي تَخلق بها الصورةُ أو الظاهرة الثقافيّة معناها.1‬‫إنّ ”تربية الأمل“ التي وسمها الشاعر محمود درويش (1941–2008) في الشعر العربيّ والفلسطينيّ على وجه الخصوص بقوله:‬‫هنا،‬‫عند مُنْحَدَرات التلال،‬‫أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،‬‫قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ،‬‫نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،‬‫وما يفعل العاطلون عن العمل:‬‫نُرَبِّي الأملْ.2‬‫تعبّر تربية الأمل أساسًا عن هذا التلاحم الرومانسيّ بين تحمّل المشاقّ وحلم الفرج بعد الشدّة. إنّ نهايات قصص الفرج بعد الشدّة في الأدب العربيّ نهايات سعيدة ومُرضية، وترتكز على مفهوم متفائل من الأمل يقضي بتحمّل العيش ضمن الظلم والقهر، بمعنى آخر، معايشة الفساد الأخلاقيّ والصبر على الضيم مهما كان قاسيًا بانتظار التحوّلات المصيريّة التي تغيّر الأحوال. وتربية الأمل وشعر المقاومة كقصص الفرج بعد الشدّة، يقضيان إذن بحتميّة الإيمان بأنّ مع العسر يسرًا، بكلمات أخرى، بحتميّة التحمّل والانتظار، تحمُّل الكرب والمكروه من العيش بانتظار الفرج واليسر في نهاية المطاف.3‬‫وتلتقي تربية الأمل في الشعر الفلسطينيّ مع تربية الأمل في الشعر العربيّ الحديث، تلك التي تتجلّى في شعر المقاومة العربيّ عامّة وشعر الشعراء التمّوزيّين الذين نشطوا على نحوٍ مبلور في العقد الثاني من القرن العشرين. يتقاطع شعر المقاومة العربيّ في فحواه مع شعر المقاومة الفلسطينيّة شكلًا ومضمونًا، أمّا الشعراء التمّوزيّون فهو لقبٌ أطلقه الشاعر والناقد جبرا إبراهيم جبرا (1919–1994) على مجموعة من الشعراء العرب مثل أدونيس (1930–)، وبدر شاكر السيّاب (1926–1964)، وخليل حاوي (1919–1982)، ويوسف الخال (1916–1987)، وغيرهم.4 وقد اشترك هؤلاء الشعراء في استعمالهم لأساطير القيامة بعد الموت، مثل أسطورة الفينيق وعشتار وتمّوز وأدونيس. وقد آمنت هذه المجموعة بأنّ الحياة الجديدة لن تصلح إلّا بعد الموت التامّ أو المحو والخراب التامّ. هكذا يتحوّل حلم القيامة بعد الموت إلى أمل وتفاؤل بالقادم الأجمل.‬‫ومن القصائد المهمّة في فلسفة تربية الأمل في الشعر العربيّ قصيدة ”سفر أيّوب“5 للشاعر العراقيّ بدر شاكر السيّاب. تتمثّل في هذه القصيدة ثيمات التحمّل والمعاناة من أجل الفرج الذي سيحلّ حتمًا بمعونة الله:‬‫لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاء‬‫ومهما استبدّ الألم‬‫لكَ الحمدُ إنّ الرزايا عطاء‬‫وإنّ المصيبات بعض الكرَم.6‬‫الرزايا من وجهة نظر الشاعر منّة من الله يبتلي بها عباده بكرم، إنّها المحن التي من الجميل الصبر عليها لأنّ الله سيأتي بعدها بعطاياه الجميلة:‬‫وإن صاحَ أيّوبُ كان النداء‬‫لك الحمدُ يا راميًا بالقدر‬‫ويا كاتبًا بعد ذاكَ الشفاء.7‬‫تكشف ثيمة الأمل في الشعر العربيّ عامّة عن مدى تشابك خطاب الشعريّة العربيّة الحديثة والخطاب الدينيّ والتراثيّ على حدّ سواء، إنّه الأمل الحالم النابع من فلسفة الرضا بالمحن والابتلاء من أجل الأمل القادم. تتقاطع تربية الأمل في الشعر الفلسطينيّ، إذن، مع التفاؤل بمستقبل أفضل في الشعر العربيّ، يأخذ الشعر هنا على عاتقه أن يكون وسيطًا لزرع الأمل وتخطّي المحنة الوجوديّة التي يمرّ بها الشاعر، تمامًا كما في ”سفر أيّوب“ وقصص الفرج بعد الشدّة.‬1.2اليأس بصفته فعلَ استلاب وتفكُّك‫تحوّلَ الأمل – هو الآخر – بصفته ثيمةً مميّزة للشعر الفلسطينيّ إلى تمظهرات عديدة تعكس الوضع الوجوديّ الفلسطينيّ الراهن بمساراته الحياتيّة المتنوّعة، وتقف إذّاك على تنوّع تعريف الهويّة الفلسطينيّة التي فرضتها المعايشات اليوميّة. إن المتتبّع للنتاج الشعريّ الفلسطينيّ يقف على حقيقة أنّه يعيش في الوقت الراهن حالةً من إعادة تقييم المشهد الثقافيّ، حالةً من تقييم النجاعة الوجوديّة التي يمثّلها الشعر الفلسطينيّ عامّة، وبالتالي حالةً من إعادة تعريف دوائر الانتماء والهويّة. من هنا، يطرح الشعر الفلسطينيّ في المشهد الشعريّ الراهن مجموعةً من التوجّهات المغايرة للتفاؤل الرومانسيّ الآمِل في شعر المقاومة، أوّلها خيار اليأس؛ القطب الآخر ونقيض الأمل، القائم على التعبير عن الوضع القاتم للأوضاع الفلسطينيّة. وهو يأس محكوم بوضعيّات وجوديّة مغلقة المسار ومعدومة الحلول بشأن مستقبل أفضل، فالفرج في هذه الأشعار لا يأتي بعد شدّة، لأنّ الشدّة وضعٌ قائم غير متحوّل البتّة. إنّ نظرةً متعمّقة إلى آخر النتاجات الشعريّة الفلسطينيّة تكشف عن تبنّي الشعراء الشباب قطبَ اليأس مسارًا للتعبير عن الحالة الوجوديّة البائسة التي يعايشونها. ففي المختارات الشعريّة غزّة أرض القصيدة،8 نقف على العديد من نماذج قطب اليأس الأنطولوجيّ، أو حتّى العدميّة9 أو العبثيّة10 مفهومًا معيشيًّا. يقوّض هذا المفهوم فكرة النهايات السعيدة للحالة المزرية أو لاحتمالات الخروج من المتاهة. ففي قصيدتها ”حليب مرّ،“ تخرج الشاعرة أمل أبو قمر عن النظرة البطوليّة المتفائلة التي تقضي برضاعة النصر من الطفولة، لتتحوّل إلى مفهوم تكريس الهزيمة والخوف في الجسد الفلسطينيّ المنهك، هذا الجسد الذي تحوّل من رمز للمقاومة والتصدّي والتحمّل، إلى جسد لا يورِث إلّا الضعف ولا يرث إلّاه:‬‫هل تدرك معنى أن ينمو في جسدك إرث الهزيمة والخوف‬‫والضعف ومرارة حليب الثدي..؟11‬‫يمكننا أن نرى السؤال المدمج بالنصّ الشعريّ علامةَ تحذير؛ إذ يمارس نمط الأسئلة العنيد في النصّ هجومًا على فكرة التوحيد؛ أي السير وفق مفاهيم التيّار المركزيّ، ويشقّ هذا السؤال بالتالي شرخًا ذهنيًّا في المرسِل والمرسَل إليه. السؤال علامة تحذير قبل السقوط في هاوية اللااحتمال، أو في هاوية اللاكلمات أو الكلمات التي لا تفي بغرض التغيير. إنّها علامة موجّهة إلى الداخل، ولكنّها في الوقت نفسه تفحص الظروف الخارجيّة.12 إنّ الموت، علامة اليأس التامّ أو نقيض الحياة والأمل، هو الحضور الوجوديّ الوحيد في الحاضر الفلسطينيّ والغزّيّ على وجه الخصوص:‬‫كلّ شيء فانٍ هنا إلّا الموتى …‬‫الموت هنا هو الأبديّة.13‬‫يتجلّى عمق اليأس بوحدانيّة بقاء الموت، أو العدم؛ الموت رمز البقاء في عالمٍ ملؤه الخراب والدمار، والموت بتعبير أوكسيمورونيّ14 (oxymoron) هو الامتلاء الوحيد؛ فالفناء فراغ وغياب، والموت باقٍ من غير منازع. هذه الأرض، التي كوّنت سابقًا رمز القيامة والمقاومة المتفائلة، تنعدم فيها الآن فرص النجاة على جميع الأصعدة:‬‫فدعونا مع الريح نروّض خذلاننا‬‫ونمسّد شعر الغباب‬‫نحن المدفونين بالأمس‬‫ماذا يسعنا أن نقول‬‫سوى أنّ‬‫النجاة؟؟‬‫كذبة.15‬‫يصبح اليأس في هذه الأشعار واقعًا حقيقيًّا، إنّه الواقع الأقرب إلى التعبير الصادق عن الحياة الفعليّة المعيشة يوميًّا، ويصير الأمل وهمًا مخادعًا لا يأتي بثمارٍ تحسّن الأوضاع الحقيقيّة التي يعايشها الفلسطينيّون في غزّة خصوصًا:‬‫وفي عين وحيِنا‬‫يوجد بؤسنا‬‫وفي بؤسنا‬‫قد لا يواتينا الهواء.16‬‫اليأس هنا خطاب ضدّيّ متقاطب مع ”الأمل المخادع،“ أو ”الأمل الفاشل،“ إذا صحّ التعبير، لأنّه لم يأتِ البتّة بأيّ إنجاز حقيقيّ.‬‫تصوّر هذه المختارات الشعريّة المغايرة تجربة الاستلاب17 والتفكّك (Anomie) في المجتمع الفلسطينيّ الفاقد للأمل، إنّها وفقًا لعالِم الاجتماع إميل دوركهايم18 (Émile Durkheim، ‫1858–1917‬) التجربة الحديثة في عالمٍ أُفرغ من الأعراف والقوانين الملزِمة؛ إذ لم يعد بإمكان هذا العالم غير المستقرّ توفير إطار وقائيّ ودليل أساسيّ للتفاعل الاجتماعيّ. وفي عالم غير مستقرّ، لم تعد السعادة البشريّة، التي هي ثمرة التوفيق بين التطلّعات الفرديّة والبنية الاجتماعيّة، ممكنة. تمثّل هذه المجموعة من الأشعار غياب الترابط بين تطلّعات الفرد الفلسطينيّ والبنية الاجتماعيّة غير المستقرّة التي تمنع تحقيق طموحات الفلسطينيّ العاديّ. وتضعف نتيجة ذلك الرغبةُ الطبيعيّة في السعادة الشخصيّة والأمل بالأفضل. إنّ النتيجة المترتّبة على هذه الحالة هي الارتباك والقلق، أي عدم القدرة على الاستعداد لحالات عدم الاستقرار المستمرّة. إنّها الحالة التي انخفض فيها المقياس القديم للقيم والأعراف، ولم يُنشأ في المقابل أيّ مقياس آخر ليحلّ محلّه.19 النتيجة الذهنيّة لهذه الحالة المعيشيّة المرتبكة هي جوّ التوتّر والضغط المستمرّ واليأس الذي يعيش فيه الإنسان الفلسطينيّ.‬‫بهذا، تسعى الكتابة في هذه المختارات إلى فعل التوحيد في ظلّ الشرذمة واليأس، وهي بهذا المعنى تخدم محاولة استعادة النظام المنطقيّ أو النفسيّ إلى مساره الصحيح وسط حالة التمزّق وانعدام الأمل. الكتابة الشعريّة، بصيغتها هنا، تقوّض وهم النظام الذي يتشكّل في مقاطع القصائد، وتوضّح أنّه لا يمكن إعادته وإيجاد تفسير له، وإنّما الكشف عن غيابه. إنّها كتابة المساءلة التي تثير التوق للتفسير وهي تؤثّر في اليقين غير المعلن، لتبقى ضائقة الشرخ أو الصدع كما هي. الواقع الداخليّ في نصوص هذه المجموعة يلتقي وجهًا لوجه بصدمة الفراغ ونقص السببيّة وانعدام الاستمراريّة.‬2نحو إلغاء تقاطبيّة الأمل واليأس في الشعر الفلسطينيّ: ريم غنايم ووسام جبران‫قبل أن نتناول موضوعة الأمل واللاأمل في شعر كلٍّ من ريم غنايم (1982–)20 ووسام جبران (1970–)،21 بصفتهما نموذجين نصّييّن يؤسّسان لنظرة شعريّة متشابكة وغير معهودة بالشعر الفلسطينيّ الحديث، رأيت من المناسب في هذا السياق التطرّق، بدءًا، إلى السمات العامّة لشعر كلّ منهما تمهيدًا لفهم أعمق لجدليّة مفهوم الأمل واللاأمل في نصوصهما الشعريّة. وهذا المفهوم، على ما سنرى، يلغي تقاطبيّة الأمل واليأس أو ضدّيّتهما لينتج مفهومًا جديدًا يطرح الشاعران بواسطته نظرةً مغايرة للواقع الوجوديّ الفلسطينيّ وللتطلّعات الأنطولوجيّة الفلسطينيّة المستقبليّة.‬‫يتعزّز انتماء الشعر الفلسطينيّ المعاصر في نصوص ريم غنايم ووسام جبران بالقدر نفسه الذي يخضع فيه هذا ”الانتماء“ إلى مساءلات وزعزعات تُخرجه من دوائر اليقين ومن تأطيرات الزمان والمكان النمطيّة، لتعيد تشكيله من جديد خارج كلّ إطار. ينتفي الانتماء هنا بمكوّناته السابقة وبوصفه حالة ثبات وطمأنينة من جهة، وبوصفه ضدًّا لآخرَ صداميّ. هو لا انتماء إذن، حيث لا النافية تقوم على تقويض مكنونات الانتماء بمعناه الانغلاقيّ/الصداميّ، وتحيله إلى حيّز التحوّل والتخطّي والمساءلة الذاتيّة الحركيّة ليُعيد تشكيل هُويّته من دون انتهاء عن طريق التجربة الفردانيّة الباطنيّة والوجوديّة، خارج الزمن بوصفه أداة تسلّط، وخارج المكان بوصفه ”وعدًا إلهيًّا،“ وخارج العلاقات الصداميّة التي تُنتجه، من دون أن يتهرّب من التواجه مع القوى التي تعمل داخل هذا الوعي المتشكّل وهذه المعرفة/الجماليّة الجديدة.‬‫”سفر الخروج“ من الانتماء للزمان والمكان بكلّ ما فيهما من تضميناتٍ يشكّل الخطاب السلطويّ، هو الخروج إلى اللاانتماء وإلى المنافي، وهو نقطة البداية في مشروعَيْ جبران وغنايم الشعريّين؛ إذ بدأ جبران حياته الشعريّة مع ديوانه إنت-anti-ماءات،22 وبدأت ريم غنايم مع ديوانها سيرة المنافي.23‬‫الشعور العميق بالغربة عند غنايم هو شعورٌ كامنٌ دفينٌ يرتبط بتلك المساحة التي تراهن عليها الشاعرة في ذاتها ”… آخر أسرارها،“ والتي تتشظّى برصاص الحداثة الولوجيّ المخترق، وبها ستتخطّى ”أكاذيب الهداية وقسوة النبوءات.“24 ألم المتكلّم في النصّ هنا هو ألمٌ وجوديٌّ ذاتيّ في مواجهة العالم وقوانينه؛ إنّه ألمُ المتكلّم الواقع بين طرفين صداميّين: التحريم والانتهاك، وهو ليس ألمًا مُنكشفًا ظاهريًّا مثرثرًا ”كثلاث أرامل“ ”ينتصبْنَ“ مثل ”ثلاث يماماتٍ“ هُنّ ”صيفٌ“/انكشافٌ تعرّ، وهنّ في الوقت ذاته الوجودُ في فراغه وغيبيّاته التي ترعى ”الغنم في الآخرة.“25 هو ألم مَنْ يعتنق الكذب الصادق الذي يُحيل الإنسان الفردَ إلى وجوده الواقعيّ الفاني والمنتهي في مواجهة حقيقةٍ كاذبة: ”فالحقيقةُ تأتأةٌ لا تنتهي.“26 هو ألمٌ و”نشازٌ عذابٌ“ يعيش في برزخ حواريّ لا صِداميّ بعيدًا من لغة الكتب البُرهانيّة و”تجارة الغيبِ“ والزمن المؤجّل، تجارةُ العدم الخبيث الذي ”يخرم السكينة كوردةٍ … يتاجر بألمي …“27 هذا الألم المرارةُ هو اللقاء مع ”السواد“ ومع ”الحقارة“ و”الدناءة“ التي يتمّ إقصاؤها من الذوات جسدًا، ومادّةً، ونفَسًا وأفكارًا؛ السواد لا نجده في الكلمات لكنّه حاضرٌ بقوّةٍ في الصور الشعريّة الكثيفة، أكان على مستوى التعفّن والموت الجسديّ: ”كخفافيشَ متفسّخة“ أم ”كرداءة مرثيّة،“28 أم على مستوى ”الخدر“ المدمّر لسائل الحياة الأحمر، و”رصاص الحداثة“ الذي ”يُشظّي آخر أسراري“ متسلّطًا على مساحة الصمت الباقية؛ المساحة التي ما زالت تحافظ على وجودها الفائق خارج منظومة الزمان والمكان. مساحةٌ تثق بوجودها التائه ”ثقة اللاشيء في مكانه،“ و”ثقة تدعو للخيانة/ثقة موجوعة …“29‬‫”في نهرٍ يتماوج، يُطلُّ وجهي،“30 من هنا تبدأ نبوءات، من هذه العبارة التي تلخّص مقولةً أساسيّة في هذا الكتاب، هي تجربة وجوديّة قلقةٌ مُلغّزة تعيشها الشاعرة ريم غنايم؛ تفتتح بها نبوءاتها وتختم بها بعد غوصٍ مُربِكٍ ومزعزعٍ تنحلُّ فيه الصور القائمة حين تمرّ في لجّة متاهاتها. هذه الإطلالة المتماوجة للذات، لا استقرار فيها إلّا في جوهر المياه/الحياة؛ مياه النهر الجارية بتدفّق قلق، حيث لا وقوف وسكينة، ولا رجوع إلى الوراء. من تماوجٍ يُطلّ منه الوجه قلقًا، قفزًا إلى العبارة الأخيرة في نبوءات، إلى تماوجٍ يتأرّق بين صُبح رائع كشيخوخة عاشق، وسحابة جارحة لا تمرّ، في آن معًا.‬‫هذا الصّبح‬‫رائعٌ كشيخوخةِ العاشق‬‫وجارحٌ كسحابةٍ لا تمرّ31‬‫لا يُطلُّ الوجهُ الفرديُّ المنفصل في وجوده إلّا من حياةٍ جوهرها التدفّق؛ التدفّق غير المستقرّ المعنيُّ بحركته وحسب، متّجهًا إلى ”أين“ خارج سؤال المكان؛ إلى تيه أكبر من تيه الحياة الواقعيّة الفانية بوصفها مِفتاحًا للكينونة التي لا تفنى، أي إلى حياةٍ/نهرٍ تتماوجُ مياهه في اضطراب ماجن متجاوز لِذاته، يتلذّذ باندفاعه مكتسبًا القدرة على مواجهة الموت. هنا تصير نشوة الالتحام بالبحر والانصهار في تيهه الأعظم في صلب علاقة غنايم بالموت. لا يُطلّ الوجه من الماء من دون أن يخضَّ الماء. وفي ”معموديّة“ الماء تجاوزٌ للذات، لا يمكن تجاوزه إلّا بـ”معموديّةٍ“ أخرى هي ”معموديّة النار“/معموديّة التجربة الحارقة: ”أراني أسير في موكبِ النار مع السائرين …“32‬‫لا تخطّيَ لسؤال الموت عند ريم غنايم إلّا عن طريق التواجه مع الموت، لا بوصفه نهاية، بل بوصفه الموازي المعيشيّ الناشز والمعذِّب والرديء والمتفسّخ والمدمّر والمشظّي/الموازي الحياتيّ الذي نُقصيه فينا موغلين في ”أكاذيب الهداية وقسوة النبوءات.“33 لا تخطّيَ في شعر ريم غنايم من دون المكوث داخل التيه؛ التيه بوصفه لازمن ولامكان، بل هو الذات البشريّة المغتربة التائهة في وجودها/الموجودة في تيهها.‬‫التّيه الخُنثى … التّيه اللئيم … (التّيه الملعون) تبًّا لك أيّها التّيه … تحرّرني من ظلام العدل‬‫وتهبني تيهًا لتيهي مثل غريبٍ لغريبٍ في أرضِ الغرباء.34‬‫ويقف المتتبّع لنصوص غنايم الشعريّة على ثلاث مراحل أساسيّة تكوّن مفهومها من الرؤية الشعريّة. المرحلة الأولى في مجموعتها ماغ: سيرة المنافي وهي مرحلة التقويض، مرحلة مليئة بالعنف، أو ”تصفية حسابات،“ إذا صحّ التعبير، مع مفهوم الذاكرة الفلسطينيّة، ومع تكرار الذاكرة وتكريسها. المرحلة الثانية تتمثّل في مجموعتها نبوءات، وهي مجموعة ذاتيّة تتّجه نحو السكون والهدوء الروحانيّينِ، وقد لجأت فيها إلى معالم التصوّف وعوالمه، ليس التصوّف الدينيّ، بل الداخليّ الروحانيّ والفرديّ الخاصّ. أمّا مجموعتها الثالثة التي تعدّها للنشر إمّا أو: قصائد بديلة، فتحتوي على حالة تجاوز، باحثةً فيها عن بدائل تتخطّى الخطاب الفلسطينيّ بمقوّماته الراهنة والتقليديّة؛ الواقع، والتاريخ، والماضي، والذاكرة ومفهوم الـ”الأنا“ الذاتيّة والجمعيّة التي لم تعد تمثّلها بمكوّناتها المألوفة.‬‫تبدو الشاعرة كما لو أنّها تستجيب لتيّارات الكلام التي لا يمكن السيطرة عليها، والتي تبدو ”فوضويّة“ أو ”غير قابلة للسيطرة“ ويبدو أنّها تلمس عتبة الوعي نفسها؛ ”عتبة الجنون“ نفسها. إنّ الاختراق الحداثيّ إلى حدٍّ ما في صبغتها الشعريّة يربط بين الكسر الحداثيّ للمعايير الشعريّة والصدع النفسيّ للحالة الوجوديّة التي تحياها الشاعرة بصفتها جزءًا من أقلّيّة قوميّة أو جندريّة، والذي يمثّل أيضًا أزمة في مواجهة المعايير الإنسانيّة البطوليّة لهذه الأقلّيّة. هذه الشاعرة ”المحرّضة،“ التي تتفوّق في استيعاب القيم الجماليّة لسيرورة الأقلّيّة القوميّة والأقلّويّة النسويّة وتتفوّق في تحقيق قيمها العمليّة، تمارس في شعرها ”الخطاب الزئبقيّ“ الجديد.‬‫عند جبران، يبدأ سفر الخروج واللاانتماء عن طريق تحرّره من ”سطوة الأب.“ ففي ”نشيد اللعنة،“ ضمن ”قصيدة كون لا زمن،“35 يُنشد الشاعر نشيده للّعنة بوصفها منفذًا لفهم ”اسم الأب“ وسطوته وضدًّا للانكشاف على اللذّة؛ هذه ”اللعنة“ التي تصير بوّابةً ضروريّة للخروج من ”سطوة الأب“ برمزيّتها. هنا، وفي نهاية النشيد، تنهار المقولاتُ الكبيرة (العتمة) التي تدعو إلى طمأنينة العقل: ”قالَتْ: العتْمَةُ العتْمَةُ العتْمَةُ | ضَعْ رأْسَكَ فَوْقَ صَدْري!“36 مقابل ”دعوة“ الرأس/المجرّة، إلى نبذ الأفكار الشموليّة الكبرى، ونبذ الكمال، ليلوذ بخطابٍ يفكّك أيقونة الكمال؛ لا خطاب الصراط المستقيم المرسوم سلفًا، بل خطاب التّيه المتحصّن في ذاته الصغيرة الشخصيّة، المحض شخصيّة، لكن الفاعلة: ”قُلْتُ: رَأْسي مَجَرَّةٌ تَبْحَثُ عَنْ تيهِها في ثُقْبِ نَمْلَةٍ.“37‬‫في شعر وسام جبران مضلّعٌ من المفاهيم والصور، لا يكون شعره من دونه ومن دون أن تكتمل أضلاعه أو ينغلق: مضلّع أضلاعه مركّبة، متعدّدة الأبعاد، من بينها، التيه/الخريف/الفقدان/ الهجرة، النُقصان/النضج، اللذّة/الصمت/الآتي/الانبعاث، الآخرُ/المرآة/تعدّد الذات، والآخر/اسم الأب/الله.‬‫في خطاب التّيه/خطاب البحث سؤالٌ لا جواب:‬‫ماذا تَقُولُ الفَراشَةُ لِلشَّجَرِ‬‫حينَ يَمْتَطي خَريفَهُ ويَرْحَلْ‬‫ويَصيرُ الأَصْفَرُ سَيِّدا‬‫وَجِلا‬‫أو يَقْتَفي التِّيهُ آثارَ التِّيهِ‬‫فلا يَجِدُ بَيْنَ الوُجُوهِ وَجْهَهْ؟38‬‫وفي القصيدة نفسها، تتنوّع الفكرة وتتّسع آفاقها مع الهَجر تارةً والرحيل تارةً والانبعاث تارةً أخرى.39 يتلاقى التّيه مع اللذّة باستمرارٍ في كون لا زمن:‬‫ها هيَ المَوْجَةُ التَّائِهَةُ‬‫تُمارسُ سِرَّها مَعَ صَخْرَةٍ نائِيَهْ‬‫وتُداعِبُ شَعْرَ المَغيبْ‬‫وَقَدْ تَدَلَّى على صَدْرِ الحَبيبْ40‬‫وها هو التلذّذ (عطر الغانية) يتشكّل في خطاب ”الجنون“ لا خطاب ”العقل،“ وفيما تتناقله الأبجديّة، لا اللغة، عن ”كمال“ عالق في لانهائيّته، في آخرة مُرْجأة:‬‫ها هُوَ عِطْرُ الغانِيَةِ‬‫يُلمْلِمُ جِسْمَهُ في جُنُونِ الرّيح.41‬‫لا مكانَ في شعر وسام جبران، وحده التّيهُ مكانه، حيث يتماهى الكونيّ مع الذاتيّ الإنسانيّ في بحث الإنسان الفرد عن ذاته بوصفِها آخر، ”فقدتُ وجودي | عثر عليَّ التّيهُ استوطَنْتُهُ.“42 ولا مكان في شعر جبران خارج اللغة؛ اللغة التي تقول وتُفصح بقدر ما تُسكتُ وتحجب، اللغة التي يكتب بها بمقدار ما تكتبُه هي. وهنا، لا يكون المكان إلّا بوصفه زمنًا كُلّيًّا لا اتّجاه له، كأنّ به حاضرًا ”يَمْضي“ إلى غدِه، حيث التاريخُ الذي تأتي منه اللغة يتغيّر باستمرار بفعل رؤيويّة اللغة الآتية من المستقبل، من الصمت، ممّا لم يُفصَحْ عنه بعد. ”نزلت إلى سوق التاريخ | عاريةً | أبتاعُ ساعةً قادمةً من نبوءة…“43 المكان، إذن، وجودٌ لغويٌّ إنسانيٌّ أبعد من أبجديّة اللغة؛ وجودٌ لم يتحقّق بعد، والمكان أكبر من المقدَّس الثابت المتسلّط، هو خيانةٌ دائمة وتجاوزٌ مستمرّ. يقول جبران:‬‫سنخرجُ مِنْ أرضِنا إليْنا‬‫سنُعيدُ كتابَةَ أسْفارِنا‬‫والمَتاهْ‬‫فأرضُنا أبعَدُ مِنْ الأبجديّة.44‬‫في هذا اللاانتماء للمكان انتماءٌ لكلّ مكان، لا بوصف ”المكان“ وطنًا أو مُسْتَقَرًّا أو مقولةً اكتملت، بل بوصفه منفى لكلّ وطن وتيهًا يؤدّي إلى متاهات، وسؤالًا يقود إلى أسئلة.‬‫لا تنتمي الذاكرة، في شعر وسام جبران إلى الماضي. الذاكرةُ ليست حنينًا سوداويًّا أو نكوصًا يأتي من عجزٍ عن مواجهة ظروف الحاضر وأسئلة المستقبل. الذاكرة ليست ”شيئًا ما هناك“ انقضى، نعرفه، نألفه، نرى فيه حلًّا أو ملاذًا، بل هي ذلك المخزون الذي لا نكون إلّا به، لا بوصفه ثابتًا يرتكز إليه حاضرنا ويوجّه مستقبلنا، بل بوصفه طينةً طَيِّعةً يُمكن العَوْدُ إليها دائمًا وإعادة تشكيلها من جديد. فالذاكرةُ للأحياء فقط، للرؤيويّين القادرين على تغيير الماضي ”أخلاقيًّا“ أو ”رؤيويًّا،“ أي انطلاقًا من فهم مستقبليّ آخر متجدّد. هكذا، وهكذا فقط، تكون الذاكرة حيّزًا حيًّا نابضًا مُثريًا، لا حاجزًا مانعًا أمام تطوّر الكائن الإنسانيّ. ”الذاكرةُ جدولُ خيانة يتلوّى | الخيانةُ بَعْثٌ.“45‬‫وبينما يغوص جبران في أسئلة وجوديّة يراها كبيرة قارئًا متأمّلًا أحيانًا، ومجرِّبًا لاعبًا أحيانًا أخرى، ثمّ كاتبًا مؤلِّفًا، مُستعيرًا لغته من قاموس ”الكونيّات“ و”الأفلاك“ البعيدة، ناظرًا إلى الوجود الإنسانيّ من علياء شاهق، فهو في الوقت ذاته، يتمعَّنُ في الأعماق الغائرة للإنسان بوصفه فردًا، مكمِّلًا استعاراته اللغويّة من قاموس التحليل النفسيّ والرصد الدقيق للمشاهد الإنسانيّة التي تشكّل مرآةً ما للإنسان الفرد في وجوده محض الأرضيّ ومحض الإنسانيّ. وبين هذا وذاك مساحاتٌ للإفلات والإفصاح أو الإحجام، وأماكن للصُّدَفِ ومعايشة الحياة و”الانْوجادُ“ في اللغة، إذا صحّ التعبير، على نحو تماهٍ متناهٍ معها وفيها، بحيث يمكنها أن تفاجئ، أن تشارك في الكتابة.‬‫لا تولد اللغة عند وسام جبران من رحم المعاجم أو الكلمات العاديّة، بل تتحوّل في نصوصه إلى مسكوكات لغويّة غريبة، نبتة في باطن الأرض تنتظر من يكتشفها فينال رضا الكشف والمعرفة. والعمل على نصوص جبران يعني بالدرجة الأولى ممارسة حفريّات معرفيّة ”خطيرة“ تؤدّي بثبات إلى اكتشاف سعة الكون أمام ضيق ما نمارسه من عيش ضمن الإطار. الحفريّات المعرفيّة في نصوص مجموعاته توصل القارئ النخبويّ إلى استيعاب كمّيّات الفكر المؤطّر الذي تتمّ ممارسة أركانه في كلّ لحظة من الوجود. هذا بالضبط ما تحاول هذه النصوص فعله، الكشف عن لا حدوديّة الكون وكيفيّة ملاءمة تفكيرنا في هذا المشاع الفكريّ اللامتناه.‬‫ويقف جبران من أبجديّة الصمت المخادعة على عتبة من معرفة الأشياء التي لا تُعرف إلّا بالحدس العميق. إنّه يحاور المقدَّس ذاته في محاولة لنزع القداسة عن أفعاله وانتقاده لنفسه من أجل دحر الخمول. لا يكتب جبران من أجل فعل التغيير أو الثورة ولكنّ نصوصه تؤدّي حتمًا إلى ثورة المعرفة العميقة بأمور الوجود، يفكّكها إلى أبسط عناصرها ويعيد خلقها من عناصر مختلفة، كيف لنا أن نفهم إذن:‬‫أولدُ من جديدٍ‬‫أولدُ من جديدْ‬‫ويُصبِحُ لي صوتٌ واسمٌ …‬‫هذا أكيدْ‬‫[…] أنْ أولَدَ كُلَّ يومٍ، كلّ يومٍ من جديدْ‬‫هذا هو … كُلُّ … ما أريدْ46‬‫لن نفهم هذا النصّ إلّا بواسطة فهم سيرورة شعر جبران القائمة على التصادم مع الموجود العفن والمؤطّر، وتجاوز موت الروح عن طريق مسايرتها لطرق العيش الخانقة بالبدهيّات. هذا جلّ ما يريد الشاعر قوله، لا يمكن العيش ضمن منظومات معرفيّة ووجوديّة أبديّة وذات لون واحد وطعم واحد وجماليّة واحدة وتكوين موحّد، الطينة التي تعجن حياتنا من جديد يجب أن تتغيّر على الدوام وإلّا أصابنا الإرهاق الروحيّ القاتل. أن نولد من جديد مقولة جدّ خطرة، إنّها بالحقيقة نفي مستديم لكلّ ما يُسمّى ماضويًّا، إنّها الحياة الحركيّة التي لا تقبل ضيم الثبات والجوهر الأبديّ الساكن. من هنا، تتفاعل نصوص هذه المجموعة بين الساكن والثابت على الدوام:‬‫تيهي طَريقي‬‫لَسْتُ في الكَوْنِ ساكِنًا، ولا عابرَ طَريقْ‬‫أنا الكَوْنُ حينَ لا أكُونُهُ، وحينَ لا يكُونُني الكَوْنُ:‬‫مَوجٌ أنا عالِقٌ في جَوْفِ بَحْرٍ غَريقْ47‬‫ليس التيه هنا إلّا مَفْرِقٌ لكلّ الاتّجاهات وهو بوصلة إلى الولادة من جديد، والولادة من جديد ضدٌّ للساكن. التيه هو الموج المتغيّر والزائر الدائم لشطآن الأمل.‬‫طائِرٌ..‬‫أَلِأنَّهُ فَقَدَ سَريرَ طُفُولَتِهِ؟‬‫أَلأَنَّ لَهُ أُمًّا، وَلَدَتْهُ ذاتَ يَوْمٍ وَقَتَلَتْهُ كُلَّ يَوْمْ؟‬‫طائِرٌ إلى الرَّعْدْ؛‬‫طائِرٌ إلى ذاتِهِ الّتي‬‫لَمْ يَلِدْها‬‫وَلَمْ يَجِدْها بَعْدْ48‬‫إنّ الحركة والسكون بوصفهما ثنائيّةً ضدّيّة أو متجانسة تدخل ضمن أغلب مجالات الحياة الوجوديّة للإنسان، وقد اختبرها جبران بشكل واضح في تفريقه بين الحياة والموت بوصفهما ثنائيّة ضديّة بارزة حيّرته وأعملت فيه الخيال ومحاولات التفسير الدينيّة أو العلميّة. ارتبطت هذه الثنائيّة، بمنظورها الفلسفيّ، بمفهوم التبديل والتغيير الذي يستند بالأساس إلى فعل الحركة. إنّها في هذا السياق تعبير عن فكرة بقائه أو فنائه. يلامس التغيير المنبثق من الحركة ثنائيّة الزمان والمكان، وبالتالي فهو يلامس ذات الإنسان التي تنظر إلى هذه الثنائيّة ضمن أفعال السكون والحركة. تحدّد ثنائيّة الحركة والسكون الأبعاد الموسيقيّة للنصّ الشعريّ؛ إذ يوظّف الشاعر لغته ودلالاته وتراكيبه اللغويّة من أجل التعبير عن ذاته المتموّجة تمامًا كأمواج الموسيقى التي تسرد حالات موسيقيّة نفسيّة أساسًا.‬‫يمكننا القول في هذه العلاقات الوجوديّة المختلفة في شعر كلٍّ من جبران وغنايم: إنّ التعامل مع موضوع الأمل واللاأمل لديهما هو تأسيس لفكرة المابعديّة (post) التي تحتفي بديناميكيّة تلغي الحاضر ولا تنقطع عنه في الوقت ذاته، أو هي فكرة خطّ التماسّ أو الأرض الحرام التي تجمع في داخلها مقوّمات إلغاء التقاطبيّة والضدّيّة، على ما سنرى.‬‫كنت قد ذكرت سابقًا أنّ الشعر الفلسطينيّ يطرح في المشهد الشعريّ الراهن مجموعةً من التوجّهات المغايرة للتفاؤل الرومانسيّ الآمِل في شعر المقاومة، أوّلها خيار اليأس الذي خضنا فيه أعلاه، أمّا الخيار الثاني الذي يطرحه الشعر الفلسطينيّ فيتعلّق بمحاولة إلغاء هذا التقاطب أو الضدّيّة بين مفهومي الأمل واليأس. وينتج هذا الخيار عن خوض تجربة قوميّة ووجوديّة خاصّة تعيشها الأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ. إنّها تجربة دوائر الانتماء والهويّة وكيفيّة تعريفها عن طريق الهمّ المعيشيّ المغاير الذي تواجهه هذه الأقلّيّة في الحياة اليوميّة. ويقوم هذا الخيار على انتهاك المفاهيم الشعريّة الفلسطينيّة الراهنة وزعزعتها في محاولة للخروج إلى مساءلة فكريّة عميقة، مفادها الرؤية الحركيّة والزئبقيّة المتجدّدة نحو الذات والجماعة، بل نحو الكون. وقد رأيت أن أمثّل لهذا الخيار بشعر كلٍّ من غنايم وجبران لما يطرحانه من لايقينيّة وجوديّة، ومحاولة عميقة لنسف التقاطبات البدهيّة في الثقافة العربيّة والعالميّة، ومحاولة لتآلف المتناقضات الوجوديّة ضمن الكتابة الشعريّة.‬2.1ريم غنايم والانفلات من فكرة الأمل‫تحتاج الإجابة عن سؤال الأمل في شعر ريم غنايم إلى نوع من المراوغة والانفلات من فكرة الأمل نفسها، في محاولة لتعريفها من بعد. وهو سؤال يعودُ بنا إلى فخّ التعدّديّة والأُحاديّة في مفهوم الأمل. الأمل لديها حالةٌ من حالات التوقّع والترقّب بحدوث شيء، بالرغبة في العثور أو الوصول. إنّه مفهوم سرابيّ يتقاطع مع مفهوم فيلسوف اليأس إميل سيوران (Emil Cioran، ‫1911–1995‬) في تعريفه لليأس والأمل: ”المزعجُ في اليأس أنّه بدهيّ ومُوَثَّق وذو أسباب وجيهة. إنّه ريبورتاج. والآن أمعِنوا النظر في الأمل. تأمّلُوا سَخاءَهُ في الغشّ، رُسُوخَهُ في التدجيل، رفضَه للأحداث، إنّه تيه وخيال. وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال تتغذّى.“49 الأمل لدى ريم، كما سنرى، سؤال المراوغة بعبارة السخاء في الغشّ. نعم إنّها ”تربية الأمل“ التي تحدّث عنها درويش، ولكنّه أمل من نوع آخر، لا يوحي بالتفاؤل ولا بالتشاؤم. ”تربية الأمل“ عندها استعارة للخيال المقموع، للأمكنة التي طغت عليها فوبيا التفكير في المستقبل. الأمل الذي تربّيه في شعرها هو وهمٌ، وفي الوهم تخييل، وفي التخييل حرّيّة ومساحات الأفق المفتوح. لذا لا ترى الأمل كلمة ساذجة، بل مفخّخة بالمعاني ونقائضها، تحمل الشيء وضدّه. ومن الجنون، على حدّ تعبير سيوران، إدخال الأمل في المنطق، على عكس اليأس في مرتفعاته وحيدًا أُحاديّ الاتّجاه واضحًا بريئًا لا مناورات فيه.50‬‫لقد ارتكن الشعر العربيّ القديم على افتتاحيّات الأطلال والبكاء عليها،51 البكاء وقطع الأمل، هكذا كانت بداية الإبداع في القصيدة العربيّة. على الشاعر أن يبكي القطيعة وأن يبكي الفقدان وأن يبكي غياب الأمل، ليأتي من بعدها فيض من الشعريّة وصورها. وقد عرفت الصوفيّة الأمل من رحم الانقطاع عن الأمل،52 هكذا قد تُعرَف الأشياء بأضدادها، ونقيضُها لا ينفصل عنها ولعلّه بشكل أو بآخر تحويرات عليها ولها، وهذا بالضبط ما ترمي غنايم إليه.‬‫هل يمكن أن تفصل الشاعرة اليأس عن الأمل؟ هل اليأس هو اللاأمل؟ أهو أصلًا نقيض الأمل؟ فالأشياء شعرًا، بحسب غنايم لا طباق فيها، بقدر ما هي انفتاح المفاهيم على بعضها. تمكث الشاعرة في حالة تفاوض مع المفهومين، لا تجدهما نقيضين، تجدهما يتناوبان ويتنافسان. إنّهما غريزتان حيوانيّتان في الكائن البشريّ، ولا يربطهما نظامٌ لغويّ أو نفسيّ بعينه. حينما تكتب عن الأمل، فهي تقوم بمحوه تمامًا، فلا تجده عين المرسل إليه، ويصير حضوره شكلًا من أشكال الغياب، وغيابه شكلًا من أشكال الحضور. اللعب والمراوغة في فتح الفكرة على أكثر من وجود، وأكثر من معنى، في سقف الحداثة المابعديّة، وفي سقف الحداثة المابعديّة الفلسطينيّة. فلسطين استعارة الأمل واستعارة اليأس، وكلاهما حاضران غائبان، الواحد في قلب الآخر. تقول:‬‫شاخَت قسماتُ وجهِ الرّمل‬‫وأنا أحاول أعوامًا فكّ أزراره زرًّا زرًّا.‬‫شاخَت قسماتُ وجهِ الرّمل مرّةً أخرى‬‫وأنا أُهينُ وجهَه المُجرم.‬‫ثمّ شاخَت قسماتُ وجهي‬‫حين أدركت أنّ وجعي ووجعه مأمآتٌ ونهايةُ أملٍ53‬‫”ونهاية أمل،“ من دون أن يقتصر الأمر على تعريف الأمل بلام التعريف. نهاية أمل واحد ضمن محاولات لا تنتهي. المحاولات التي تصل إلى شيخوخة الوجه والأشياء التي من حوله، حيث يوضع حدّ لأمل ما، لوهم ما، من دون أن ينتهي الأمل بعينه، الآمال في المحاولات. أمل ينتهي، ومحاولات كثيرة تبدأ تنفتح على آمال أخرى لا تنتهي. الأمل في ما هو قادم. إنّه اللعب بين المفرد والجمع، بين الطريق والوصول، بين نهاية الأشياء والطريق إليها:‬‫لا شيءَ يستأهلُ المقايضةَ بدهاء قلبِك.‬‫أنت الحرّ كالخطيئة..‬‫كاللعنةِ‬‫عذّب نفسكَ ما استطعتَ..‬‫عذّبها‬‫نفسكَ الطّاهرة كالخطيئة.‬‫عذّب سمات الأمل والدعة فيكَ.‬‫اشرط قلبكَ كما يُشرطُ شَرفُ الأقحوان.‬‫واسكُت..‬‫فالحقيقةُ تأتأةٌ لا تنتهي.54‬‫هكذا هي المعادلة في الشعر إذا ما تحدّثنا عن الأمل والحقيقة. الحقيقة تأتأة، الحقيقة صدى الكلام يتردّد، ولا ينتهي. الحقيقة لا يمكنها أن تكون اليأس، ولا يمكنها أن تكون الأمل الواعد بالسعادة. كلّ الأمل يكمن في العذاب، ثمّ الصمت. هكذا توجد الحقيقة في الأشياء الصامتة التي وجدت حرّيّتها في العذاب. إذن، الأمل لا يمكنه أن يكون سعيدًا إذا أراد أن يلمس الحرّيّة:‬‫اغفر لي وجهي..‬‫شُدّ عضديّ‬‫بمُعجزةٍ‬‫من معجزاتكَ..‬‫فكُلّي صياغاتُ أملٍ‬‫تأتي ولا تأتي55‬‫إذن، هكذا ترى نفسها، وهي ابنة المكان الذي يتحقّق ولا يتحقّق، يكون ولا يكون. في منطقة وسطيّة بين شيء يأتي ولا يأتي. لكنّه ليس مفردًا، لا يمكن للأمل أن يكون بصيغة المفرد، لأنّه حتمًا سينتهي، وفي النهاية موت.‬‫هكذا تجيب غنايم عن سؤال الأمل بوصفه صياغة إلى طريق الحرّيّة والوجود، إلى الحقيقة بأنّه صياغات كثيرة، تموت واحدة لتبدأ أخرى. وعليها أن تظلّ قابعة في هذا الحيّز الملتبس، في اللاوضوح، الغامض الذي لا تعريف له، هناك فقط تجد جوهر الأمل. هناك فقط، بين أن تكون ولا تكون، في الحدّ الفاصل بينهما، تستطيع أن تراوغ، وتهدم وتبني كما يحلو لها، تلك هي منطقتها الليّنة والزئبقيّة التي لا تعرف إجابات قاطعة، تمامًا مثل حال المكان: يسقط ولا يسقط، يموت وينجو، يحترق وينهض من الرماد. تقول في قصيدة ”الإبادة الجماعيّة“ (Genocide):‬‫سأسقطُ يومًا.. حقيقَةً مخمَليّة.‬‫ألِأنّ قلبي يرقص بطيشٍ كصحابيٍّ فتيّ يحمل علمًا بين النّاس‬‫ترشقون دَمامَتي بالحنّاء؟‬‫… سأعِدُ آل هذا الكَون بِمَوتٍ حراريّ يَحبسُ عُنوستَه الثّقيلة‬‫سأهندس معسكرَ إبادَةٍ يَليقُ بِخُبثِه ومن بَعدِها أرقعُ السّوادَ بالبياض الصّعب‬‫سأهدم أملًا وأشرط حالات النّهار والليل بظفري..‬‫وبوردةٍ في خرابٍ.. أحملُها وأردّد:‬‫أسقط.. لا أسقط.. أسقط.. لا أسقط56‬‫يتجلّى المفهوم البينيّ للأمل واللاأمل عند غنايم بوضوح في مجموعتها الثالثة إمّا أو: قصائد بديلة. هذه المجموعة التي تتجاوز فيها الشاعرة المعطيات الثقافيّة والتاريخيّة والسياسيّة الفلسطينيّة نحو بديل لايقينيّ، إنّها بدائل تشابه حيّز طبقة الأعراف في سورة الأعراف،57 إنّه حيّز تتساوى فيه المعطيات الضدّيّة والتقاطبات المتقابلة لإنتاج منطقة وسطى:‬‫عند تُخومِكِ أدركتُ أنّي الحيوانُ الأليف الزاحفُ في هاوية المعارف نحو هاويةٍ أخرى‬‫لا أجدُ يقينًا يزمّلني، ولا سرابًا يمدّ عنقه يتلصّص على زرنيخ القلب‬‫أزلتُ بيدِي حيّزك يكادُ يشبهُ حيّزي لا لشيءٍ إلّا لأنهي الشّكوكَ بومضةٍ‬‫لا لشيءٍ‬‫إلّا لأتوسّع في يقينٍ جديد‬‫ليسَ إلّا جلاء في زمن58‬‫إنّ الهاوية من هذا المنظار مسار للاستزادة من المعارف والكشف. إنّها ليست مسارات الموت اليقينيّ بل آفاق التواجد ضمن تخوم الشكّ المؤدّي إلى خوض تجارب الانفلات من المعطيات الجاهزة والبالية، بمعنى آخر إنّها المغامرة المزدوجة من الشكّ واليقين، إنّها جلاء لا يعرف السكون.‬‫إنّ خطّ التماسّ القائم على ازدواجيّة فهم الوجود عن طريق التعالي على طرفيْه، خطّ يطرح في ماهيّته أسئلة التحرّر من قوالب تفكيريّة مألوفة:‬‫في الخطّ الأخضر يبدأ ازدواجي من جديد:‬‫حريقٌ يتوسّط الخريفَ وألمي.‬‫لفمٍ لا لسان يقضمُ معجمه..‬‫لرخاوةٍ في الحبّ تقطعُ طريقَها إليّ أبدًا‬‫أشدُّ جوارحي.‬‫رمادُ حريقٍ يُسيء إلى سُمعتي عند عتباته‬‫رمادٌ غشّاشٌ يزجُّ اسمي في تيهِ الساعات والنكسات‬‫يخيّرُني:‬‫إمّا أثرُ نارٍ في حواشيّ‬‫أو انتدابُ ألمٍ يضرب جذورًا في فُصولي‬‫طبيعة هذا الرماد في الخطّ الأخضر الفاصل بين حيّزينِ متقابلينِ طبيعةٌ هجينة تزجّ الأنا الشعريّ المتكلّم في القصيدة أعلاه في مساءلات كيانيّة حادّة؛ تساؤلات هويّة تحاول كسر تضادّ الأسود والأبيض في انتماءاتها، وبالتالي تحاول رؤية الأمل أو اللاأمل من منطلقات التخطّي لمكوّنات الإنسان الفلسطينيّ الراهن.59‬‫من هذا المنطلق، تشكّل كلّ هذه المساءلات طرحًا مقلقًا لفحوى السير مع التيّار المتدفّق. المساءلة هنا تشويشٌ للاطمئنان الممتلئ بفكرة اختيار الأسهل، أو الموجود، وتشكيكٌ في نجاعة السير في التَّلَم الواحد. المساءلة من هنا حفرٌ لمسارات وجوديّة لم يتمّ حفرها بعد، والأمل هنا هو أملٌ ماهيّته الشكّ والخيارات الزئبقيّة.‬2.2وسام جبران: اللاأمل بوصفه تشظّيًا بنّاءً ومُبدعًا‫من جهته يلوذ وسام جبران إلى الذات في زمنٍ ”ما بعد حداثيّ،“ تساقطت فيه الأفكار الشموليّة والأيديولوجيّات والسرديّات الكُبرى، ثمّة فقدانٌ للأمل من الأحلام الواسعة، ومن المستقبل الذي بات ”في كفّ عفريت،“ وثمّة عودة إلى الذات والرهان عليها، لا بوصفها ذاتًا جمعيّة، بل بوصفها ذاتًا ”بلا ظلّ،“ فردانيّة ارتحاليّة، ومجنونة خارجة:‬‫أرتكي على حافّة الشّمس والأرض كبريت‬‫لا شيءَ غير الجنون يتقدّمني ولا ظلّ لي …‬‫كأنّ الكون ملجأ حلمٍ،‬‫يستشرف الآتي‬‫في كفّ عفريت60‬‫يدفع اللاأمل إلى الرهان على الذات بعد أن يشعر الشاعر بالخذلان من العالم، بنُخَبه وشعرائه وقدسيّه ومقدّساته:‬‫أجالس الصّمتَ. أخاصرُهُ، وأرتق الضّوءَ.‬‫أغوصُ في ثقب نملةٍ وأطالع الغدَ‬‫أنسجُ حصنيَ معتنقًا وهن العناكب،‬‫أطرّزُ صمتي فوق الجباهْ‬‫هكذا تسمو قضيّتي‬‫هكذا، من عليائها، تودّعُ الإله.‬‫لا سبيل بعد الآن، يؤدّي إلينا سوى درس النملة:‬‫لست شاعرًا لأصنع من الموت قصيدةً لوطنٍ يُحاصرني من أسفله إلى غده.‬‫لست شاعرًا لأثأر من أفقٍ معدنيٍّ بالكلمة.‬‫لست نبيًّا لأتباهى بعصا تشقُّ الضّياعَ إلى ضياعيْن،‬‫وأُحيي الموتى ليموتوا مرّتيْن، أو أحارب بشرًا، هُمُ أعدّوا لإلهي اللُّغةَ والأبجديّة.‬‫لست إلهًا ولا أشتهي أن أختنقَ في هيكل بؤسٍ فوق تلّةٍ وأفتعل قضيّة. قضيّتي يا إخوتي تعرفها النّملةُ: قضيّةٌ شخصيّهْ.‬‫لكنّها كالبذرةِ حين أموت، تصعدُ، تُشاكسُ الجاذبيّهْ.61‬‫في الخروج انتشارٌ لا يتوقّف عند ماضٍ بعينه أو حاضرٍ أو مستقبل؛ انتشارٌ يُتقن الابتعاد عن شباك اللغة وفخاخ التفاصيل وألغام الزمن، لينظر من بعدٍ ومن مسافةٍ تليق بكشف الحقيقة من دون ”تخريبها،“ إلّا أنّ هذا غير ممكن، فمجرّد النظر إلى الحقيقة يغيّر فيها، ويُخصبها بالأسئلة الجديدة. إنّ النظر إلى الوجود هو، في ذاته، فعل تدخّلٍ وحضور لا يترك الوجود على حاله، بل يصير الوجودُ وجودَ الناظر إليه وحسب. من هنا، فإنّ فعل ”التخريب“ هو ابن النظر، وما النظر غير البحث والاستكشاف والفضول والرغبة الواعية:‬‫أبحثُ في أشياء الطبيعة عن طبيعة الأشياء‬‫ثمّ أتركها خلفي مُخصبة بالأسئلة.62‬‫لكنّ ”الوجود“ بوصفه سلطة رمزيّة وسلطة خطاب لا يقبل بهذا النظر/التخريب؛ يعدّه انتهاكًا وتمرّدًا وتدخّلًا وتطاولًا وانتقادًا، وهنا، يبدأ فعل تشكّل الهويّة بوصفه فعلًا جدليًّا واحتداميًّا. الهُويّة لا تنشأ ولا تتشكّل خارج الصراعات والاحتدامات، أو لنقل، لا تتشكّل بدون الآخر.‬‫تشكيل الهويّات فعل رفض واصطدام يُلقي بظلاله على صانع الهويّة القَلِق، لا على وارثها المطمئنّ، وتشكيل الهويّات فعلٌ سوداويٌّ أحيانًا، وغاضبٌ، بل حتّى يائس فاقد للأمل في بعض الأحيان، لكنّه في ذاته ووجوده فعل يعيش على أمل تغيير الوجود، أو التأثير فيه، أو إحالته من ”الإلهيّ“ إلى ”الإنسانيّ“:‬‫بأصابعنا‬‫يمسح الله جبينَ الكون | بأصابعنا.63‬‫ويقول:‬‫حليب الآلهة لا يروي ترابي …‬‫خالعًا قميص الوقت،‬‫أناجي الإله الذي فرّ من هنا دون رجعةٍ.64‬‫فُقدان الأمل في شعر جبران ليس موازيًا أو مطابقًا لليأس، بل هو إعلان موقف، أو هكذا ينبغي له أن يكون. إنّه الخروج من الزمن اللاهوتيّ، والزمن السلطويّ، والزمن الأبويّ … إنّه ”خلعٌ لقميص الوقت،“ وانتشارٌ في الزمن بوصفه ”لا زمن،“ أو زمنًا خارج الأزمنة المؤطَّرة والمؤطِّرة. هنا، يصير الفعل صامتًا متأنّيًا لديه، منغمسًا في غياب قويّ الحضور بقدر ما يترك من ثراء تأويليّ.‬‫على صدركِ، أحفرُ كلماتي بصمتٍ‬‫كما الكونُ يكتبُ الثُّريّا‬‫على صدرك، حيث الموت رفيقي‬‫أنغمسُ‬‫ثمّ أُبعَثُ فيكِ حيّا.65‬‫واللاأمل، هو لا أمل من خيبات الحاضر، ووطأة الماضي الموروث، لكنّه ”الأمل“ في المستقبل الآتي:‬‫وعلى صدركِ‬‫تتناوبُ القُبلاتُ العابرةُ قتلي‬‫فيا صليبي المُتعب هيّا‬‫احملني إلى دربك الآتي‬‫واجعل من موتي لك مُحيّا.66‬‫فُقدان الأمل، بما هو موقف ورؤية، هو بمعنًى ما شكلٌ من أشكال الأمل وتجلّياته، لا الساذجة منها بل تلك التي ترى النور من أعماق الوحل والظلمات، وانطلاقًا من التجربة والجروح والمكابدة. تنتِج هذه النصوص اللاأمل بوصفه تشظّيًا بنّاءً ومُبدعًا، والتشظّي، فلسفيًّا، لا يكون خارج تشظّي الزمن، حيث لا فلسفة خارج سؤال الزمن، فلا إبداع إذن من دون الخروج من الزمن بوصفه إطارًا سلطويًّا متحكّمًا باللغة والأفكار والعقل. هكذا يصير اللاأمل مرادفًا للّازمن، أو يصير انتشارًا لا يقبل التأطير، أو يصير عبثًا كونيًّا يُعيد ترتيب النجوم من جديد. يقول الغائب:67‬‫أن تكونَ بلا اسمٍ‬‫أن تكونَ بلا ولدْ‬‫فلا أنتَ امتدادٌ ولا أنتَ البدايهْ‬‫ولا أنت المعاني ولا أنتَ الكِنايهْ‬‫لا في الكتابِ أنتَ‬‫ولا في الصلاةِ‬‫لا في العُقْرِ‬‫ولا في السُّلالَهْ‬‫لا ممالكَ لك على هذه الأرضِ‬‫لا عُروشَ لا جَلالَهْ‬‫مملكَتُكَ‬‫في غير هذه الدُّنى‬‫والأرضُ تعرّتْ لغازٍ‬‫ولّى مِن هنا‬‫وغازٍ مِن هنا وَفدْ‬‫إنّ فُقدان الأمل عند جبران، شعريًّا، ليس خيارًا لا فكريًّا ورؤيويًّا وحسب بل خيار جماليّ كذلك؛ فقدان الأمل يدفعنا إلى ”الخلق“ من نوعٍ ما، أو إلى ”التكوين“ بوصفه غيابًا، يُراقبُ من دون أن يتدخّل، مؤجّلًا فعله عبر صياغةٍ شعريّةٍ لا تداعب الآنيَّ في الحاضر، ولا المتحجّر في الماضي، ولا المتوهّم في الآتي. خيارُ الغياب هو خيار اللاهويّة، بوصفها هويّةَ انتشارٍ في الأزمنة والأمكنة والوجدان.‬‫تحدّى الاثنان، غنايم وجبران، كلٌّ على طريقته الخاصّة الخطابَ الرمزيّ لجيل المؤسّسين في الشعر الفلسطينيّ، وكلاهما ربط هذا التقويض الشعريّ بالتواشجات القوميّة والفرديّة للصراعات الوجوديّة للأقلّيّة العربيّة الفلسطينيّة. يرى كلّ منهما ما تحت سطح الوعي، يسردان مشاهد الوعي الكابوسيّ، وتجلّيات رعب الروح المعذّبة وأشكال ”الخروج من العقل.“ يتمثّل جزء أساسيّ (ولكن ليس جزءًا رئيسيًّا) من الأهمّيّة الثقافيّة لكلّ من غنايم وجبران في حقيقة أنّهما أعطيا حيّزًا شعريًّا لحالات الأزمات البشريّة، والتي أفردت للأمل واليأس والتناقضات واللايقينيّة وعدم الملاءمة تعابيرَ تقوّض الكلام المعياريّ من داخل اللغة الشعريّة الفلسطينيّة.‬‫ويمكننا في هذا السياق استعارة مصطلح ”وقف/قطع“ سيزورا (caesura) للتدليل على مفهوم الأمل لدى كلٍّ من وسام جبران وريم غنايم، لما يحتويه من دلالات الجمع بين القطع والاستمراريّة أو الانفصال واللُحمة، وهو مفهوم يتماهى مع إلغاء تقاطبيّة الأمل واليأس عند كليهما. يُستعمل هذا المصطلح في علم الموسيقى ويعبّر عن مسافة أو وقفة في أثناء التسلسل الموسيقيّ. وفي الشعر هو مفهوم عروضيّ يسمّى ”الوقف،“ وهو قطع سَير الإيقاع في منتصف بيت الشعر تقريبًا.68 كذلك يُستعمل هذا المصطلح في علم النفس للدلالة على استمراريّة الحياة حتّى لو بدت متوقّفة ومقطوعة عمّا قبلها، يقول سيغموند فرويد (Sigmund Freud، ‫1856–1939‬) في هذا السياق: ”بين الحياة في الرحم ورضاعة الطفولة المبكرة، هناك استمراريّة أكبر ممّا تسمح لنا سيزورا حدثِ الولادةِ أن نصدّق.“69 وبهذا المعنى، فإنّ مصطلح ”سيزورا“ يتضمّن في داخله فكرة أنّ هناك سكونًا، وعلى الرغم من أنّ هذا السكون يقطع، فإنّه جزء من تسلسل مستمرّ. تتيح لنا نظريّة السيزورا التأسيسيّة أن نفهم أنّ انفصال شيءٍ عن شيء بشكلٍ لا لبس فيه قد يعمينا عن رؤية الاستمراريّة الشديدة.‬‫هذه اللحظة المبكرة التي تنطوي على دراما قويّة ودمويّة من الانفصال سويّة مع استمراريّة الوجود، تحفر فينا لأوّل مرّة معرفة الموت. وهكذا، نجد أنفسنا في الحياة نغطس في آماد سيزوريّة لحالات وأحداث نفسيّة قد تبدو منفصلة، ولكنّ بينها استمراريّةً وتلاحقًا: بين الذات والآخرين، بين الحالات النفسيّة المختلفة، بين الداخل والخارج، بين اللغة الأمّ ولغة الأب، بين دوائر الانتماء الحقيقيّة والفضاء خلف الهاوية، وأساسًا بين الأمل واللاأمل.‬‫إنّ العلاقات الوجوديّة التي يؤسّس لها كلٌّ من جبران وغنايم في محيطهما المعيشيّ المتشابه بعض الشيء، وحالات القطع اليوميّة الناتجة عن الصراعات القوميّة أو الاجتماعيّة أو حتّى الفلسفيّة؛ كالضياع والاهتداء القلِق أو اللااهتداء، والانتماء الهويّاتيّ الواضح أو البلبلة الهويّاتيّة الحركيّة، وتخبّطات الذاكرة الجليّة أو المشوّشة، كلّها علاقات سيزوريّة لا يتمّ البتّ فيها في شعرهما، إنّما يطرحان بديلًا بينيًّا يعتمد على القطع والاستمراريّة سويّة. وهكذا، فإنّ كلًّا من جبران وغنايم لا يصفان في أشعارهما وكتاباتهما حالة سيزوريّة فقط، بل يؤسّسانها تجريبيًّا. إنّ سعيهما وراء المعنى، وقد يكون سعي القارئ أيضًا، ليس عبور السيزورا ووصول شاطئ الأمان، بل توسيع إمكانيّة الحركة والتدفّق الحرّ بين ضفّتي نهر الزمان والمكان، أو بين جانبي السيزورا. يُعَدّ الانتقال أو التدفّق بحدّ ذاته أمرًا مهمًّا، فهو ليس تحرّكًا للأمام نحو الحلّ أو الشفاء، ولكنّه حركة مكانيّة تسمح بالتفكير المستمرّ وتطوير التفكير في احتمالات وجود مختلفة. إنّ مفهوم إلغاء القطبيّة بين الأمل واليأس في شعر كلّ من جبران وغنايم ينمّ عن محاولة كلّ منهما طرح الحلول النابذة للأوضاع الديستوبيّة الفلسطينيّة، تلك الأوضاع التي لا تحتمل وفق عقيدتهما حلّ الأمل الممثّل لحالة متفائلة، ولا اليأس الممثّل لحالات التشاؤم المعطّل للحركيّة.‬‫تبدو السيزورا في هذا السياق كأنّها مشبك عصبيّ (synapse) يقود إلى راديكاليّة شعر غنايم وجبران، فهما يقدّمان موقفًا حداثيًّا يؤكّد أهمّيّة ”الحياة الداخليّة.“ ومع ذلك، وعلى أيّة حال، فإنّ ”داخلهما“ موجود في ”الخارج“ و ”خارجهما“ في ”الداخل“ بطريقة جذريّة لدرجة أنّ شعرهما يقوّض مفهوم ”الداخل“ الحديث ولا يمكن ترجمته إلى لغة التحليل النفسيّ الذي يميّز بين ”الحقيقيّ“-الداخليّ و”العَرَضيّ“-الخارجيّ. شعر جبران وغنايم هو مساحة سيزوريّة تشقّقت فيها الحدود بين رجل/امرأة؛ داخل/خارج؛ حيوان/آدميّ، والأكثر من ذلك: أنّ القطع/الاتّصال ليس فقط بين رجل/امرأة، ولكنّه أيضًا بين ما ليس من النوع نفسه: بين الحيوان والموسيقى والمجتمع والجوقة والحضارة. إذا قمنا بتعريف العمليّة الشعريّة لديهما على أنّها مشروع ”مجنون،“ فإنّنا سنفتقد هذه الراديكاليّة الثوريّة، لأنّ شعرهما يزيل المقاطع الرأسيّة التي ينتجها المجتمع ويحوّلها إلى أقسام عرضيّة، أقسام مكانيّة، ضخمة، مفتوحة كجرح، ولكنّها في الوقت عينه تتدفّق كنهر من الحياة، كتجربة جمع، حتّى عن طريق الألم، مشاركةً وليس انفصالًا.‬‫إنّ تجربة الأمل واللاأمل في تجربة كلٍّ من جبران وغنايم تشابه في صياغتها المعضلةَ المحيّرة المثيرة للشكّ على الدوام، إنّها الأبوريا (aporia)70 التي تجابه طريقًا مسدودًا للتفكير، وتدعو إلى إعادة صياغة الأسئلة المطروحة. ويشبه توجّه كلّ من جبران وغنايم في تعاملهما مع محو تقاطبيّة الأمل واليأس ما كتبه دريدا (Derrida، ‫1930–2004‬) عندما عرّف الأبوريا على أنّها ”أرض نزاع محرّمة،“ حيث يصبح عدم القدرة على العبور هو عدم القدرة على تشكيل الحدود أو إقامة هيكلها أو مشروعها أو تحديدها. إنّ تعريف الأمل واليأس في شعر غنايم وجبران مناقض للحدود: الحدود هي دائمًا ”الحدود غير المرئيّة،“ وينطبق الأمر على ”حدود الحقيقة“ أيضًا. هذه الحقيقة تكون دائمًا محدودةً ولانهائيّة على حدٍّ سواء، وتشير إلى فجوة أو مأزقِ التعريف نفسه. كلّ خطاب عن الحقيقة أو العقلانيّة أو العدالة أو القانون، أو الثقافة أو الشعر، ملزم إذن بعمل أبوريّ أوّليّ: يجب أوّلًا صياغة أشكال استحالته، أي الطريقة التي يمكن بها تفكيك الخطاب السلطويّ من هالته المتعالية. هكذا تمامًا تأتي تجربة غنايم وجبران في ما يتعلّق بإلغاء الحدود الفاصلة بين الأمل واليأس، إنّها في نهاية المطاف محاولة لإعادة قراءة المعطيات الثقافيّة ضمن وضعيّة قوميّة واجتماعيّة أبوريّة وصل بها الاثنان إلى طريق مسدود ممّا يستوجب إعادة صياغة الأسئلة الأنطولوجيّة والثقافيّة الفلسطينيّة من جديد. إنّها عمليًّا تجربة تخرج ضدّ الطريق المسدود للطروحات الفلسطينيّة الثقافيّة الراهنة، محاولةً إيجاد بدائل ثقافيّة تخرج عن تعريفات تقليديّة سائدة وواضحة، نحو طروحات ملتبسة وغامضة تثير المساءلات وتعيد تعريف ماهيّة الإنسان الفلسطينيّ.‬‫وتتماهى تجربة جبران وغنايم في ما يخصّ الأمل واللاأمل مع مفهوم المابعديّة أو الـ”post“ بصفته إحدى السمات المميزّة للثقافة المعاصرة وتعريفها الذاتيّ، وعمليّةً تتجاوز ذاتها؛ إذ تشير بادئة ”post“ إلى أنّه بغضّ النظر عن استمرارها المحتمل فإنّ ما يميّز الثقافة المعاصرة هو عدم ثقتها بالحاضر؛ بدلًا من ذلك، فهي تتبنّى عمليّة التغيير والتأخير، والتي تحوّل الـ ”post“ إلى قيمة في حدّ ذاتها، تحوّلها إلى مانترا (mantra)، تعويذة سائدة، أو إلى استعارة للتفكير غير الآمن بثقافة السائد. كذلك هو الأمل الذي يطرحه كلٌّ من جبران وغنايم، إنّه المابعد أمل المختلف في ماهيّته عن تصوّر الأمل التقليديّ في الشعر الفلسطينيّ الراهن، إنّه الأمل البديل؛ حالة من الانزياحات والتجاوزات، هذا الأمل الذي يطرحه الشاعران يعكس بادئةً المابعديّة سوداويّةَ التأخّر: زمنًا عائمًا ودوريًّا ومُعادًا تدويره، يسعى جاهدًا إلى إعادة تعريف نفسه بواسطة موقف رافض ومصادر لتعريفات ”كيانيّة“ فلسطينيّة سابقة.71‬إجمال‫يمثّل كلّ من الشاعرينِ وسام جبران وريم غنايم صوتًا شعريًّا فلسطينيًّا يعيد قراءة المعطيات الثقافيّة العربيّة والفلسطينيّة من أجل إيجاد متخيَّل ثقافيّ بديل. ويحمل هذا البديل الثقافيّ لديهما واقعًا بطلت فيه التعريفات المتقاطبة والثنائيّات، مثل الأمل مقابل اليأس، والخوف مقابل الجرأة، والبطولة مقابل الانكسار. والسمة الأساسيّة للعمليّة الشعريّة لدى كلٍّ منهما هي التجاوز، تجاوز الوضوح ”المهترئ“ بنظرهما لإعادة تعريف دوائر الانتماء المتعدّدة، هذا الوضوح البعيد كلّ البعد من تمثيل الواقع الفلسطينيّ الحقيقيّ. وإذا كان كلّ من الأمل واليأس يطرحان نوعًا من الحلول الكيانيّة للوضع الفلسطينيّ بكلّ أوجهه، فإنّ كلًّا من غنايم وجبران يتبنّيان الالتباس والشكّ مسارًا مفتوحًا لحلول لم يتمّ تبيانها بعد. ويعمد هذا المسار إلى انتهاك المفاهيم الشعريّة الفلسطينيّة الراهنة وزعزعتها في محاولةٍ للخروج إلى مساءلة فكريّة عميقة، مفادها الرؤية الحركيّة والزئبقيّة المتجدّدة نحو الذات والجماعة، بل نحو الكون.‬‫بمعنى معيّن، فإنّ يوتوبيا الأمل لدى جبران وغنايم، إن وُجدت، هي يوتوبيا ما بعد حداثيّة ومابعديّة: ليست مكانًا ولا تتيح السيطرة، وليست كمالًا، ولكنّها ربطٌ للأجزاء من دون التحام وبدون تعزيز الأقطاب أحدها على حساب الآخر. حتّى هذه اليوتوبيا التي تحتوي مسبقًا على شكوك وتحدٍّ للكلّيّة – السمات التي تميّز ما بعد الحداثة – لا تتجسّد في نصوص كلّ من جبران وغنايم. ومع ذلك، فإنّ في نصوصهما نوعًا من الأمل – ترافقه برأيي نغمة نبويّة؛ إنّها اليوتوبيا البديلة والمشروطة، تلك التي ستشكّل أسلوب حياة، وهي يوتوبيا مناهضة للنُّصب التذكاريّة التقليديّة الممثّلة للخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ الراهن، لكنّها مع ذلك تشكّل نُصبًا تذكاريّة للأمل لأنّها تمثّل انقلابًا نفسيًّا سيسمح بتعايش الأكوان المتقابلة والضدّيّات المتقاطبة. إنّها الحيّز المركّب الذي يسلّط الضوء على التعقيد التاريخيّ والسياسيّ.‬‫لا تستجيب قصائد غنايم وجبران عمليًّا بكلّيّتها لحالات الاغتراب الخمس التي حدّدها عالم الاجتماع ميلفين سيمان (Melvin Seeman، ‫1918–2020‬)؛ إذ يرى سيمان الاغتراب في العجز (عدم القوّة)، واللامعنى، واللاعرفيّة، والعزلة والقطيعة الذاتيّة،72 وهي في مجملها حالات الإنسان المنسلخ عن اللاأخلاقيّة الاجتماعيّة واللامعياريّة والخلل الاجتماعيّ وتفسّخه واستلابه (anomie)،73 بل هي نصوص مغرقة بالترابط مع بيئتها ولكن عن طريق كشف سَأَم هذه البيئة وعجزها عن تقديم بدائل أخلاقيّة ووجوديّة. وبهذا يصبح نصّ كلّ من غنايم وجبران الشعريّ نصًّا لا نفاديًّا (inexhaustibility)؛ أي أنّه نصّ لا ينضب ويحمل في طيّاته عنصر التضادّ للسائد والمتعارف، وتصبح صفة التضادّ للنصّ الأدبيّ عنصرًا للانفاديّته، على حدّ قول روس (Ross، ‫1935–‬).74 هذا النصّ اللانفاديّ يتيح للقارئ التعامل معه على أساس الندّ ويمكّنه من إعادة تشكيله من جديد وفق تحليل الإجراءات الأسلوبيّة للعناصر الموسومة، أي غير المتداولة.‬

Journal

Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyyaBrill

Published: Mar 13, 2023

There are no references for this article.