Get 20M+ Full-Text Papers For Less Than $1.50/day. Start a 14-Day Trial for You or Your Team.

Learn More →

فاعليّة الأمل في أدب الرسائل: الرسالة التشفّعيّة لأبي إسحاق الصابي نموذجًا

فاعليّة الأمل في أدب الرسائل: الرسالة التشفّعيّة لأبي إسحاق الصابي نموذجًا 1تقديم‫يندرج هذا المقال ضمن اهتمام خاصّ بأدب الرسائل عمومًا، ورسائل الشفاعات على وجه الخصوص بوصفها رسائل تنطوي على جملة من المقاصد من المحتمل تحقُّقها، لذلك يبقى الأمل معقودًا على مجموعة من الاستراتيجيّات الخطابيّة التي يوظّفها الكاتب في هذا الضرب من الرسائل التي ازدهرت في القرن الرابع/العاشر، وهو القرن الذي خلّد أسماء لامعة في الكتابة والترسّل من قبيل: الصاحب بن عبّاد (ت 385هـ) وابن العميد (ت 367هـ) وعبد العزيز بن يوسف (ت 388هـ) وأبي إسحاق الصابي (ت 384هـ)1 وغيرهم. على هذا الأساس، نحاول في المقال الكشف عن ديناميّة الأمل في هذا النوع الأدبيّ من النثر الفنّيّ، فهو يتّخذ من موضوعة الأمل ”بؤرة نصّيّة“ ينجذب إليها مختلف الأطراف والفاعلين في العمليّة التواصليّة بشكل مباشر، وجمهور المتلقّين من القرن الرابع/العاشر بشكل غير مباشر. والغاية أن نُسهم في العناية بالتراث العربيّ ونلتفت إلى ”جُزُره المنسيّة، وإلى فنون قوله النثريّة التي لم تنل حظّها من العناية،“2 ولا سيّما أدب الترسّل الذي بلغ أوجه من الصنعة حتّى زاحم الشعر، وربّما جاوزه لكمال العناية به داخل دوائر السلطة وخارجها.‬‫وعليه، تنطلق دراستنا من مقولةٍ مفادها أنّه لا توجد مبادرة أو فعل أو خطاب له غايات نفعيّة من دون أمل، وقد يشتدّ هذا الأمل أو يضعف حسب درجة قيمته وأهمّيّته؛ إذ يتشبّث الناس عادةً به ويستمدّون القوّة منه. ولذلك ارتأينا تطبيق ذلك على نمط مخصوص من الأدب ممثّلًا في أدب الرسائل، سواء في الرسائل الديوانيّة كرسائل الإخبار بالفتوحات والتهنئة بالانتصار وغيرها من الرسائل التي تعمل على إذكاء الأمل في النفوس؛ أم في الرسائل الإخوانيّة التي يكون فيها الأمل ركيزة أساسًا ومدعاة إلى كتابة الرسالة وتلقّيها؛ أم في الرسائل العتابيّة.3‬‫ويعالج البحث نموذجًا ترسّليًّا من رسائل أبي إسحاق الصابي. واختيارنا للنصّ الترسّليّ التشفّعيّ، تخصيصًا وتحديدًا، لكونه غرضًا من أغراض الاستنجاز وآداب الطلب وقضاء الحاجات، وتظهر فيه فاعليّة الأمل بوصفه مطيّةً لتحقيق المراد، ونمطًا بانيًا للأمل بواسطة ما يبعث في نفس الآمل من حالة نفسيّة ووجدانية تساعد على بثّ روح الأمل في باقي المتخاطبين، ولكونه كذلك نصًّا حجاجيًّا بامتياز؛ فهو ينصرف إلى استمالة المتلقّي والتأثير فيه لأجل تغيير مواقفه. فالرسائل التشفّعيّة هي من الرسائل التي يتعلّق فيها أطراف العمليّة التواصليّة بالأمل، ولا تقف الغاية منها عند حدود التأثير في المخاطبين وتغيير مواقفهم، بقدر ما تروم تحقيق نوع من الاستقرار النفسيّ والاجتماعيّ في نسيج المجتمع، وتحقيق سعادة الآخرين وآمالهم العريضة.‬‫وبما أن المرتكزات الإبلاغيّة والبلاغيّة لها دورها في رفع منسوب الأمل لدى متلقّي الخطاب الترسّليّ، فإنّ البحث سيعمل على تعقّب ذلك فيما تمّ تسطيره في الرسالة، علمًا بأنّ وظيفة الرسالة لا تقتصر على الإبلاغ فحسب، وإنّما تراهن على ما هو فنّيّ عن طريق استعراض مواهب الكتّاب وثقافاتهم، وبذلك فهي تعمد إلى تحقيق وظيفة إمتاعيّة أيضًا. وتكون الصفة الإبلاغيّة وسيلة والصفة الإمتاعيّة غاية، لأنّ الرسالة الأدبيّة يجب أن ترمي إلى إمتاع المرسَل إليه، ومن يطالعها بعده؛4 فالوظيفتان متلازمتان ومن الصعب الفصل بينهما في أثناء بناء الخطاب وصوغ تفاصيله، بما في ذلك الأساليب والصور التي يستدعيها الكاتب لتضفي على الرسالة طابعًا جماليًّا. كما أنّ الرسالة في الوقت ذاته تضطلع بوظائف إقناعيّة، بفضل التقنيّات الحجاجيّة التي يقوم عليها الخطاب التواصليّ، وهو ما يستحسنه المتلقّي المباشر للرسالة، أي المشفوع إليه، لا سيّما أنّ المتلقّي العربيّ القديم كان يشترط العناية بالألفاظ، وكمال المعاني وشرفها، وهو أمر موكول إلى كفاية الكاتب ومهارته في التعبير عن الغرض المراد.5‬‫من هنا، نلتمس في هذا البحث الاهتمام باستجلاء مواطن الأمل داخل الخطاب الترسّليّ المعنيّ بالدراسة والتحليل، آملين معالجة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة: ما هو تعريف الأمل في المدوّنة العربيّة القديمة؟6 وما بواعث تفسيره من منظور مقابل له؛ أي اليأس؟ وهل هو في صلب اهتمام أطراف الخطاب كلّهم؟ وما الذي يمكن للمشفوع له أن يأمله حقيقة، في إطار مغامرة خطرة، ومقاربة يكون الرهان فيها نيل المطلوب والمؤمّل؟7‬2سيرورة الأمل في المعاجم اللغويّة والمدوّنة العربيّة القديمة‫بالنظر إلى تردّدات الأمل في معاجم اللغة، فإنّها تكاد تتّفق على أنّ لفظ الأمل مرادف للرجاء، منافٍ لليأس، دون تقديم مزيد من الشرح لشيوعه؛ فالأصل أنه معرّف ولا يحتاج إلى مزيد تعريف. أمّا مرتضى الزبيديّ (ت 1205هـ) فاستفاض أكثر من غيره من اللغويّين مبيّنًا ذلك في معجمه تاج العروس قائلًا:‬‫الأمل: توقّع حصول الشيء، وأكثر ما يُستعمل فيما يُستبعد حصوله، فمن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: أمّلت، ولا يقول: طمعت، إلّا إن قرب منها، فإنّ الطمع ليس إلّا في القريب […] والرجاء بين الأمل والطمع، فإنّ الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله، فليس يُستعمل بمعنى الخوف. ويُقال لما في القلب ممّا يُنال من الخير: أمل، ومن الخوف: إيحاش، ولما لا يكون لصاحبه، ولا عليه: خطر، ومن الشرّ وما لا خير فيه: وسواس. وقال الحرّانيّ: الرجاء: ترقّب الانتفاع بما تقدّم له سبب ما. وقال غيره: هو لغة: الأمل، وعرفًا: تعلّق القلب بحصول محبوب مستقبلًا: قاله ابن الكمال. وقال الراغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرّة.8‬‫وممّا ورد عند أبي هلال العسكريّ (ت نحو 395هـ) في التفريق ما بين الرجاء والطمع قوله:‬‫الرجا مقصور: الناصية، والرجاء ممدود من الأصل، والأصل: الميل: وذلك أنّ من يرجو نيل الشيء فإنّه يخاف فوته في أكثر الحال، فكان الرجاء طرفًا، والخوف طرفًا،9 ومنه قيل: رجاء البئر لناحيته، فأمّا الطمع فيما قيل فتَوْطين النفس على نيل المطلوب من غير مخافة للفوت. والصحيح أنّ الرجاء ما كان عن سبب، والطمع ما كان عن غير سبب، ولهذا ذُمّ الطمع، ولم يُذمّ الرجاء. وربّما جاء الطمع في معنى الأصل، وهو قوله: ﴿وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدينِ﴾. والرجاء في القرآن على وجهين: الأوّل: الأمل؛ قال الله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾. وهذا دليل على ما قلنا من أن الرجاء يكون طرفًا، والخوف طرفًا. الثاني: الخوف، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ ونحوه قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ أي: يخاف البعث، وقال: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾.10‬‫وكثيرًا ما يلتقي هذا الكلام مع ما ورد في الثقافة اليونانيّة عند أرسطو الذي رأى أنّ من الدوافع الضروريّة للخوف أن يبقى هناك بعض الأمل في النجاة من أسباب المحن. وآية ذلك أنّ الخوف يجعل الناس يروون، بينما المرء لا يروي في الأمور الميؤوس منها.11 والقصد من ذلك هو أنّ الخوف يدفع الناس إلى تشخيص واقعهم وسرد ما واجهوه من أزمات وعراقيل والتعبير عنها للتنفيس عمّا حلّ بهم، ولا يتمّ ذلك إلّا بجعل الأمل يرسم طريق الخلاص، ويبدّد كلّ المخاوف التي تواجه الإنسان، على عكس الأمور التي يتعذّر فيها التشبّث ببصيصٍ من الأمل وربّما فقده إلى غير رجعة.‬‫وفي سياق تأصيل ثيمة الأمل في التراث النثريّ العربيّ، يستوقفنا ما ورد في كتاب المحاسن والأضداد للجاحظ (ت 255هـ)، وفيه أنّ عبد الله بن مروان (ت نحو 170هـ) قال لسلم بن يزيد الفهميّ12 ”أيّ الزمان أدركت أفضل وأيّ ملوكه أكمل؟“ قال: ”أمّا الملوك فلم أرَ إلّا ذامًّا وحامدًا، وأمّا الزمان فرفع أقوامًا ووضع آخرين، وكلّهم يذمّ زمانه لأنّه يُبلي جديدهم ويُهرم صغيرهم، وكلّ ما فيه منقطع إلّا الأمل.“13 ويرد في البيان والتبيين: ”[قال] أبو إسحاق بن المبارك: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل.“14‬3سياق التشفّع وبناء فاعليّة الأمل‫يظلّ الإنسان في حاجة إلى الأمل دائمًا، متطلّعًا إليه بسبب، ومتعلّقًا به في كلّ وقت وحين لتحقيق طموحاته وأحلامه، فإن تعلّق الأمرُ بمذنب مسلوب الحرّيّة، أو مضطهد، أو مطارد، أو مغضوب عليه، فإنّ منسوب الأمل في هذه الحالات يختلف من وضع مأزوم إلى آخر. وتتجسّد هذه الحاجة في مناسبات مخصوصة تصرف الناس إلى التعبير عنها، وهي وإن لم تكن مقصودة بشكل مباشر فإنّ وقعها دالّ بانعكاساته على المتخاطبين على نحو تبدو فيه العمليّة أمرًا مستحيلًا لدى أحد أطراف العمليّة التواصليّة، وهو المذنب، لكنّ ذلك يهون بوساطة الشافع الذي يعمد إلى إحياء الأمل لديه بصورة تجعله يؤمن بما ستُسفر عنه الرسالة التشفّعيّة.‬‫والحق أنّ الأمل ينعقد في رسالة الشفاعة على طرف مكين في الخطاب وهو المشفوع إليه. وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين غايةٍ حُقّقت وكان الأمل سبيلًا إليها، وغاية تعذّر تحقُّقها؛ فطبيعة الأمل ومنسوبه لدى الشافع هما اللذان يجعلان الطلب قابلًا للتحقّق أو متعذّرًا. وربّما تكاد لا تخلو رسالة الشفاعة من هذا الرهان المبنيّ على الأمل لتجاوز إقامة الحدّ، وإلحاق العقاب وتعريض النفوس للهلاك، ولعلّ ذلك يكشف عن فاعليّة الأمل، وعن قدرة الكاتب على بلوغ مطمحه في تجنيب المشفوع له الأذى.‬‫وإمعانًا في حضور الأمل في الكتابة، فإنّ الرسالة التشفّعيّة مجال حيويّ لتخصيب الأمل وتجسيده، والبحث عن سبل تحقّقه، علمًا بأنّ الكتابة في حدّ ذاتها أمل، واستخدامها وسيلةً للتواصل وتغيير المواقف وتليينها يشكّل موضوعًا من الموضوعات الأثيرة للبلاغة.15‬‫وإذا كان التراث العربيّ لم يحتفظ لنا بدراسات ترصد ثيمة الأمل في مختلف الخطابات، فإنّ هذه الثيمة ترد متناثرة في المدوّنة العربيّة القديمة. وفي استحضار لفظ الشفاعة في التراث العربيّ، فقد ذهب ابن منظور في تحديده إلى أنّ الفعل ”شفع لي يشفع شفاعة وتشفّع: طلب، والشفيع الشافع، والجمع شفعاء، واستشفع بفلان على فلان وتشفّع له إليه فشفعه فيه […] الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه في معنى طلب إليه، والشافع: الطالب لغيره يتشفّع به إلى المطلوب.“16 ويُقصد بالفعل اصطلاحًا التوسّط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرّة. أمّا عن صلة الشفاعة بالأمل، فيمكن الاستدلال على ذلك بما ترويه بعض المصنّفات مثلما كتب عبد الحميد بن يحيى (ت 231هـ) عن الوصاية بإنسان، وهي غرض قريب من الشفاعة ولا يرد إلّا مقرونًا به حيث قال: ”حقّ موصل هذا الكتاب عليك كحقّه عليّ؛ إذ رآك موضعًا لأمله، ورآني أهلًا لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فحقِّق أمله.“17‬‫وتبعًا لذلك، فإنّ كاتب رسالة الشفاعة ينبغي ألّا يعدم حججًا لتحقيق غايات خطابه، وإثارة عواطف معيّنة، لذلك جاز لنا القول، إنّه لا يجوز أن يعدم الأمل كذلك، وهو الأمر المترتّب عن الأحوال المؤثرة الشفاعة ما دام أنّ هناك حزمة قرائن توحي بأنّ الأمل ملمح صريح ومضمر في الوقت ذاته داخل نسيج الرسالة التشفّعيّة.‬‫وقد سبق أن وضع المستشرق الألمانيّ ديم فيرنير (Diem Werner)18 دراسة عن الكتابات الترسّليّة العربيّة، مع تخصيص الفصل الرابع منها لتسليط الضوء على استراتيجيّة الشفاعة في أدب الرسائل، فناقش الأنواع المختلفة من الحجج التي قدّمها كتّاب الرسائل لإقناع من يخاطبون بدءًا من طرق التعامل مع المتلقّي بالثناء أو المناشدة، مرورًا بالتكريم الذي يُستحسن على وجه معيّن.19‬‫لذلك يتطلّع كتّاب رسائل الشفاعات، غالبًا، إلى تحقيق غاياتهم على نحو يجعل العمليّة مرتبطة بالتخطيط المسبق؛20 إذ ”يُعَدّ التمكّن من بناء المسالك الخطابيّة من مشمولات الكفاية التخاطبيّة التي تشمل أيضًا معرفة المتخاطبين بالمواضعات اللغويّة المعجميّة منها والنحويّة، وقدراتهم المنطقيّة، ومعرفتهم بأصول التخاطب ومعرفتهم بالمحيط الخارجيّ، وإلمامهم بكلّ السياقات التي لها صلة بموضوع التخاطب.“21‬‫وإذا كانت غايات منشئ الخطاب عامّةً هي إبلاغ مقاصده من الخطاب، فإنّه أيضًا يعمل على التأثير في متلقّيه بطرق وأساليب مخصوصة تتيحها له اللغة عن طريق الانزياحات واستعمال التعريض وما يترتّب عن ذلك من تصريح وتلميح. وربّما حصل نوع من الاتّفاق على مفهوم الخطاب عند القدماء؛ فالخطاب عند الفقهاء هو توجيه كلام نحو الغير للإفهام،22 أو هو ”القول الذي يفهم المخاطب به شيئًا.“23 والظاهر أنّ هذه التعريفات قد جنحت إلى تحقيق الغاية من الخطاب بالاسترفاد من معناه لغةً واصطلاحًا.24 ولا بدّ من توفّر جملة من الشروط حتّى يصير القول خطابًا، منها: تصوّر المعنى من لفظ المتكلّم، واشتمال الخطاب على رسالة ما،25 والاستعداد التامّ لفهم مضمونه، فضلًا عن وجود متخاطبين، ومقاصد منها إفهام المخاطب والتأثير فيه.‬‫وتبعًا لذلك، فإنّ الخطاب المقصود في هذه الدراسة هو الخطاب الإقناعيّ في الرسالة التشفّعيّة الذي يتجسّد بوضوح في خطاب الشفاعة بصفته خطاب تحبيب لا خطاب تنفير، وقولًا منجزًا يحمل مقاصد الشافع، وهو ما ”يهدف إلى الإقناع بشيء ما؛ إلّا أنّ هذا الشيء يمكن أن يكون متعدّدًا، وغالبًا ما يكون للنصّ غرض قريب وغرض بعيد المنال،“26 لذلك فإنّ الغرض الأوّل يكمن في قبول الشفاعة، والثاني في الإفراج عن المشفوع له وإحلاله محلًّا كريمًا. ولأجل هذا ”يتحتّم على المرسِل أن يختار الاستراتيجيّة27 المناسبة التي تستطيع أن تعبّر عن قصده، وتحقّق هدفه بأفضل حالة؛ ففعل الاعتذار مثلًا يتحقّق عبر خطابات كثيرة، كلّ خطاب منها يمثّل استراتيجيّة.“28 على أنّ ما يهم الشافع، في هذا المضمار، هو التعبير عن قصده عن طريق إحلال الأمل منزلة خاصّة ضمن استراتيجيّة كتابة الرسالة ورفعها إلى المعنيّ بالأمر؛ فهو يمثّل حجر الزاوية في تشكيل نسيجها وعوالمها.‬‫ولمّا كانت الرسالة التشفّعيّة خطابًا تدواليًّا تشترك في بناء عوالمه جميع أطراف العمليّة التواصليّة عمومًا، فإنّ ما يدفعنا إلى تتبّع أثر الفعل الحجاجيّ في رسالة تشفّعيّة لأبي إسحاق الصابي، هو أنّ الغاية منها حجاجيّة. فالرسالة باسم عزّ الدولة (ت 367هـ)29 في الشفاعة لأبي مخلد30عند الأمير فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة (ت 387هـ)،31 ولمّا كانت الغاية حجاجيّة، فإنّ التأثير في الخليفة كان رهانًا من رهانات الرسالة، واستمالته لصالح المشفوع له بما أوتي الكاتب من أدوات وآليّات تسمح له بتحقيق المنشود، وتغيير موقف الخليفة تجاه أبي مخلد. وقد خصّ أبو إسحاق أبا مخلد بهذه الرسالة ورسائل أخرى كتبها نيابةً عن بعض أمراء بني بويه وغيرهم. وتبقى ”الوسائل المستعملة في الإقناع متنوّعة غاية التنوّع، وتستخدم إجراءات معقّدة تمتاح من غنى السلوك الإنسانيّ.“32 وما ينبغي التأكيد عليه هو وجود فيض من المشاعر يحملها الكاتب تجاه المكتوب عنه وله، وربّما مَن يكتب إليهم أيضًا، هذا بالنظر إلى طول ممارسته للكتابة في ديوان الإنشاء لدى أمراء بني بويه، وقدرته على استنطاق رغبتهم فيما يودّون البوح به. فهو ينوب عنهم نيابة تسمح له بإبراز كفايته اللغويّة والبلاغيّة، وإلّا لما حاز المكانة التي تبوّأها في عصره لا سيّما أنّ رسائل الشفاعات التي كتبها الصّابي هي لخاصّة القوم وليس لعامّتهم.‬‫ولعلّ قارئ الرسالة التشفّعيّة التي رفعها الصابي نيابة عن الأمير عزّ الدولة سيلمس أنّها نزعت إلى تصوير المشفوع له شخصًا مغلوبًا على أمره، وأنّ مصيره أصبح بين يدي الخليفة، كما سيلمس نزوع الشافع إلى إظهار الطاعة، واستعمال معانٍ مدحيّة حتّى يدفع المشفوع إليه إلى إصدار قراره بالعفو، وهي مرحلة تعقبُ مرحلة طلب الشفاعة وتُعَدّ جزءًا من البروتوكول السياسيّ القائم.‬4معماريّة الرسالة التشفّعيّة‫تنتمي الرسالة التشفّعيّة إلى صنف من الرسائل لا يستوفي مساحات خطابيّة واسعة، علمًا بأنّ خصوصيّتها وأفق الخطاب فيها فضلًا عن سياقها المقاميّ يضع متلقّيها في موضع الاعتبار بوصفه حاكمًا وصاحب سلطة – خليفة كان أم أميرًا أم وزيرًا – فلا تخرج عن بناء معياريّ دأب عليه الكتّاب والمترسّلون وألحّ عليه مقعِّدو هذا النمط من الكتابة الترسّليّة. فالرسالة تلتزم بالبناء المعماريّ الكلاسيكيّ، والكاتب ليس بمقدوره أن يحيد عنه في تدبيجه رسالة الشفاعة التي تنزع إلى الإيجاز إلّا إذا أراد الإطناب في الثناء على المشفوع إليه.‬‫ولمّا كانت الرسائل الديوانيّة تخضع لضوابط وأعراف خاصّة في ترتيب المكتوب عنه والمكتوب له، فإنّ الرسالة التشفّعيّة كذلك تشترك معها في السَّيْر على هذا النهج في مخاطبة المشفوع إليه، وهو أمر يستوجب تقديم صاحب الرتبة السنيّة على صاحب الرتبة الدنيّة، كما فعل الصابي في رسائله التشفّعيّة في أثناء أدائه لخدمة كتابة الإنشاء.‬‫وتنطوي الرسالة قيد الدراسة على فائدة عظيمة من جانبين: (1) سياقها الخاصّ الكامن في التشفّع لأبي مخلد، وهو الدافع إلى كتابتها، مع ما في ذلك من إبرازٍ للعلاقات والأسرار السياسيّة والاجتماعيّة بين الخلفاء والأمراء من جهة، وبين بعض رجالات الدولة وأفراد الأعيان الذين انزلقوا عن الخطوط المرسومة لهم فنزل بهم العقاب بشكل من الأشكال؛ (2) وسياق آخر يظهر في انبناء مثل هذه الكتابات الترسّليّة على فكرة فاعليّة الأمل وجعلها مقوّمًا أساسًا في سبيل تحقيق ما تصبو إليه الأطراف المتفاعلة في العمليّة التواصليّة.‬‫ولضمان فاعليّة الأمل بتحقيق العفو، تلجأ الرسالة إلى التأكيد على أريحيّة المشفوع إليه، وحمله على تحقيق الرجاء، والنظر في مقامه الذي يستدعي مبدأ التأدّب في التخاطب. وقد التزم المرسِل بذلك على طول الرسالة، وربّما لجأ إلى الإطراء والتقريظ حتّى غدا المشفوع إليه أشبه بالممدوح.‬4.1العنوان‫لعلّ العنوان أوّل ما ينبغي التركيز عليه في سياق تحليل هذه الرسالة، ذلك أنّه ورد وفق الصيغة الآتية: ”وعن عزّ الدولة إلى الأمير فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة في الشفاعة لأبي مخلد“ وهو عنوان مركّب ومفصِّل لأطراف التواصل، فهو يحدّد المرسِل والمرسَل إليه وموضوع الرسالة. وقد سقط لقب الأمير عن اسم عزّ الدولة، للتدليل على أنّ المرسَل إليه أعلى مقامًا من المرسِل ما دام الأوّل مرجوًّا ومؤمّلًا، والأمر موقوفًا عليه في تحقيق فعل الشفاعة قولًا وعملًا، ومراعاة لمكانة المكتوب إليه في الرفعة والرتبة. وتظهر أبعاد الطلب منذ عتبة العنوان، وتغدو قيمة المشفوع إليه الرمزيّة بمثابة مؤثّثات لآليّات السلطة والنفوذ التي تتحكّم بشكل مباشر في طلب الشفاعة وتحديد مآلها إثابة وعفوًا أو تنكيلًا وعقابًا.‬4.2الاستهلال‫تُعَدّ المقدّمة مدخلًا للموضوع أيًّا كان، ومناسبة لتأطيره ووضعه في سياقه، وبالنسبة إلى رسائل الشفاعات عمومًا، ورسائل أبي إسحاق الصابي خاصّة، فإنّها لم تخرج عن هذا التقليد، بل كان الصابي أحد المقعّدين له ومجيديه. ومن أوكد المبادئ الواجب توفّرها هو الاستهلال، ويلخّصه القول الآتي: ”كتابي، أطال الله بقاء سيّدي الأمير فخر الدولة وأدام عزّه وتأييده، عن سلامةٍ ضافية السربال، ونعمة سابغة الظلال، ومواهب لله جلّ وعزّ، أحمد عليها حمد المرتبط لها، المستزيد منها، وأسأله أن يشرك بيننا فيها، ويجمعنا في الإمتاع بها.“33‬‫يمهّد الصابي بهذا الاستهلال لغرض الرسالة بموجّهات حجاجيّة، ويتكرّر هذا في جلّ رسائله التشفّعيّة، والغاية من ذلك استمالة المتلقّي منذ المطلع بوساطة الدعاء، فضلًا عن العلائق الدلاليّة التي يُنشئها مكوّن الدعاء حيال باقي أجزاء الرسالة. ولا يخفى ما لهذه التوطئة من مقاصد تهدف إلى إثارة انفعالات المشفوع إليه، والإقرار بالنعمة والشكر عليها، والتَّوْق إلى مشاركة المخاطب الاستمتاع بها، مع ما لذلك من فاعليّة حجاجيّة. ويستحضر المتلقّي منذ صدر الرسالة بصفته المخاطب المباشر، وبه يُستغاث ويُتشفّع، الشيءَ الذي دفع الشافع إلى الحديث عن أفضاله عليه تلميحًا، ويُعَدّ هذا من مقوّمات الرسائل التي تُرفع إلى الملوك والأمراء بوصفهم أولياء نعمة وذوي أيادٍ بيضاء.‬4.3صدر الرسالة‫قُسِّم صدر الرسالة التي بعث بها الصابي باسم عزّ الدولة إلى الأمير فخر الدولة إلى فقرتين اثنتين. يقول الصابي:‬‫وقد كاتبت سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه بما أنا متوقّع جوابه، ومريد منه أيّده الله ألّا يؤخّره، ولا يُخلّيني من تواتر كتبه بالسارّ من أخباره، والمؤنس من أحواله، فإنّ مراعاتي لها دائمة، ومطالعتي إيّاها متّصلة إن شاء الله […] وسيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أرعى للحقوق، وأحفظ للمواتّ […] وأشحّ على المروءة من أن يحتاج المخاطب له إطالة في حضّ على ذلك وحثّ، وتحريك فيه وبعث، ولا سيّما إذا كان ما يتوخّاه منه عائدًا بشكر من شكره منه كبير الموضع، لطيف الموقع. وبحسب ذلك استحكام ثقتي بتوجّه شفاعتي إليه، وتسهيل مطالبي عليه، واستغنائي عن أن أطيل فيها قيلًا، أو أقدّم أمامها تسبيبًا لا أعدمنيه الله ولا سلبنيه، وحرس عليه المناقب التي خوله وعليّ فيه.34‬‫لا يدّخر المرسِل في صدر رسالته جهدًا في الانعطاف نحو التلطّف في الخطاب، وهي سمة من سمات رسالة الشفاعة، فيمهّد للمشفوع إليه بتوقّع الجواب من باب الرجاء الذي لا يحتمل التأخير، جاعلًا كلّ ذلك مرهونًا بتواتر رسائل وليّ نعمته التي تحمل الأخبار السارّة عن الخليفة مؤكّدًا ترقّبها والتشوّف إليها. ويستمرّ الشافع في مخاطبة المشفوع إليه بما يهزّ أريحيّته، ويعمل على استمالته بطرائق شتّى في باقي أجزاء الرسالة، إلى جانب التماس وسائل التأثير وتفعيلها بذكر صفات المخاطب؛ فهو القيّم على الحقوق بمراعاتها، الحافظ للمواتّ، غير محوجٍ خادمه إلى إطالة الكتاب، خصوصًا أنّه عهد منه إحسانًا. كما أثبت الشافع الشكر والثناء من قبل المشفوع له أبي مخلد مع الإشارة إلى مكانته قبل أن يلحقه العقاب، حتّى إذا استيقن ما يؤمّله من المشفوع إليه لمح إلى غرض الخطاب ومقصده محسنًا التخلّص بين مقوّمي الاستهلال والصدر.‬4.4غرض الرسالة‫تقترن هذه المرحلة من معمار الرسالة بالتصريح بالطلب، يقول الكاتب:‬‫وقد عرف سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه تأكيد أسباب أبي مخلد عبد الله بن يحيى […] وتقادُم خدمته ولزوم حرمته، وما له من سابقة الذمام عند الأميرين السعيدين ركن الدولة ومعزّها، وعندنا بعدهما، والخصوص مع ذلك بي، والانتساب إلى خلافتي، والارتسام بالمناب عنّي، وعلم ما لحقه في هذا الوقت من القبض عليه، والاشتمال على ماله وحاله، ومعاملته بما يتوقّف عن الخروج إليه في أعداء الدولة فضلًا عن أوليائها، وفي الأباعد عنها فضلًا عن أقربائها وأصفيائها.35‬‫ينزع أبو إسحاق الصابي في كتابة هذه الرسالة نيابةً عن عزّ الدولة إلى تحديد وضع أبي مخلد وحالته الراهنة، وهو وضع يستدعي الإشفاق عليه بحكم طول خدمته لأمراء دولة بني بويه، وخاصّة الأميرين ركن الدولة ومعزّها، لتستمرّ الخدمة مع خلفهم عزّ الدولة صاحب الشفاعة. يؤكّد الشافع ولاء المشفوع له لحكّام البويهيّين، ويمكن التدليل على ذلك بمقطع آخر يشفع فيه لأبي مخلد عند عضد الدولة ومؤيّدها؛ إذ يقول: ”واقتضاني أن كتبتُ إلى مولانا الملك الجليل عضد الدولة وسيّدي الأمير مؤيّد الدولة […] فيه بالمسألة الشافية، والشفاعة الوكيدة، والرغبة في كشف ما أظلّه عنه، وإخراجه سليمًا مصونًا منه وإسعافي بالبعثة به إليّ ليقيم بحضرتي، ويتوفّر على ملازمة تربة الأمير معزّ الدولة.“36‬‫يُطلعنا الشافع الأمير عزّ الدولة البويهيّ في متن الرسالة على مكاتبات عديدة في شأن أبي مخلد والتشفّع له بالدعوة إلى الإفراج عنه، علمًا أنّ المشفوع له يملك مكانة خاصّة لديه وهو ما جعله لا يدّخر جهدًا ولا رجاء في استعادة هذه المكانة المفقودة، داعيًا الأمير فخر الدولة إلى قضاء حقّه بالعفو عنه، ودفع الضرر الذي لحقه. كما دعاه إلى أن يشمله بعطفه، ويعيده إلى سالف عهده، مع السماح لعزّ الدولة بتيسير المال له وتمكينه منه، وتعويضه تعويضًا مباشرًا، وفي ذلك لفت الانتباه إلى دوره في عمليّة الصفح وإثبات الفعل الحسن.‬4.5الخاتمة‫الخاتمة هي آخر ما يقع عليه بصر المتلقّي وسمعه، ويبقى عالقًا في ذهنه، فإن كانت الرسالة تشفّعيّة فهو أدعى أن تتضمّن الخاتمة إعادةً للسؤال طمعًا بمنّة الخليفة المتجذّرة في شيمه التي ورثها عن أسلافه، وتأكيدًا على براءة المذنب وعدم ارتكابه لأيّة جناية تستدعي اعتقاله ومصادرة حرّيّته، ومن ثمّ عقوبته. ويختم الشافع رسالته بدفع المشفوع إليه إلى اتّخاذ القرار الأنسب وصرفه إلى فعل الخير، وذلك بالإفراج عن المشفوع له ما دام أنّ حسن الظنّ كان باعثًا على تدبيج الرسالة، واستحقاق المشفوع له في قضاء حقّه لا سيّما أنّه كان من حاشية الخليفة. وكلّ هذه المعاني من شأنها أن تعطف القلوب على القيم، وتجعل المشفوع إليه قبلة الآملين وملجأ الراغبين ومطمع المتنافسين.37‬‫ولئن كانت رسالة الشفاعة مبادرة نوعيّة لصناعة الأمل وتكريسه، فإنّ الشافع عند كتابتها يتعلّق بخيط أمل، أمل يُعَدّ ضرورة قصوى في مثل هذا النوع من المخاطبات لتحصيل العفو عن المذنب سواءٌ أكان فردًا أم جماعة.‬5الموقف التواصليّ وسيرورة الأمل‫يقتضي الموقف التواصليّ في الرسالة التشفّعيّة وجود مشاركين، ويلفي أطراف العمليّة التواصليّة ذواتهم مندمجين فيه، وإن كان ثمّة نوع من التفاوت وقوّة الحضور. هذا وينبغي الإشارة إلى أنّ كاتب الرسالة لا ينتج خطاب الشفاعة بعيدًا من الأمل، بدليل أنّه يكون عالمًا بمواضع الرجاء، ومرامي الخطاب التشفّعيّ، فضلًا عن أنّ خطاب الرسالة المنجز يتطلّع إلى تحقيق الغاية بالتخطيط لها وتبوُّئها مكانة خاصّة في عمليّة الإنشاء، والعناية الفائقة بانتقاء ما يليق من الألفاظ والمعاني. والكتابة في مثل هذه المقامات تظلّ في حاجة إلى التروّي، وتدبُّر أمر تجويد الرسالة التي تُصاغ في مقام الشفاعة حتّى تنال الحظوة اللازمة، ويُستجاب للطلب المضمّن فيها.‬‫وفي سياق آخر مرتبط بالأمل في علاقته بالغايات الشخصيّة، يضع ميشيل ميير (Michel Meyer) الأملَ واسطة عقد الغايات الشخصيّة، وذلك في إطار بحثه عن منطق للقيم، لا سيّما القيم الجماعيّة، ذات الصلة بالاستراتيجيّات الحجاجيّة التي يتكوّن منها الإيتوس الذي يشمل الهويّة والذات. ويشمل الإيتوس تلك الغايات الشخصيّة المتضمّنة للخلاص والأمل والرضا الفكريّ، والتي تؤدّي إلى تحقيق الغايات الاجتماعيّة.38 كلّ ذلك أتاح لموضوعة الأمل التي تنبني عليها رسالة الشفاعة أن تمنح النصّ طاقة حجاجيّة قويّة رغم أنّها لا تملك حضورًا ظاهرًا في النصّ مقارنةً مع الآليّات الحجاجيّة الأخرى التي يختزنها النصّ الترسّليّ الديوانيّ. لذلك يستغلّ المرسِل هذه الموضوعة من أجل مقصديّة عامّة تُراعيها مكوّنات العمليّة التواصليّة كلّها بصفتها نقطة مركزيّة في الرسالة ينجذب إليها مختلف الأطراف.‬6أطراف العمليّة التواصليّة والتشغيل الحجاجيّ لثيمة الأمل‫بعد أن تعرّض كثير من الأدباء والعلماء، في هذا القرن وبعده، لأصناف من المحن وألوان من العذاب، وصودرت حرّيّاتهم وأموالهم وأُودِعوا السجون، لجؤوا ”إلى من يتوسّمون فيه الجاه أو المقدرة على الشفاعة لهم، ولا سيّما رجالات من كبار رجالات الطبقة الخاصّة وغيرهم، لإنقاذهم ممّا هم فيه من مصائب ومحن.“39 حتّى عُدَّ حسن اختيار الطرف الأوّل أمرًا ذا بالٍ لإنقاذ هؤلاء الذين يطولهم غضب السلطة وبطشها. فكان ذلك مدعاة للاحتجاج والدفاع عنهم أملًا في تخفيف العقوبة، ولمَ لا؟ تخليصهم وإطلاق سراحهم.‬‫وبناءً على ذلك، يشكّل التشغيل الحجاجيّ لثيمة الأمل عنصرًا مهمًّا في عمليّة التراسل التي تروم كسب رهان الأمل بشكلٍ من الأشكال، ولأجل ذلك ارتأينا أن نتوقّف عند كلّ مكوّن من مكوّنات العمليّة التواصليّة مع الحرص على كشف أثر الأمل في نفوس أطراف التخاطب ومدى تأثّرهم به.‬6.1الشافع وصناعة الأمل‫الشافع هو الباعث بالرسالة – وهو هنا عزّ الدولة البويهيّ – وهو كذلك الباعث على رفع منسوب الأمل لدى المشفوع له، والمؤمَّل لما ستُسفر عنه قرارات الخليفة في شأن المذنب، مدفوعًا بتحقيق الرجاء في كتابة شفاعته، أو كما يُقال: ”ما أتيتُك إلا رجاوة الخير.“ والشافع ملزم بأن يختار التوقيت المناسب لبعث رسالته واستشفاع الخليفة، والعمل على ”الريث والأناة في بلوغ الأمل وإدراك النعمة كانتهاز الفرصة واهتبال الغرّة. والأناة وإن طالت فليست من جنس الريث. وانتهاز الفرصة وإن كان في غاية السرعة فليس من جنس العجلة.“40‬‫وفضلًا عمّا تقدّم، فإنّ ”للمرسِل دورًا أساسيًّا في إنجاح عمليّة الترسّل من خلال وعيه بمقام المخاطب، ومستواه السياسيّ، والفكريّ، والاجتماعيّ. وذلك بإظهار التواضع، وإبداء الاحترام حرصًا على التأثير والإقناع.“41 ولمّا كان الأمل بعيدًا، سعى الشافع إلى استمالة المشفوع إليه بخطاب يتلاءم وطبيعة الطلب؛ إذ ينزع فيه إلى التأثير المباشر عن طريق محاولات تنشد تقريب وجهات النظر بين المتخاطبين. يقول: ”وأنا أسأل سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أن يختصّني بمنّة في هذا الأمر أعتادها من أسلافه، اللازم قضاؤها، المشكور بلاؤها، ويتكفّل به تكفّل الناطق عن لساني، الذاهب مع إيثاري، الداعي إلى تشفيعي وإجابتي، المانع مطلي ومدافعتي.“42 هكذا يعمد الشافع إلى بثّ الكثير من الأشجان معدّدًا آيات الامتنان ومصرّحًا بموضوع الشفاعة، متخيّرًا أرقّ الألفاظ، باعثًا على مخاطبة أريحيّة المخاطب بانتهاز الفرص، متوسّلًا بحسن الظنّ لتحقيق الأمل.43 ولذلك رام الشافع أن يسلك مسلكًا خاصًّا في الخطاب، ينطلق بموجبه من ترتيب خطابه، وإيلاء الألفاظ العناية اللازمة من الاختيار والوقع الإيجابيّ، وتسخير الآليّات الحجاجيّة كلّها لضمان نجاعة خطابه وفعاليّته في تحقيق المبتغى المأمول حتّى لا يفوت الأمل، لأنّ ”طول الأمل يشين.“‬6.2المشفوع له ورهان الأمل‫أمل المشفوع له أن يكون موفور الحظّ من شفاعة الخليفة؛ فإليه المفزع وهو الملاذ، ولعلّ هذه المرافعة لم تكن لتتحقّق لولا أنّ الشافع يملك ولو بصيصًا من الأمل فيه. وعليه، فإنّ المشفوع له يجد في رسالة الشفاعة أكثر من معنى؛ فهي تبقيه على أمل في الصفح والإفراج. والظاهر أنّ المشفوع له خصّ بنصيب وافر من رسائل الشفاعات المبعوث بها إلى أولي الأمر في سبيل إخلاء سبيله واستعادته للمكانة التي حظيها قبل أن يقلب له الدهر ظهر المجن.‬6.3المشفوع إليه موضع كلّ أمل‫المشفوع إليه هو ”الطرف الثالث في عمليّة الترسّل، وتأثيره في هذه العمليّة يأتي من كون الرسالة تتشكّل بمراعاته، وتتأقلم أبعادها حسب مقامه.“44 وهو رهان كلّ أمل، يكون الرهان معلّقًا عليه على طول الرسالة، وما الدافع إلى كتابتها سوى كونه أمل الشافع والمشفوع له، ومكمن إحداث الأثر بالنسبة للذات الطالبة للشفاعة، المحكومة بالتواصل. هذا فضلًا عن التواطؤ معه، بما يمكن أن يحقّق نوعًا من التماثل بينه وبين المشفوع إليه في مجال المشترك كالاعتقادات والقيم والأعراف وغيرها من عناصر ذات حمولة ثقافيّة واجتماعيّة،45 حمولة تنشد العزّ والسلطان والمال والتفرّد في الأخلاق واختلافها عن أخلاق العامّة وكلّ ما يميّز ”المجتمع السلطانيّ.“ وهو ما يجعل المرسَل إليه يدرك مختلف الظروف الحافّة بالخطاب، وهذا القصد المتمثّل في أنّ الأمل معقود عليه لا سواه، إلّا أن ذلك يندرج ضمن سياسة خاصّة تعتمد في تصريفها ثنائيّة الترغيب والترهيب.‬‫نخلص من هذا كلّه إلى أنّ المشفوع إليه ”ما أُمّل إلّا عن تأمّل، ولا سُئل إلّا بعد تثبّت، وأنّ الزائر له قد أنفق مزجًا بضاعته، والكاتب على يده قد أراق ماء وجهه، وأنّه متى قصّر في التعريض، ولوى عن المطلوب، فقد خسر أكثر ممّا خسرا، وأثبت أضعاف ما أثبتا، وسبقهما إلى ما يُلجئهما إليه من الخجلة، ويحصّلهما عليه من الخيبة.“46 ويُعتمد على المشفوع إليه في الأخذ بيد المشفوع له، لذلك تدفع كتب الشفاعات المخاطبَ إلى قبول الشفاعة بما تحرص عليه من دعاء وثناء مع حشد النعوت والأوصاف المدحيّة التي يتمّ استرفادها من حقل المديح لأجل توجيهها إلى الرؤساء والوجهاء الذين تُستثار نوازع الخير في نفوسهم.‬‫ولا يذعن المشفوع إليه لخطاب الشافع، وإنّما يجد نفسه مدفوعًا إلى قبول الشفاعة أسوة بالأنبياء والمرسلين. وفي نهاية المطاف يكون أمل المشفوع إليه تخليد هذا السلوك تجاه المذنبين من رعاياه.47 وقد فسّر الجاحظ دور المشفوع إليه في فصل من رسائله بالقول:‬‫وإنّك والله – أيّها الكريم المأمول، والمستعطب المسؤول – لا تزرع المحبّة إلّا وتحصد الشكر، ولا تكثر المودّات إلّا إذا أكثر الناس الأموال، ولا يشبع لك طيب الأحدوثة وجمال الحال في العشيرة إلّا لتجرّع مرار المكروه. ولن تنهض بأعباء المكارم التي توجبها النعمة وتفرضها المرتبة حتّى تستشعر التفكّر في التخلّص إلى إغنائهم، والقيام بحسن ظنّهم، وحتّى ترحمهم من طول الانتظار، وترقّ عليهم من موت الأمل وإحياء القنوط.48‬‫تتشكّل بنية الخطاب في الرسالة التشفّعيّة من ”نسق ثلاثيّ“ تحرّكت داخله علاقات المشفوع له والشافع والمشفوع إليه، بل إنّ تفصيل الوظائف لَدليل على أنّ كلّ طرف مأخوذ بالأمل من ناحية؛ إذ يسعى الطرف الأوّل إلى التلطّف في الخطاب وتليينه لأجل إنجاز الوعد من دون أن يتسلّل إليه اليأس والحيرة، أمّا الطرف الأخير فإليه يُبسط الأمل، وعليه يعوَّل في الطلب، فهو المؤمّل والمأمول. يقول البحتريّ (ت 284هـ): (من الكامل)‬‫ولعلّ ما قدّمه الشافع من حجج ومعاذير أغلبها منتقًى من تجربة ملموسة ومعيشة، ومستقًى من واقع أطراف العمليّة التخاطبيّة، حيث جعل الشافع تدخُّل الخليفة مطمح نظره، ومنتهى آماله، وبذلك استعمل في النصّ حججًا تضمن قوّته الإقناعيّة وطاقته التأثيريّة.‬7بلاغة الدعاء واستشراف الأمل‫يُعَدّ الدعاء من المكوّنات البنائيّة في رسائل الشفاعات؛ إذ ترد صيغه في جميع مفاصلها حتّى تهيمن، وكأنّ الشافع في تواصله مع المشفوع إليه يلتمس كلّ السبل من أجل نيل المراد، ولكن يبقى الدعاء السبيل الأكثر حضورًا لتواصلٍ ناجع مع المتلقّي كونه كلامًا ساميًا مختلفًا عن باقي الخطابات. ولعلّ ما تحمله الرسالة التشفّعيّة من معاني التوقير والتبجيل آتٍ من جملة القوالب التعبيريّة التي يصطبغ بها القول الترسّليّ؛ فإنّ الكاتب يروم استمالة المتلقّي عن طريق ما يُسبغ عليه من صفات الألقاب السلطانيّة والدعاء له حتّى يتأثّر بمضامين الرسالة، وينهض بمهمّة تذليل السبيل. ويستلزم ذلك إيلاء العناية اللازمة باختيار الأنسب من الأدعية لتحقيق المراد المطلوب. يوحي هذا بأنّ الدعاء يشكّل عصب الخطاب الترسّليّ في الشفاعة ونواته. ومن الدعاء العامّ المناسب للمقام: ”يا شفيع المذنبين.“ ولا يخفى ما للدعاء من صلة بالأمل، وقد ورد في العقد الفريد قول بعض الأعراب: ”اللّهمّ إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل،“49 فرغم ما في مضمون هذا الدعاء من علاقة بالموت، فإنّ السعي إلى تحقُّق الأمل يبقى قائمًا، وتحصيل منفعته جارية ومبتغاة.‬‫تجدر الإشارة، ههنا إلى أنّ الدعاء في رسالة الصابي يرد في صيغ جمل اعتراضيّة تتخلّل الخطاب، ويظهر أثر الجملة الاعتراضيّة الدعائيّة في الرسالة عامّة عبر إحداث تجاوب فعليّ، وذلك من خلال استثارة مشاعره وعواطفه، وجعله مهتمًّا بمقاصد الخطاب، رغبة في نقله من حالة التفاعل العاطفيّ إلى حالة التفاعل العمليّ.50‬‫إنّ الدعاء في الرسالة لا يقتصر على المقدّمة أو الخاتمة فحسب؛ ففي صدر الرسالة، على سبيل المثال، يشكّل الدعاء الركن الثاني مشتقًّا من المعنى الأساس كما يتّضح في بناء الرسالة عند ابن الأثير (ت 637هـ)، وفيها يدعو الشافعُ للمشفوع إليه بالبقاء ودوام العزّ والتأييد، جاعلًا شكر النعم مقوّمًا ثانويًّا لا ينفصل عن مقوّم الدعاء الأساس؛ فهو يعزّزه مثلما يعزّز الإقناع برمّته ويرفده. أمّا إيراد الدعاء في الخاتمة فهو بمثابة إيذان بانتهاء الرسالة ليبقى عالقًا في ذهن المخاطب، وحافزًا له على تغيير موقفه تجاه المذنب. لذلك ينبغي إمعان النظر في صيغ الدعاء وكأنّها لازمة يتمّ استدعاؤها كلّما أراد المرسِل التعبير عن عاطفة خاصّة تجاه المرسَل إليه، يخبره به أنّه عالي المقام، ويرجو له البقاء وطول العمر. يقول أبو إسحاق الصابي عن عزّ الدولة: ”فإن رأى سيّدنا الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أن يأتي في ذلك ما هو أهله، وحقيق به، واثقًا بأنّه من أكبر حوائجي إليه، وأجلّها عليه فعل إن شاء الله.“51 تثير هذه الصيغة وما شاكلها من الصيغ الدعائيّة في نفس المشفوع إليه إحساسًا بالسلطة والأبّهة والعزّ والتمكين مع ما يقتضيه ذلك من ”استحضار للهيبة السلطانيّة.“‬‫يضطلع الدعاء على هذا النحو ”من حيث هو تركيب لغويّ يخضع وهو يؤدّي وظيفته التبليغيّة لقواعد اللّغة وقوانينها، ومن حيث هو تشكيل فنّيّ يلتزم بقواعد الصنعة الفنّيّة ومتطلّباتها“52 بوظيفة خاصّة مفادها خدمة غرض الرسالة وأهدافها العامّة والخاصّة. وما المبالغة في استدعاء الألقاب والصفات السلطانيّة إلّا لإشعار المشفوع إليه برفعته ومرتبته. على أنّ الدعاء، ههنا، يعبّر باللغة عمّا لا يُستطاع التصريح به، وهو أمر مرغوب من لدن المشفوع إليه لأنّه يتوجّه إليه بالخطاب دون غيره، ويثير في نفسه الرضى والقبول، وينقله من حالة الرفض وإنزال العقاب بالمذنب والمخالف إلى حالة العفو، خصوصًا أنّ طلب الصفح مقرون بالاعتراف، ومشفوع بالدعاء. ويبقى، أي الدعاء، أملًا بوصفه طلبًا يتوجّه به الشافع إلى الله ليخصّ به المشفوع إليه. وإذا كانت الاستجابة محقّقةً في الدعاء مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾،53 فإّن الأمر نفسه يكاد ينطبق على طبيعة الاستجابة في المسألة الثانية على سبيل القياس، والشيء بالشيء يُذكر.‬‫ومن هنا، فإنّ درجات الأمل محكومة بصيغ العمل وسياقات الكلام، والدعاء أحد هذه الصيغ لأنّ الغاية من توظيفه هي جعل طلب الشفاعة محقّقًا، فيعتمد الخطاب على صيغ دعائيّة وأساليب مخصوصة لا تحتلّ مساحات واسعة في سياق التلفّظ، وإنّما يظلّ حضورها نوعيًّا ناجعًا.‬‫بناءً على ما تقدّم، فإنّ هذه هي أهمّ المفاصل التي تقوم عليها البنية الخارجيّة للرسالة التشفّعيّة، وإنّ خطابها هو خطاب حجاجيّ تداوليّ، ونجاعة وظيفته لا تكمن فيما يقدّمه هذا الخطاب من مضامين، وإنّما ما يحقّقه من أهداف ومرامٍ. ولذلك أمكن الحديث عن نجاح الخطاب بالعودة إلى المسالك الخطابيّة التي سلكها الشافع من أجل استمالة المشفوع إليه حتّى يأمر بالإفراج عن المشفوع له.‬8محاذير خطاب الأمل في الرسالة التشفّعيّة‫الظاهر أنّ هذا الضرب من الرسائل قد فجّر ينابيع كثيرة من الأمل في مراحل كان ديوان الرسائل فيها دليلًا على اتّساع رقعة الدولة الإسلاميّة، وحاجاتها إلى التواصل مع الأطراف وإخماد الفتن متى اقتضت الظروف ذلك. وكانت رسائل الشفاعات إحدى أهمّ الوسائل التي تحقّقت بها تلك الغايات مبنيّة على جملة من التطلّعات والطموحات. وفضلًا عن المزايا الخاصّة لهذا الجانب الإنسانيّ، يبقى الأمل هاجسًا مشتركًا بين مكوّنات الخطاب في الرسالة التشفّعيّة؛ فبالنسبة إلى الشافع هو مدعوٌّ إلى تحيّز الفرصة وتهيئة المناسبة لمراسلة المشفوع إليه آخذًا بمبدأ التأدّب، أمّا المشفوع إليه فعليه أن يأخذ بمبدأ الرأفة وهو دليل واضح على انخراطه في قضايا أمّته وهموم رعيّته وإن كانوا مذنبين. ومن هنا، فإنّ الرسالة التشفّعيّة تتجاوز وظيفتُها الاستنجازَ والطلب إلى أن تتلبّس لبوسًا ذا أبعاد سياسيّة واجتماعيّة، ويكون من أوكد أهدافها إصلاح أحوال الرعيّة وتقويم اعوجاج سلوكها، والترويج لقيم مخصوصة في المجتمع البويهيّ.‬‫ويبقى الأمل وسيلة لمقاومة اليأس ومدافعته، وهو آليّة تنقاد لها النفوس، وتهفو إليها بدرجات متفاوتة. وقد يجد بعض الناس الآليّات الأنسب لتجديد الأمل في إحداث التأثير المطلوب، وهو ما يراهن عليه التحليل البلاغيّ الحجاجيّ، خصوصًا أنّ المخاطب يكون مدعوًّا إلى اتّخاذ موقف إيجابيّ تجاه المعنيّ بالخطاب التشفّعيّ.‬‫وما دام الأمل ثيمةً ذات أبعاد إيجابيّة تحضر في خطاب الرسالة التشفّعيّة بدلالاتها وإمكاناتها المحمودة، فإنّ له أيضًا أبعادًا سلبيّة تقترن به، وتجعله في عداد ما يُطلب تركه. وقد ورد في العقد الفريد أنّ عليّ بن أبي طالب (حكم 35–40هـ) خطب في الناس يوصيهم بتقوى الله ولزوم العمل وترك الأمل؛54 فإنّه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله.55 ولئن كان المشفوع إليه يتبنّى في ذلك سلوكًا إيجابيًّا يحمله على العفو على المذنب، فإنّ ذلك يُعزى إلى إيمانه، وانحيازه في التدافع بين الخير والشرّ إلى تغليب كفّة الخير، والبحث عن البدائل في تخليق سلوك الرعيّة. لهذا تُعَدّ الشفاعة عنصرًا أساسًا في إصلاح الأخلاق التي تتضمّنها الديمقراطيّة،56 وتقليص دائرة المتمرّدين بالعفو عن بعضهم، والسماح لهم بالعودة إلى حياض الدولة، وفي ذلك رسالة مضمرة إلى باقي المتمرّدين بإصلاح الاختلال الكامن في دواليب الدولة، والانفتاح على المعارضين ما دام الأمل يحذوهم في تحقيق المبتغى. ولعلّ الشفاعة في هذا المقام تغدو شكلًا من أشكال تقديم فروض الطاعة والولاء، ولذلك يبقى السلطان، بوصفه المشفوع إليه وواسطة العقد وقطب الرحى في ردّ المظالم وتحقيق العدالة والإفراج عن المذنبين، وجهًا من وجوه الإنصاف ورعاية الرعيّة والتخلّي عن كلّ أشكال الهيمنة والجبروت، مع ما في ذلك من معاني الامتثال للسلطة القائمة والالتفاف حول الخليفة. وهو ما يُظهر أيضًا أنّ رغبة السلطان لا تتمثّل في الممارسة الفعليّة للسلطة فقط، وهذا أمر مفروغ منه، بل في إظهار هذه السلطة للعيان وتجسيدها، فإن كان السلطان يحكم رعيّته مثل أب وصيّ، ويحاول الظهور أمامهم بصورة ”ربّ الأسرة“ الحريص على شؤونها، فإنّه يتحوّل في ”بلاطه“ إلى حاكم بأمره.57‬9على سبيل الختم‫هذه بعض ملامح تجلّيات الأمل وصوره في رسالة تشفّعيّة من رسائل الصّابي. وكان بالإمكان توسيع دائرة العناية بنماذج ترسّليّة أخرى في أفق البحث عن مواطن الأمل، والصور التي رسمها الكتّاب ببلاغتهم حتّى بلغت كتاباتهم عنان السماء، ولكنّنا، مراعاةً لحدود هذا المقال، اكتفينا بما أسلفنا الإشارة إليه متمسّكين بمنهج واضح مرسوم منذ البداية، رغبةً منّا في تعقّب أصداء الأمل وطرائق تجدّده في الخطاب الترسّليّ في البداية والعرض والختم، وكأنّ ذاك الأمل هو ما يحمله الكاتب على عاتقه من أجل الوصول بالمكتوب إلى برّ الأمان. ولقد حاولنا كذلك الكشف عن تردّدات اللفظ ومعناه في المعاجم العربيّة، وانعكاس ذلك على مدلوله الاصطلاحيّ. ولا يخفى ما لهذه العودة من تأصيل للّفظة في اللغة كما في الاصطلاح، لتكون أحد الضوابط العلميّة للمضيّ قدمًا بهذا المفهوم واختباره وتجريبه في مختلف أنساق المعرفة للوقوف على إمكاناته. وقد أُتيح لنا أن نقارب المفهوم من منظور الكتابة الترسّليّة بالكشف عن إمكانات ثيمة الأمل وسيرورتها في الخطاب وفي مختلف المواقف التواصليّة بين المتخاطبين عن طريق النموذج الذي سعينا إلى تحليله.‬‫وعليه، يفرض علينا مقام الختم أن نذكّر بأنّ النظر في فاعليّة الأمل في الخطاب الترسّليّ والبحث في كيفيّة تصريفها أمر مقرون بمقاصد الوقع والتأثير في المخاطب بصفته ضابطًا من ضوابط الخطاب، وتحديد مدى نجاعته وتقييم منسوبه.‬ http://www.deepdyve.com/assets/images/DeepDyve-Logo-lg.png Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya Brill

فاعليّة الأمل في أدب الرسائل: الرسالة التشفّعيّة لأبي إسحاق الصابي نموذجًا

Loading next page...
 
/lp/brill/LZRaW07Aqy

References

References for this paper are not available at this time. We will be adding them shortly, thank you for your patience.

Publisher
Brill
Copyright
Copyright © Koninklijke Brill NV, Leiden, The Netherlands
ISSN
2772-8242
eISSN
2772-8250
DOI
10.1163/27728250-12340022
Publisher site
See Article on Publisher Site

Abstract

1تقديم‫يندرج هذا المقال ضمن اهتمام خاصّ بأدب الرسائل عمومًا، ورسائل الشفاعات على وجه الخصوص بوصفها رسائل تنطوي على جملة من المقاصد من المحتمل تحقُّقها، لذلك يبقى الأمل معقودًا على مجموعة من الاستراتيجيّات الخطابيّة التي يوظّفها الكاتب في هذا الضرب من الرسائل التي ازدهرت في القرن الرابع/العاشر، وهو القرن الذي خلّد أسماء لامعة في الكتابة والترسّل من قبيل: الصاحب بن عبّاد (ت 385هـ) وابن العميد (ت 367هـ) وعبد العزيز بن يوسف (ت 388هـ) وأبي إسحاق الصابي (ت 384هـ)1 وغيرهم. على هذا الأساس، نحاول في المقال الكشف عن ديناميّة الأمل في هذا النوع الأدبيّ من النثر الفنّيّ، فهو يتّخذ من موضوعة الأمل ”بؤرة نصّيّة“ ينجذب إليها مختلف الأطراف والفاعلين في العمليّة التواصليّة بشكل مباشر، وجمهور المتلقّين من القرن الرابع/العاشر بشكل غير مباشر. والغاية أن نُسهم في العناية بالتراث العربيّ ونلتفت إلى ”جُزُره المنسيّة، وإلى فنون قوله النثريّة التي لم تنل حظّها من العناية،“2 ولا سيّما أدب الترسّل الذي بلغ أوجه من الصنعة حتّى زاحم الشعر، وربّما جاوزه لكمال العناية به داخل دوائر السلطة وخارجها.‬‫وعليه، تنطلق دراستنا من مقولةٍ مفادها أنّه لا توجد مبادرة أو فعل أو خطاب له غايات نفعيّة من دون أمل، وقد يشتدّ هذا الأمل أو يضعف حسب درجة قيمته وأهمّيّته؛ إذ يتشبّث الناس عادةً به ويستمدّون القوّة منه. ولذلك ارتأينا تطبيق ذلك على نمط مخصوص من الأدب ممثّلًا في أدب الرسائل، سواء في الرسائل الديوانيّة كرسائل الإخبار بالفتوحات والتهنئة بالانتصار وغيرها من الرسائل التي تعمل على إذكاء الأمل في النفوس؛ أم في الرسائل الإخوانيّة التي يكون فيها الأمل ركيزة أساسًا ومدعاة إلى كتابة الرسالة وتلقّيها؛ أم في الرسائل العتابيّة.3‬‫ويعالج البحث نموذجًا ترسّليًّا من رسائل أبي إسحاق الصابي. واختيارنا للنصّ الترسّليّ التشفّعيّ، تخصيصًا وتحديدًا، لكونه غرضًا من أغراض الاستنجاز وآداب الطلب وقضاء الحاجات، وتظهر فيه فاعليّة الأمل بوصفه مطيّةً لتحقيق المراد، ونمطًا بانيًا للأمل بواسطة ما يبعث في نفس الآمل من حالة نفسيّة ووجدانية تساعد على بثّ روح الأمل في باقي المتخاطبين، ولكونه كذلك نصًّا حجاجيًّا بامتياز؛ فهو ينصرف إلى استمالة المتلقّي والتأثير فيه لأجل تغيير مواقفه. فالرسائل التشفّعيّة هي من الرسائل التي يتعلّق فيها أطراف العمليّة التواصليّة بالأمل، ولا تقف الغاية منها عند حدود التأثير في المخاطبين وتغيير مواقفهم، بقدر ما تروم تحقيق نوع من الاستقرار النفسيّ والاجتماعيّ في نسيج المجتمع، وتحقيق سعادة الآخرين وآمالهم العريضة.‬‫وبما أن المرتكزات الإبلاغيّة والبلاغيّة لها دورها في رفع منسوب الأمل لدى متلقّي الخطاب الترسّليّ، فإنّ البحث سيعمل على تعقّب ذلك فيما تمّ تسطيره في الرسالة، علمًا بأنّ وظيفة الرسالة لا تقتصر على الإبلاغ فحسب، وإنّما تراهن على ما هو فنّيّ عن طريق استعراض مواهب الكتّاب وثقافاتهم، وبذلك فهي تعمد إلى تحقيق وظيفة إمتاعيّة أيضًا. وتكون الصفة الإبلاغيّة وسيلة والصفة الإمتاعيّة غاية، لأنّ الرسالة الأدبيّة يجب أن ترمي إلى إمتاع المرسَل إليه، ومن يطالعها بعده؛4 فالوظيفتان متلازمتان ومن الصعب الفصل بينهما في أثناء بناء الخطاب وصوغ تفاصيله، بما في ذلك الأساليب والصور التي يستدعيها الكاتب لتضفي على الرسالة طابعًا جماليًّا. كما أنّ الرسالة في الوقت ذاته تضطلع بوظائف إقناعيّة، بفضل التقنيّات الحجاجيّة التي يقوم عليها الخطاب التواصليّ، وهو ما يستحسنه المتلقّي المباشر للرسالة، أي المشفوع إليه، لا سيّما أنّ المتلقّي العربيّ القديم كان يشترط العناية بالألفاظ، وكمال المعاني وشرفها، وهو أمر موكول إلى كفاية الكاتب ومهارته في التعبير عن الغرض المراد.5‬‫من هنا، نلتمس في هذا البحث الاهتمام باستجلاء مواطن الأمل داخل الخطاب الترسّليّ المعنيّ بالدراسة والتحليل، آملين معالجة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة: ما هو تعريف الأمل في المدوّنة العربيّة القديمة؟6 وما بواعث تفسيره من منظور مقابل له؛ أي اليأس؟ وهل هو في صلب اهتمام أطراف الخطاب كلّهم؟ وما الذي يمكن للمشفوع له أن يأمله حقيقة، في إطار مغامرة خطرة، ومقاربة يكون الرهان فيها نيل المطلوب والمؤمّل؟7‬2سيرورة الأمل في المعاجم اللغويّة والمدوّنة العربيّة القديمة‫بالنظر إلى تردّدات الأمل في معاجم اللغة، فإنّها تكاد تتّفق على أنّ لفظ الأمل مرادف للرجاء، منافٍ لليأس، دون تقديم مزيد من الشرح لشيوعه؛ فالأصل أنه معرّف ولا يحتاج إلى مزيد تعريف. أمّا مرتضى الزبيديّ (ت 1205هـ) فاستفاض أكثر من غيره من اللغويّين مبيّنًا ذلك في معجمه تاج العروس قائلًا:‬‫الأمل: توقّع حصول الشيء، وأكثر ما يُستعمل فيما يُستبعد حصوله، فمن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: أمّلت، ولا يقول: طمعت، إلّا إن قرب منها، فإنّ الطمع ليس إلّا في القريب […] والرجاء بين الأمل والطمع، فإنّ الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله، فليس يُستعمل بمعنى الخوف. ويُقال لما في القلب ممّا يُنال من الخير: أمل، ومن الخوف: إيحاش، ولما لا يكون لصاحبه، ولا عليه: خطر، ومن الشرّ وما لا خير فيه: وسواس. وقال الحرّانيّ: الرجاء: ترقّب الانتفاع بما تقدّم له سبب ما. وقال غيره: هو لغة: الأمل، وعرفًا: تعلّق القلب بحصول محبوب مستقبلًا: قاله ابن الكمال. وقال الراغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرّة.8‬‫وممّا ورد عند أبي هلال العسكريّ (ت نحو 395هـ) في التفريق ما بين الرجاء والطمع قوله:‬‫الرجا مقصور: الناصية، والرجاء ممدود من الأصل، والأصل: الميل: وذلك أنّ من يرجو نيل الشيء فإنّه يخاف فوته في أكثر الحال، فكان الرجاء طرفًا، والخوف طرفًا،9 ومنه قيل: رجاء البئر لناحيته، فأمّا الطمع فيما قيل فتَوْطين النفس على نيل المطلوب من غير مخافة للفوت. والصحيح أنّ الرجاء ما كان عن سبب، والطمع ما كان عن غير سبب، ولهذا ذُمّ الطمع، ولم يُذمّ الرجاء. وربّما جاء الطمع في معنى الأصل، وهو قوله: ﴿وَالذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدينِ﴾. والرجاء في القرآن على وجهين: الأوّل: الأمل؛ قال الله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾. وهذا دليل على ما قلنا من أن الرجاء يكون طرفًا، والخوف طرفًا. الثاني: الخوف، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ ونحوه قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ﴾ أي: يخاف البعث، وقال: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾.10‬‫وكثيرًا ما يلتقي هذا الكلام مع ما ورد في الثقافة اليونانيّة عند أرسطو الذي رأى أنّ من الدوافع الضروريّة للخوف أن يبقى هناك بعض الأمل في النجاة من أسباب المحن. وآية ذلك أنّ الخوف يجعل الناس يروون، بينما المرء لا يروي في الأمور الميؤوس منها.11 والقصد من ذلك هو أنّ الخوف يدفع الناس إلى تشخيص واقعهم وسرد ما واجهوه من أزمات وعراقيل والتعبير عنها للتنفيس عمّا حلّ بهم، ولا يتمّ ذلك إلّا بجعل الأمل يرسم طريق الخلاص، ويبدّد كلّ المخاوف التي تواجه الإنسان، على عكس الأمور التي يتعذّر فيها التشبّث ببصيصٍ من الأمل وربّما فقده إلى غير رجعة.‬‫وفي سياق تأصيل ثيمة الأمل في التراث النثريّ العربيّ، يستوقفنا ما ورد في كتاب المحاسن والأضداد للجاحظ (ت 255هـ)، وفيه أنّ عبد الله بن مروان (ت نحو 170هـ) قال لسلم بن يزيد الفهميّ12 ”أيّ الزمان أدركت أفضل وأيّ ملوكه أكمل؟“ قال: ”أمّا الملوك فلم أرَ إلّا ذامًّا وحامدًا، وأمّا الزمان فرفع أقوامًا ووضع آخرين، وكلّهم يذمّ زمانه لأنّه يُبلي جديدهم ويُهرم صغيرهم، وكلّ ما فيه منقطع إلّا الأمل.“13 ويرد في البيان والتبيين: ”[قال] أبو إسحاق بن المبارك: قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء؟ قال: الأجل. قيل: فما أبعد شيء؟ قال: الأمل.“14‬3سياق التشفّع وبناء فاعليّة الأمل‫يظلّ الإنسان في حاجة إلى الأمل دائمًا، متطلّعًا إليه بسبب، ومتعلّقًا به في كلّ وقت وحين لتحقيق طموحاته وأحلامه، فإن تعلّق الأمرُ بمذنب مسلوب الحرّيّة، أو مضطهد، أو مطارد، أو مغضوب عليه، فإنّ منسوب الأمل في هذه الحالات يختلف من وضع مأزوم إلى آخر. وتتجسّد هذه الحاجة في مناسبات مخصوصة تصرف الناس إلى التعبير عنها، وهي وإن لم تكن مقصودة بشكل مباشر فإنّ وقعها دالّ بانعكاساته على المتخاطبين على نحو تبدو فيه العمليّة أمرًا مستحيلًا لدى أحد أطراف العمليّة التواصليّة، وهو المذنب، لكنّ ذلك يهون بوساطة الشافع الذي يعمد إلى إحياء الأمل لديه بصورة تجعله يؤمن بما ستُسفر عنه الرسالة التشفّعيّة.‬‫والحق أنّ الأمل ينعقد في رسالة الشفاعة على طرف مكين في الخطاب وهو المشفوع إليه. وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين غايةٍ حُقّقت وكان الأمل سبيلًا إليها، وغاية تعذّر تحقُّقها؛ فطبيعة الأمل ومنسوبه لدى الشافع هما اللذان يجعلان الطلب قابلًا للتحقّق أو متعذّرًا. وربّما تكاد لا تخلو رسالة الشفاعة من هذا الرهان المبنيّ على الأمل لتجاوز إقامة الحدّ، وإلحاق العقاب وتعريض النفوس للهلاك، ولعلّ ذلك يكشف عن فاعليّة الأمل، وعن قدرة الكاتب على بلوغ مطمحه في تجنيب المشفوع له الأذى.‬‫وإمعانًا في حضور الأمل في الكتابة، فإنّ الرسالة التشفّعيّة مجال حيويّ لتخصيب الأمل وتجسيده، والبحث عن سبل تحقّقه، علمًا بأنّ الكتابة في حدّ ذاتها أمل، واستخدامها وسيلةً للتواصل وتغيير المواقف وتليينها يشكّل موضوعًا من الموضوعات الأثيرة للبلاغة.15‬‫وإذا كان التراث العربيّ لم يحتفظ لنا بدراسات ترصد ثيمة الأمل في مختلف الخطابات، فإنّ هذه الثيمة ترد متناثرة في المدوّنة العربيّة القديمة. وفي استحضار لفظ الشفاعة في التراث العربيّ، فقد ذهب ابن منظور في تحديده إلى أنّ الفعل ”شفع لي يشفع شفاعة وتشفّع: طلب، والشفيع الشافع، والجمع شفعاء، واستشفع بفلان على فلان وتشفّع له إليه فشفعه فيه […] الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه في معنى طلب إليه، والشافع: الطالب لغيره يتشفّع به إلى المطلوب.“16 ويُقصد بالفعل اصطلاحًا التوسّط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرّة. أمّا عن صلة الشفاعة بالأمل، فيمكن الاستدلال على ذلك بما ترويه بعض المصنّفات مثلما كتب عبد الحميد بن يحيى (ت 231هـ) عن الوصاية بإنسان، وهي غرض قريب من الشفاعة ولا يرد إلّا مقرونًا به حيث قال: ”حقّ موصل هذا الكتاب عليك كحقّه عليّ؛ إذ رآك موضعًا لأمله، ورآني أهلًا لحاجته، وقد أنجزت حاجته، فحقِّق أمله.“17‬‫وتبعًا لذلك، فإنّ كاتب رسالة الشفاعة ينبغي ألّا يعدم حججًا لتحقيق غايات خطابه، وإثارة عواطف معيّنة، لذلك جاز لنا القول، إنّه لا يجوز أن يعدم الأمل كذلك، وهو الأمر المترتّب عن الأحوال المؤثرة الشفاعة ما دام أنّ هناك حزمة قرائن توحي بأنّ الأمل ملمح صريح ومضمر في الوقت ذاته داخل نسيج الرسالة التشفّعيّة.‬‫وقد سبق أن وضع المستشرق الألمانيّ ديم فيرنير (Diem Werner)18 دراسة عن الكتابات الترسّليّة العربيّة، مع تخصيص الفصل الرابع منها لتسليط الضوء على استراتيجيّة الشفاعة في أدب الرسائل، فناقش الأنواع المختلفة من الحجج التي قدّمها كتّاب الرسائل لإقناع من يخاطبون بدءًا من طرق التعامل مع المتلقّي بالثناء أو المناشدة، مرورًا بالتكريم الذي يُستحسن على وجه معيّن.19‬‫لذلك يتطلّع كتّاب رسائل الشفاعات، غالبًا، إلى تحقيق غاياتهم على نحو يجعل العمليّة مرتبطة بالتخطيط المسبق؛20 إذ ”يُعَدّ التمكّن من بناء المسالك الخطابيّة من مشمولات الكفاية التخاطبيّة التي تشمل أيضًا معرفة المتخاطبين بالمواضعات اللغويّة المعجميّة منها والنحويّة، وقدراتهم المنطقيّة، ومعرفتهم بأصول التخاطب ومعرفتهم بالمحيط الخارجيّ، وإلمامهم بكلّ السياقات التي لها صلة بموضوع التخاطب.“21‬‫وإذا كانت غايات منشئ الخطاب عامّةً هي إبلاغ مقاصده من الخطاب، فإنّه أيضًا يعمل على التأثير في متلقّيه بطرق وأساليب مخصوصة تتيحها له اللغة عن طريق الانزياحات واستعمال التعريض وما يترتّب عن ذلك من تصريح وتلميح. وربّما حصل نوع من الاتّفاق على مفهوم الخطاب عند القدماء؛ فالخطاب عند الفقهاء هو توجيه كلام نحو الغير للإفهام،22 أو هو ”القول الذي يفهم المخاطب به شيئًا.“23 والظاهر أنّ هذه التعريفات قد جنحت إلى تحقيق الغاية من الخطاب بالاسترفاد من معناه لغةً واصطلاحًا.24 ولا بدّ من توفّر جملة من الشروط حتّى يصير القول خطابًا، منها: تصوّر المعنى من لفظ المتكلّم، واشتمال الخطاب على رسالة ما،25 والاستعداد التامّ لفهم مضمونه، فضلًا عن وجود متخاطبين، ومقاصد منها إفهام المخاطب والتأثير فيه.‬‫وتبعًا لذلك، فإنّ الخطاب المقصود في هذه الدراسة هو الخطاب الإقناعيّ في الرسالة التشفّعيّة الذي يتجسّد بوضوح في خطاب الشفاعة بصفته خطاب تحبيب لا خطاب تنفير، وقولًا منجزًا يحمل مقاصد الشافع، وهو ما ”يهدف إلى الإقناع بشيء ما؛ إلّا أنّ هذا الشيء يمكن أن يكون متعدّدًا، وغالبًا ما يكون للنصّ غرض قريب وغرض بعيد المنال،“26 لذلك فإنّ الغرض الأوّل يكمن في قبول الشفاعة، والثاني في الإفراج عن المشفوع له وإحلاله محلًّا كريمًا. ولأجل هذا ”يتحتّم على المرسِل أن يختار الاستراتيجيّة27 المناسبة التي تستطيع أن تعبّر عن قصده، وتحقّق هدفه بأفضل حالة؛ ففعل الاعتذار مثلًا يتحقّق عبر خطابات كثيرة، كلّ خطاب منها يمثّل استراتيجيّة.“28 على أنّ ما يهم الشافع، في هذا المضمار، هو التعبير عن قصده عن طريق إحلال الأمل منزلة خاصّة ضمن استراتيجيّة كتابة الرسالة ورفعها إلى المعنيّ بالأمر؛ فهو يمثّل حجر الزاوية في تشكيل نسيجها وعوالمها.‬‫ولمّا كانت الرسالة التشفّعيّة خطابًا تدواليًّا تشترك في بناء عوالمه جميع أطراف العمليّة التواصليّة عمومًا، فإنّ ما يدفعنا إلى تتبّع أثر الفعل الحجاجيّ في رسالة تشفّعيّة لأبي إسحاق الصابي، هو أنّ الغاية منها حجاجيّة. فالرسالة باسم عزّ الدولة (ت 367هـ)29 في الشفاعة لأبي مخلد30عند الأمير فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة (ت 387هـ)،31 ولمّا كانت الغاية حجاجيّة، فإنّ التأثير في الخليفة كان رهانًا من رهانات الرسالة، واستمالته لصالح المشفوع له بما أوتي الكاتب من أدوات وآليّات تسمح له بتحقيق المنشود، وتغيير موقف الخليفة تجاه أبي مخلد. وقد خصّ أبو إسحاق أبا مخلد بهذه الرسالة ورسائل أخرى كتبها نيابةً عن بعض أمراء بني بويه وغيرهم. وتبقى ”الوسائل المستعملة في الإقناع متنوّعة غاية التنوّع، وتستخدم إجراءات معقّدة تمتاح من غنى السلوك الإنسانيّ.“32 وما ينبغي التأكيد عليه هو وجود فيض من المشاعر يحملها الكاتب تجاه المكتوب عنه وله، وربّما مَن يكتب إليهم أيضًا، هذا بالنظر إلى طول ممارسته للكتابة في ديوان الإنشاء لدى أمراء بني بويه، وقدرته على استنطاق رغبتهم فيما يودّون البوح به. فهو ينوب عنهم نيابة تسمح له بإبراز كفايته اللغويّة والبلاغيّة، وإلّا لما حاز المكانة التي تبوّأها في عصره لا سيّما أنّ رسائل الشفاعات التي كتبها الصّابي هي لخاصّة القوم وليس لعامّتهم.‬‫ولعلّ قارئ الرسالة التشفّعيّة التي رفعها الصابي نيابة عن الأمير عزّ الدولة سيلمس أنّها نزعت إلى تصوير المشفوع له شخصًا مغلوبًا على أمره، وأنّ مصيره أصبح بين يدي الخليفة، كما سيلمس نزوع الشافع إلى إظهار الطاعة، واستعمال معانٍ مدحيّة حتّى يدفع المشفوع إليه إلى إصدار قراره بالعفو، وهي مرحلة تعقبُ مرحلة طلب الشفاعة وتُعَدّ جزءًا من البروتوكول السياسيّ القائم.‬4معماريّة الرسالة التشفّعيّة‫تنتمي الرسالة التشفّعيّة إلى صنف من الرسائل لا يستوفي مساحات خطابيّة واسعة، علمًا بأنّ خصوصيّتها وأفق الخطاب فيها فضلًا عن سياقها المقاميّ يضع متلقّيها في موضع الاعتبار بوصفه حاكمًا وصاحب سلطة – خليفة كان أم أميرًا أم وزيرًا – فلا تخرج عن بناء معياريّ دأب عليه الكتّاب والمترسّلون وألحّ عليه مقعِّدو هذا النمط من الكتابة الترسّليّة. فالرسالة تلتزم بالبناء المعماريّ الكلاسيكيّ، والكاتب ليس بمقدوره أن يحيد عنه في تدبيجه رسالة الشفاعة التي تنزع إلى الإيجاز إلّا إذا أراد الإطناب في الثناء على المشفوع إليه.‬‫ولمّا كانت الرسائل الديوانيّة تخضع لضوابط وأعراف خاصّة في ترتيب المكتوب عنه والمكتوب له، فإنّ الرسالة التشفّعيّة كذلك تشترك معها في السَّيْر على هذا النهج في مخاطبة المشفوع إليه، وهو أمر يستوجب تقديم صاحب الرتبة السنيّة على صاحب الرتبة الدنيّة، كما فعل الصابي في رسائله التشفّعيّة في أثناء أدائه لخدمة كتابة الإنشاء.‬‫وتنطوي الرسالة قيد الدراسة على فائدة عظيمة من جانبين: (1) سياقها الخاصّ الكامن في التشفّع لأبي مخلد، وهو الدافع إلى كتابتها، مع ما في ذلك من إبرازٍ للعلاقات والأسرار السياسيّة والاجتماعيّة بين الخلفاء والأمراء من جهة، وبين بعض رجالات الدولة وأفراد الأعيان الذين انزلقوا عن الخطوط المرسومة لهم فنزل بهم العقاب بشكل من الأشكال؛ (2) وسياق آخر يظهر في انبناء مثل هذه الكتابات الترسّليّة على فكرة فاعليّة الأمل وجعلها مقوّمًا أساسًا في سبيل تحقيق ما تصبو إليه الأطراف المتفاعلة في العمليّة التواصليّة.‬‫ولضمان فاعليّة الأمل بتحقيق العفو، تلجأ الرسالة إلى التأكيد على أريحيّة المشفوع إليه، وحمله على تحقيق الرجاء، والنظر في مقامه الذي يستدعي مبدأ التأدّب في التخاطب. وقد التزم المرسِل بذلك على طول الرسالة، وربّما لجأ إلى الإطراء والتقريظ حتّى غدا المشفوع إليه أشبه بالممدوح.‬4.1العنوان‫لعلّ العنوان أوّل ما ينبغي التركيز عليه في سياق تحليل هذه الرسالة، ذلك أنّه ورد وفق الصيغة الآتية: ”وعن عزّ الدولة إلى الأمير فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة في الشفاعة لأبي مخلد“ وهو عنوان مركّب ومفصِّل لأطراف التواصل، فهو يحدّد المرسِل والمرسَل إليه وموضوع الرسالة. وقد سقط لقب الأمير عن اسم عزّ الدولة، للتدليل على أنّ المرسَل إليه أعلى مقامًا من المرسِل ما دام الأوّل مرجوًّا ومؤمّلًا، والأمر موقوفًا عليه في تحقيق فعل الشفاعة قولًا وعملًا، ومراعاة لمكانة المكتوب إليه في الرفعة والرتبة. وتظهر أبعاد الطلب منذ عتبة العنوان، وتغدو قيمة المشفوع إليه الرمزيّة بمثابة مؤثّثات لآليّات السلطة والنفوذ التي تتحكّم بشكل مباشر في طلب الشفاعة وتحديد مآلها إثابة وعفوًا أو تنكيلًا وعقابًا.‬4.2الاستهلال‫تُعَدّ المقدّمة مدخلًا للموضوع أيًّا كان، ومناسبة لتأطيره ووضعه في سياقه، وبالنسبة إلى رسائل الشفاعات عمومًا، ورسائل أبي إسحاق الصابي خاصّة، فإنّها لم تخرج عن هذا التقليد، بل كان الصابي أحد المقعّدين له ومجيديه. ومن أوكد المبادئ الواجب توفّرها هو الاستهلال، ويلخّصه القول الآتي: ”كتابي، أطال الله بقاء سيّدي الأمير فخر الدولة وأدام عزّه وتأييده، عن سلامةٍ ضافية السربال، ونعمة سابغة الظلال، ومواهب لله جلّ وعزّ، أحمد عليها حمد المرتبط لها، المستزيد منها، وأسأله أن يشرك بيننا فيها، ويجمعنا في الإمتاع بها.“33‬‫يمهّد الصابي بهذا الاستهلال لغرض الرسالة بموجّهات حجاجيّة، ويتكرّر هذا في جلّ رسائله التشفّعيّة، والغاية من ذلك استمالة المتلقّي منذ المطلع بوساطة الدعاء، فضلًا عن العلائق الدلاليّة التي يُنشئها مكوّن الدعاء حيال باقي أجزاء الرسالة. ولا يخفى ما لهذه التوطئة من مقاصد تهدف إلى إثارة انفعالات المشفوع إليه، والإقرار بالنعمة والشكر عليها، والتَّوْق إلى مشاركة المخاطب الاستمتاع بها، مع ما لذلك من فاعليّة حجاجيّة. ويستحضر المتلقّي منذ صدر الرسالة بصفته المخاطب المباشر، وبه يُستغاث ويُتشفّع، الشيءَ الذي دفع الشافع إلى الحديث عن أفضاله عليه تلميحًا، ويُعَدّ هذا من مقوّمات الرسائل التي تُرفع إلى الملوك والأمراء بوصفهم أولياء نعمة وذوي أيادٍ بيضاء.‬4.3صدر الرسالة‫قُسِّم صدر الرسالة التي بعث بها الصابي باسم عزّ الدولة إلى الأمير فخر الدولة إلى فقرتين اثنتين. يقول الصابي:‬‫وقد كاتبت سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه بما أنا متوقّع جوابه، ومريد منه أيّده الله ألّا يؤخّره، ولا يُخلّيني من تواتر كتبه بالسارّ من أخباره، والمؤنس من أحواله، فإنّ مراعاتي لها دائمة، ومطالعتي إيّاها متّصلة إن شاء الله […] وسيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أرعى للحقوق، وأحفظ للمواتّ […] وأشحّ على المروءة من أن يحتاج المخاطب له إطالة في حضّ على ذلك وحثّ، وتحريك فيه وبعث، ولا سيّما إذا كان ما يتوخّاه منه عائدًا بشكر من شكره منه كبير الموضع، لطيف الموقع. وبحسب ذلك استحكام ثقتي بتوجّه شفاعتي إليه، وتسهيل مطالبي عليه، واستغنائي عن أن أطيل فيها قيلًا، أو أقدّم أمامها تسبيبًا لا أعدمنيه الله ولا سلبنيه، وحرس عليه المناقب التي خوله وعليّ فيه.34‬‫لا يدّخر المرسِل في صدر رسالته جهدًا في الانعطاف نحو التلطّف في الخطاب، وهي سمة من سمات رسالة الشفاعة، فيمهّد للمشفوع إليه بتوقّع الجواب من باب الرجاء الذي لا يحتمل التأخير، جاعلًا كلّ ذلك مرهونًا بتواتر رسائل وليّ نعمته التي تحمل الأخبار السارّة عن الخليفة مؤكّدًا ترقّبها والتشوّف إليها. ويستمرّ الشافع في مخاطبة المشفوع إليه بما يهزّ أريحيّته، ويعمل على استمالته بطرائق شتّى في باقي أجزاء الرسالة، إلى جانب التماس وسائل التأثير وتفعيلها بذكر صفات المخاطب؛ فهو القيّم على الحقوق بمراعاتها، الحافظ للمواتّ، غير محوجٍ خادمه إلى إطالة الكتاب، خصوصًا أنّه عهد منه إحسانًا. كما أثبت الشافع الشكر والثناء من قبل المشفوع له أبي مخلد مع الإشارة إلى مكانته قبل أن يلحقه العقاب، حتّى إذا استيقن ما يؤمّله من المشفوع إليه لمح إلى غرض الخطاب ومقصده محسنًا التخلّص بين مقوّمي الاستهلال والصدر.‬4.4غرض الرسالة‫تقترن هذه المرحلة من معمار الرسالة بالتصريح بالطلب، يقول الكاتب:‬‫وقد عرف سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه تأكيد أسباب أبي مخلد عبد الله بن يحيى […] وتقادُم خدمته ولزوم حرمته، وما له من سابقة الذمام عند الأميرين السعيدين ركن الدولة ومعزّها، وعندنا بعدهما، والخصوص مع ذلك بي، والانتساب إلى خلافتي، والارتسام بالمناب عنّي، وعلم ما لحقه في هذا الوقت من القبض عليه، والاشتمال على ماله وحاله، ومعاملته بما يتوقّف عن الخروج إليه في أعداء الدولة فضلًا عن أوليائها، وفي الأباعد عنها فضلًا عن أقربائها وأصفيائها.35‬‫ينزع أبو إسحاق الصابي في كتابة هذه الرسالة نيابةً عن عزّ الدولة إلى تحديد وضع أبي مخلد وحالته الراهنة، وهو وضع يستدعي الإشفاق عليه بحكم طول خدمته لأمراء دولة بني بويه، وخاصّة الأميرين ركن الدولة ومعزّها، لتستمرّ الخدمة مع خلفهم عزّ الدولة صاحب الشفاعة. يؤكّد الشافع ولاء المشفوع له لحكّام البويهيّين، ويمكن التدليل على ذلك بمقطع آخر يشفع فيه لأبي مخلد عند عضد الدولة ومؤيّدها؛ إذ يقول: ”واقتضاني أن كتبتُ إلى مولانا الملك الجليل عضد الدولة وسيّدي الأمير مؤيّد الدولة […] فيه بالمسألة الشافية، والشفاعة الوكيدة، والرغبة في كشف ما أظلّه عنه، وإخراجه سليمًا مصونًا منه وإسعافي بالبعثة به إليّ ليقيم بحضرتي، ويتوفّر على ملازمة تربة الأمير معزّ الدولة.“36‬‫يُطلعنا الشافع الأمير عزّ الدولة البويهيّ في متن الرسالة على مكاتبات عديدة في شأن أبي مخلد والتشفّع له بالدعوة إلى الإفراج عنه، علمًا أنّ المشفوع له يملك مكانة خاصّة لديه وهو ما جعله لا يدّخر جهدًا ولا رجاء في استعادة هذه المكانة المفقودة، داعيًا الأمير فخر الدولة إلى قضاء حقّه بالعفو عنه، ودفع الضرر الذي لحقه. كما دعاه إلى أن يشمله بعطفه، ويعيده إلى سالف عهده، مع السماح لعزّ الدولة بتيسير المال له وتمكينه منه، وتعويضه تعويضًا مباشرًا، وفي ذلك لفت الانتباه إلى دوره في عمليّة الصفح وإثبات الفعل الحسن.‬4.5الخاتمة‫الخاتمة هي آخر ما يقع عليه بصر المتلقّي وسمعه، ويبقى عالقًا في ذهنه، فإن كانت الرسالة تشفّعيّة فهو أدعى أن تتضمّن الخاتمة إعادةً للسؤال طمعًا بمنّة الخليفة المتجذّرة في شيمه التي ورثها عن أسلافه، وتأكيدًا على براءة المذنب وعدم ارتكابه لأيّة جناية تستدعي اعتقاله ومصادرة حرّيّته، ومن ثمّ عقوبته. ويختم الشافع رسالته بدفع المشفوع إليه إلى اتّخاذ القرار الأنسب وصرفه إلى فعل الخير، وذلك بالإفراج عن المشفوع له ما دام أنّ حسن الظنّ كان باعثًا على تدبيج الرسالة، واستحقاق المشفوع له في قضاء حقّه لا سيّما أنّه كان من حاشية الخليفة. وكلّ هذه المعاني من شأنها أن تعطف القلوب على القيم، وتجعل المشفوع إليه قبلة الآملين وملجأ الراغبين ومطمع المتنافسين.37‬‫ولئن كانت رسالة الشفاعة مبادرة نوعيّة لصناعة الأمل وتكريسه، فإنّ الشافع عند كتابتها يتعلّق بخيط أمل، أمل يُعَدّ ضرورة قصوى في مثل هذا النوع من المخاطبات لتحصيل العفو عن المذنب سواءٌ أكان فردًا أم جماعة.‬5الموقف التواصليّ وسيرورة الأمل‫يقتضي الموقف التواصليّ في الرسالة التشفّعيّة وجود مشاركين، ويلفي أطراف العمليّة التواصليّة ذواتهم مندمجين فيه، وإن كان ثمّة نوع من التفاوت وقوّة الحضور. هذا وينبغي الإشارة إلى أنّ كاتب الرسالة لا ينتج خطاب الشفاعة بعيدًا من الأمل، بدليل أنّه يكون عالمًا بمواضع الرجاء، ومرامي الخطاب التشفّعيّ، فضلًا عن أنّ خطاب الرسالة المنجز يتطلّع إلى تحقيق الغاية بالتخطيط لها وتبوُّئها مكانة خاصّة في عمليّة الإنشاء، والعناية الفائقة بانتقاء ما يليق من الألفاظ والمعاني. والكتابة في مثل هذه المقامات تظلّ في حاجة إلى التروّي، وتدبُّر أمر تجويد الرسالة التي تُصاغ في مقام الشفاعة حتّى تنال الحظوة اللازمة، ويُستجاب للطلب المضمّن فيها.‬‫وفي سياق آخر مرتبط بالأمل في علاقته بالغايات الشخصيّة، يضع ميشيل ميير (Michel Meyer) الأملَ واسطة عقد الغايات الشخصيّة، وذلك في إطار بحثه عن منطق للقيم، لا سيّما القيم الجماعيّة، ذات الصلة بالاستراتيجيّات الحجاجيّة التي يتكوّن منها الإيتوس الذي يشمل الهويّة والذات. ويشمل الإيتوس تلك الغايات الشخصيّة المتضمّنة للخلاص والأمل والرضا الفكريّ، والتي تؤدّي إلى تحقيق الغايات الاجتماعيّة.38 كلّ ذلك أتاح لموضوعة الأمل التي تنبني عليها رسالة الشفاعة أن تمنح النصّ طاقة حجاجيّة قويّة رغم أنّها لا تملك حضورًا ظاهرًا في النصّ مقارنةً مع الآليّات الحجاجيّة الأخرى التي يختزنها النصّ الترسّليّ الديوانيّ. لذلك يستغلّ المرسِل هذه الموضوعة من أجل مقصديّة عامّة تُراعيها مكوّنات العمليّة التواصليّة كلّها بصفتها نقطة مركزيّة في الرسالة ينجذب إليها مختلف الأطراف.‬6أطراف العمليّة التواصليّة والتشغيل الحجاجيّ لثيمة الأمل‫بعد أن تعرّض كثير من الأدباء والعلماء، في هذا القرن وبعده، لأصناف من المحن وألوان من العذاب، وصودرت حرّيّاتهم وأموالهم وأُودِعوا السجون، لجؤوا ”إلى من يتوسّمون فيه الجاه أو المقدرة على الشفاعة لهم، ولا سيّما رجالات من كبار رجالات الطبقة الخاصّة وغيرهم، لإنقاذهم ممّا هم فيه من مصائب ومحن.“39 حتّى عُدَّ حسن اختيار الطرف الأوّل أمرًا ذا بالٍ لإنقاذ هؤلاء الذين يطولهم غضب السلطة وبطشها. فكان ذلك مدعاة للاحتجاج والدفاع عنهم أملًا في تخفيف العقوبة، ولمَ لا؟ تخليصهم وإطلاق سراحهم.‬‫وبناءً على ذلك، يشكّل التشغيل الحجاجيّ لثيمة الأمل عنصرًا مهمًّا في عمليّة التراسل التي تروم كسب رهان الأمل بشكلٍ من الأشكال، ولأجل ذلك ارتأينا أن نتوقّف عند كلّ مكوّن من مكوّنات العمليّة التواصليّة مع الحرص على كشف أثر الأمل في نفوس أطراف التخاطب ومدى تأثّرهم به.‬6.1الشافع وصناعة الأمل‫الشافع هو الباعث بالرسالة – وهو هنا عزّ الدولة البويهيّ – وهو كذلك الباعث على رفع منسوب الأمل لدى المشفوع له، والمؤمَّل لما ستُسفر عنه قرارات الخليفة في شأن المذنب، مدفوعًا بتحقيق الرجاء في كتابة شفاعته، أو كما يُقال: ”ما أتيتُك إلا رجاوة الخير.“ والشافع ملزم بأن يختار التوقيت المناسب لبعث رسالته واستشفاع الخليفة، والعمل على ”الريث والأناة في بلوغ الأمل وإدراك النعمة كانتهاز الفرصة واهتبال الغرّة. والأناة وإن طالت فليست من جنس الريث. وانتهاز الفرصة وإن كان في غاية السرعة فليس من جنس العجلة.“40‬‫وفضلًا عمّا تقدّم، فإنّ ”للمرسِل دورًا أساسيًّا في إنجاح عمليّة الترسّل من خلال وعيه بمقام المخاطب، ومستواه السياسيّ، والفكريّ، والاجتماعيّ. وذلك بإظهار التواضع، وإبداء الاحترام حرصًا على التأثير والإقناع.“41 ولمّا كان الأمل بعيدًا، سعى الشافع إلى استمالة المشفوع إليه بخطاب يتلاءم وطبيعة الطلب؛ إذ ينزع فيه إلى التأثير المباشر عن طريق محاولات تنشد تقريب وجهات النظر بين المتخاطبين. يقول: ”وأنا أسأل سيّدي الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أن يختصّني بمنّة في هذا الأمر أعتادها من أسلافه، اللازم قضاؤها، المشكور بلاؤها، ويتكفّل به تكفّل الناطق عن لساني، الذاهب مع إيثاري، الداعي إلى تشفيعي وإجابتي، المانع مطلي ومدافعتي.“42 هكذا يعمد الشافع إلى بثّ الكثير من الأشجان معدّدًا آيات الامتنان ومصرّحًا بموضوع الشفاعة، متخيّرًا أرقّ الألفاظ، باعثًا على مخاطبة أريحيّة المخاطب بانتهاز الفرص، متوسّلًا بحسن الظنّ لتحقيق الأمل.43 ولذلك رام الشافع أن يسلك مسلكًا خاصًّا في الخطاب، ينطلق بموجبه من ترتيب خطابه، وإيلاء الألفاظ العناية اللازمة من الاختيار والوقع الإيجابيّ، وتسخير الآليّات الحجاجيّة كلّها لضمان نجاعة خطابه وفعاليّته في تحقيق المبتغى المأمول حتّى لا يفوت الأمل، لأنّ ”طول الأمل يشين.“‬6.2المشفوع له ورهان الأمل‫أمل المشفوع له أن يكون موفور الحظّ من شفاعة الخليفة؛ فإليه المفزع وهو الملاذ، ولعلّ هذه المرافعة لم تكن لتتحقّق لولا أنّ الشافع يملك ولو بصيصًا من الأمل فيه. وعليه، فإنّ المشفوع له يجد في رسالة الشفاعة أكثر من معنى؛ فهي تبقيه على أمل في الصفح والإفراج. والظاهر أنّ المشفوع له خصّ بنصيب وافر من رسائل الشفاعات المبعوث بها إلى أولي الأمر في سبيل إخلاء سبيله واستعادته للمكانة التي حظيها قبل أن يقلب له الدهر ظهر المجن.‬6.3المشفوع إليه موضع كلّ أمل‫المشفوع إليه هو ”الطرف الثالث في عمليّة الترسّل، وتأثيره في هذه العمليّة يأتي من كون الرسالة تتشكّل بمراعاته، وتتأقلم أبعادها حسب مقامه.“44 وهو رهان كلّ أمل، يكون الرهان معلّقًا عليه على طول الرسالة، وما الدافع إلى كتابتها سوى كونه أمل الشافع والمشفوع له، ومكمن إحداث الأثر بالنسبة للذات الطالبة للشفاعة، المحكومة بالتواصل. هذا فضلًا عن التواطؤ معه، بما يمكن أن يحقّق نوعًا من التماثل بينه وبين المشفوع إليه في مجال المشترك كالاعتقادات والقيم والأعراف وغيرها من عناصر ذات حمولة ثقافيّة واجتماعيّة،45 حمولة تنشد العزّ والسلطان والمال والتفرّد في الأخلاق واختلافها عن أخلاق العامّة وكلّ ما يميّز ”المجتمع السلطانيّ.“ وهو ما يجعل المرسَل إليه يدرك مختلف الظروف الحافّة بالخطاب، وهذا القصد المتمثّل في أنّ الأمل معقود عليه لا سواه، إلّا أن ذلك يندرج ضمن سياسة خاصّة تعتمد في تصريفها ثنائيّة الترغيب والترهيب.‬‫نخلص من هذا كلّه إلى أنّ المشفوع إليه ”ما أُمّل إلّا عن تأمّل، ولا سُئل إلّا بعد تثبّت، وأنّ الزائر له قد أنفق مزجًا بضاعته، والكاتب على يده قد أراق ماء وجهه، وأنّه متى قصّر في التعريض، ولوى عن المطلوب، فقد خسر أكثر ممّا خسرا، وأثبت أضعاف ما أثبتا، وسبقهما إلى ما يُلجئهما إليه من الخجلة، ويحصّلهما عليه من الخيبة.“46 ويُعتمد على المشفوع إليه في الأخذ بيد المشفوع له، لذلك تدفع كتب الشفاعات المخاطبَ إلى قبول الشفاعة بما تحرص عليه من دعاء وثناء مع حشد النعوت والأوصاف المدحيّة التي يتمّ استرفادها من حقل المديح لأجل توجيهها إلى الرؤساء والوجهاء الذين تُستثار نوازع الخير في نفوسهم.‬‫ولا يذعن المشفوع إليه لخطاب الشافع، وإنّما يجد نفسه مدفوعًا إلى قبول الشفاعة أسوة بالأنبياء والمرسلين. وفي نهاية المطاف يكون أمل المشفوع إليه تخليد هذا السلوك تجاه المذنبين من رعاياه.47 وقد فسّر الجاحظ دور المشفوع إليه في فصل من رسائله بالقول:‬‫وإنّك والله – أيّها الكريم المأمول، والمستعطب المسؤول – لا تزرع المحبّة إلّا وتحصد الشكر، ولا تكثر المودّات إلّا إذا أكثر الناس الأموال، ولا يشبع لك طيب الأحدوثة وجمال الحال في العشيرة إلّا لتجرّع مرار المكروه. ولن تنهض بأعباء المكارم التي توجبها النعمة وتفرضها المرتبة حتّى تستشعر التفكّر في التخلّص إلى إغنائهم، والقيام بحسن ظنّهم، وحتّى ترحمهم من طول الانتظار، وترقّ عليهم من موت الأمل وإحياء القنوط.48‬‫تتشكّل بنية الخطاب في الرسالة التشفّعيّة من ”نسق ثلاثيّ“ تحرّكت داخله علاقات المشفوع له والشافع والمشفوع إليه، بل إنّ تفصيل الوظائف لَدليل على أنّ كلّ طرف مأخوذ بالأمل من ناحية؛ إذ يسعى الطرف الأوّل إلى التلطّف في الخطاب وتليينه لأجل إنجاز الوعد من دون أن يتسلّل إليه اليأس والحيرة، أمّا الطرف الأخير فإليه يُبسط الأمل، وعليه يعوَّل في الطلب، فهو المؤمّل والمأمول. يقول البحتريّ (ت 284هـ): (من الكامل)‬‫ولعلّ ما قدّمه الشافع من حجج ومعاذير أغلبها منتقًى من تجربة ملموسة ومعيشة، ومستقًى من واقع أطراف العمليّة التخاطبيّة، حيث جعل الشافع تدخُّل الخليفة مطمح نظره، ومنتهى آماله، وبذلك استعمل في النصّ حججًا تضمن قوّته الإقناعيّة وطاقته التأثيريّة.‬7بلاغة الدعاء واستشراف الأمل‫يُعَدّ الدعاء من المكوّنات البنائيّة في رسائل الشفاعات؛ إذ ترد صيغه في جميع مفاصلها حتّى تهيمن، وكأنّ الشافع في تواصله مع المشفوع إليه يلتمس كلّ السبل من أجل نيل المراد، ولكن يبقى الدعاء السبيل الأكثر حضورًا لتواصلٍ ناجع مع المتلقّي كونه كلامًا ساميًا مختلفًا عن باقي الخطابات. ولعلّ ما تحمله الرسالة التشفّعيّة من معاني التوقير والتبجيل آتٍ من جملة القوالب التعبيريّة التي يصطبغ بها القول الترسّليّ؛ فإنّ الكاتب يروم استمالة المتلقّي عن طريق ما يُسبغ عليه من صفات الألقاب السلطانيّة والدعاء له حتّى يتأثّر بمضامين الرسالة، وينهض بمهمّة تذليل السبيل. ويستلزم ذلك إيلاء العناية اللازمة باختيار الأنسب من الأدعية لتحقيق المراد المطلوب. يوحي هذا بأنّ الدعاء يشكّل عصب الخطاب الترسّليّ في الشفاعة ونواته. ومن الدعاء العامّ المناسب للمقام: ”يا شفيع المذنبين.“ ولا يخفى ما للدعاء من صلة بالأمل، وقد ورد في العقد الفريد قول بعض الأعراب: ”اللّهمّ إني أسألك نجاح الأمل عند انقطاع الأجل،“49 فرغم ما في مضمون هذا الدعاء من علاقة بالموت، فإنّ السعي إلى تحقُّق الأمل يبقى قائمًا، وتحصيل منفعته جارية ومبتغاة.‬‫تجدر الإشارة، ههنا إلى أنّ الدعاء في رسالة الصابي يرد في صيغ جمل اعتراضيّة تتخلّل الخطاب، ويظهر أثر الجملة الاعتراضيّة الدعائيّة في الرسالة عامّة عبر إحداث تجاوب فعليّ، وذلك من خلال استثارة مشاعره وعواطفه، وجعله مهتمًّا بمقاصد الخطاب، رغبة في نقله من حالة التفاعل العاطفيّ إلى حالة التفاعل العمليّ.50‬‫إنّ الدعاء في الرسالة لا يقتصر على المقدّمة أو الخاتمة فحسب؛ ففي صدر الرسالة، على سبيل المثال، يشكّل الدعاء الركن الثاني مشتقًّا من المعنى الأساس كما يتّضح في بناء الرسالة عند ابن الأثير (ت 637هـ)، وفيها يدعو الشافعُ للمشفوع إليه بالبقاء ودوام العزّ والتأييد، جاعلًا شكر النعم مقوّمًا ثانويًّا لا ينفصل عن مقوّم الدعاء الأساس؛ فهو يعزّزه مثلما يعزّز الإقناع برمّته ويرفده. أمّا إيراد الدعاء في الخاتمة فهو بمثابة إيذان بانتهاء الرسالة ليبقى عالقًا في ذهن المخاطب، وحافزًا له على تغيير موقفه تجاه المذنب. لذلك ينبغي إمعان النظر في صيغ الدعاء وكأنّها لازمة يتمّ استدعاؤها كلّما أراد المرسِل التعبير عن عاطفة خاصّة تجاه المرسَل إليه، يخبره به أنّه عالي المقام، ويرجو له البقاء وطول العمر. يقول أبو إسحاق الصابي عن عزّ الدولة: ”فإن رأى سيّدنا الأمير فخر الدولة أدام الله عزّه أن يأتي في ذلك ما هو أهله، وحقيق به، واثقًا بأنّه من أكبر حوائجي إليه، وأجلّها عليه فعل إن شاء الله.“51 تثير هذه الصيغة وما شاكلها من الصيغ الدعائيّة في نفس المشفوع إليه إحساسًا بالسلطة والأبّهة والعزّ والتمكين مع ما يقتضيه ذلك من ”استحضار للهيبة السلطانيّة.“‬‫يضطلع الدعاء على هذا النحو ”من حيث هو تركيب لغويّ يخضع وهو يؤدّي وظيفته التبليغيّة لقواعد اللّغة وقوانينها، ومن حيث هو تشكيل فنّيّ يلتزم بقواعد الصنعة الفنّيّة ومتطلّباتها“52 بوظيفة خاصّة مفادها خدمة غرض الرسالة وأهدافها العامّة والخاصّة. وما المبالغة في استدعاء الألقاب والصفات السلطانيّة إلّا لإشعار المشفوع إليه برفعته ومرتبته. على أنّ الدعاء، ههنا، يعبّر باللغة عمّا لا يُستطاع التصريح به، وهو أمر مرغوب من لدن المشفوع إليه لأنّه يتوجّه إليه بالخطاب دون غيره، ويثير في نفسه الرضى والقبول، وينقله من حالة الرفض وإنزال العقاب بالمذنب والمخالف إلى حالة العفو، خصوصًا أنّ طلب الصفح مقرون بالاعتراف، ومشفوع بالدعاء. ويبقى، أي الدعاء، أملًا بوصفه طلبًا يتوجّه به الشافع إلى الله ليخصّ به المشفوع إليه. وإذا كانت الاستجابة محقّقةً في الدعاء مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾،53 فإّن الأمر نفسه يكاد ينطبق على طبيعة الاستجابة في المسألة الثانية على سبيل القياس، والشيء بالشيء يُذكر.‬‫ومن هنا، فإنّ درجات الأمل محكومة بصيغ العمل وسياقات الكلام، والدعاء أحد هذه الصيغ لأنّ الغاية من توظيفه هي جعل طلب الشفاعة محقّقًا، فيعتمد الخطاب على صيغ دعائيّة وأساليب مخصوصة لا تحتلّ مساحات واسعة في سياق التلفّظ، وإنّما يظلّ حضورها نوعيًّا ناجعًا.‬‫بناءً على ما تقدّم، فإنّ هذه هي أهمّ المفاصل التي تقوم عليها البنية الخارجيّة للرسالة التشفّعيّة، وإنّ خطابها هو خطاب حجاجيّ تداوليّ، ونجاعة وظيفته لا تكمن فيما يقدّمه هذا الخطاب من مضامين، وإنّما ما يحقّقه من أهداف ومرامٍ. ولذلك أمكن الحديث عن نجاح الخطاب بالعودة إلى المسالك الخطابيّة التي سلكها الشافع من أجل استمالة المشفوع إليه حتّى يأمر بالإفراج عن المشفوع له.‬8محاذير خطاب الأمل في الرسالة التشفّعيّة‫الظاهر أنّ هذا الضرب من الرسائل قد فجّر ينابيع كثيرة من الأمل في مراحل كان ديوان الرسائل فيها دليلًا على اتّساع رقعة الدولة الإسلاميّة، وحاجاتها إلى التواصل مع الأطراف وإخماد الفتن متى اقتضت الظروف ذلك. وكانت رسائل الشفاعات إحدى أهمّ الوسائل التي تحقّقت بها تلك الغايات مبنيّة على جملة من التطلّعات والطموحات. وفضلًا عن المزايا الخاصّة لهذا الجانب الإنسانيّ، يبقى الأمل هاجسًا مشتركًا بين مكوّنات الخطاب في الرسالة التشفّعيّة؛ فبالنسبة إلى الشافع هو مدعوٌّ إلى تحيّز الفرصة وتهيئة المناسبة لمراسلة المشفوع إليه آخذًا بمبدأ التأدّب، أمّا المشفوع إليه فعليه أن يأخذ بمبدأ الرأفة وهو دليل واضح على انخراطه في قضايا أمّته وهموم رعيّته وإن كانوا مذنبين. ومن هنا، فإنّ الرسالة التشفّعيّة تتجاوز وظيفتُها الاستنجازَ والطلب إلى أن تتلبّس لبوسًا ذا أبعاد سياسيّة واجتماعيّة، ويكون من أوكد أهدافها إصلاح أحوال الرعيّة وتقويم اعوجاج سلوكها، والترويج لقيم مخصوصة في المجتمع البويهيّ.‬‫ويبقى الأمل وسيلة لمقاومة اليأس ومدافعته، وهو آليّة تنقاد لها النفوس، وتهفو إليها بدرجات متفاوتة. وقد يجد بعض الناس الآليّات الأنسب لتجديد الأمل في إحداث التأثير المطلوب، وهو ما يراهن عليه التحليل البلاغيّ الحجاجيّ، خصوصًا أنّ المخاطب يكون مدعوًّا إلى اتّخاذ موقف إيجابيّ تجاه المعنيّ بالخطاب التشفّعيّ.‬‫وما دام الأمل ثيمةً ذات أبعاد إيجابيّة تحضر في خطاب الرسالة التشفّعيّة بدلالاتها وإمكاناتها المحمودة، فإنّ له أيضًا أبعادًا سلبيّة تقترن به، وتجعله في عداد ما يُطلب تركه. وقد ورد في العقد الفريد أنّ عليّ بن أبي طالب (حكم 35–40هـ) خطب في الناس يوصيهم بتقوى الله ولزوم العمل وترك الأمل؛54 فإنّه من فرّط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله.55 ولئن كان المشفوع إليه يتبنّى في ذلك سلوكًا إيجابيًّا يحمله على العفو على المذنب، فإنّ ذلك يُعزى إلى إيمانه، وانحيازه في التدافع بين الخير والشرّ إلى تغليب كفّة الخير، والبحث عن البدائل في تخليق سلوك الرعيّة. لهذا تُعَدّ الشفاعة عنصرًا أساسًا في إصلاح الأخلاق التي تتضمّنها الديمقراطيّة،56 وتقليص دائرة المتمرّدين بالعفو عن بعضهم، والسماح لهم بالعودة إلى حياض الدولة، وفي ذلك رسالة مضمرة إلى باقي المتمرّدين بإصلاح الاختلال الكامن في دواليب الدولة، والانفتاح على المعارضين ما دام الأمل يحذوهم في تحقيق المبتغى. ولعلّ الشفاعة في هذا المقام تغدو شكلًا من أشكال تقديم فروض الطاعة والولاء، ولذلك يبقى السلطان، بوصفه المشفوع إليه وواسطة العقد وقطب الرحى في ردّ المظالم وتحقيق العدالة والإفراج عن المذنبين، وجهًا من وجوه الإنصاف ورعاية الرعيّة والتخلّي عن كلّ أشكال الهيمنة والجبروت، مع ما في ذلك من معاني الامتثال للسلطة القائمة والالتفاف حول الخليفة. وهو ما يُظهر أيضًا أنّ رغبة السلطان لا تتمثّل في الممارسة الفعليّة للسلطة فقط، وهذا أمر مفروغ منه، بل في إظهار هذه السلطة للعيان وتجسيدها، فإن كان السلطان يحكم رعيّته مثل أب وصيّ، ويحاول الظهور أمامهم بصورة ”ربّ الأسرة“ الحريص على شؤونها، فإنّه يتحوّل في ”بلاطه“ إلى حاكم بأمره.57‬9على سبيل الختم‫هذه بعض ملامح تجلّيات الأمل وصوره في رسالة تشفّعيّة من رسائل الصّابي. وكان بالإمكان توسيع دائرة العناية بنماذج ترسّليّة أخرى في أفق البحث عن مواطن الأمل، والصور التي رسمها الكتّاب ببلاغتهم حتّى بلغت كتاباتهم عنان السماء، ولكنّنا، مراعاةً لحدود هذا المقال، اكتفينا بما أسلفنا الإشارة إليه متمسّكين بمنهج واضح مرسوم منذ البداية، رغبةً منّا في تعقّب أصداء الأمل وطرائق تجدّده في الخطاب الترسّليّ في البداية والعرض والختم، وكأنّ ذاك الأمل هو ما يحمله الكاتب على عاتقه من أجل الوصول بالمكتوب إلى برّ الأمان. ولقد حاولنا كذلك الكشف عن تردّدات اللفظ ومعناه في المعاجم العربيّة، وانعكاس ذلك على مدلوله الاصطلاحيّ. ولا يخفى ما لهذه العودة من تأصيل للّفظة في اللغة كما في الاصطلاح، لتكون أحد الضوابط العلميّة للمضيّ قدمًا بهذا المفهوم واختباره وتجريبه في مختلف أنساق المعرفة للوقوف على إمكاناته. وقد أُتيح لنا أن نقارب المفهوم من منظور الكتابة الترسّليّة بالكشف عن إمكانات ثيمة الأمل وسيرورتها في الخطاب وفي مختلف المواقف التواصليّة بين المتخاطبين عن طريق النموذج الذي سعينا إلى تحليله.‬‫وعليه، يفرض علينا مقام الختم أن نذكّر بأنّ النظر في فاعليّة الأمل في الخطاب الترسّليّ والبحث في كيفيّة تصريفها أمر مقرون بمقاصد الوقع والتأثير في المخاطب بصفته ضابطًا من ضوابط الخطاب، وتحديد مدى نجاعته وتقييم منسوبه.‬

Journal

Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyyaBrill

Published: Mar 13, 2023

There are no references for this article.