Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
المقدّمةتنظر الدراسة تحديدًا في طرق تشكُّل أَمَلَيْنِ: (1) أملِ استقرار ابن الأحمر (ت807/1404–1405)1 في المغرب وتبوُّئه مركزًا في بلاط بني مَرين؛ (2) وأملِ عودته إلى وطنه الأندلس،2 وذلك عن طريق مقاربة بلاغيّة3 ترصد المسار الذي ينطلق منه الأملان بصفتهما رؤيةً واختيارًا قصديًّا لتشكيل نسيجِ شرح واضح المقاصد. تشير الدراسة إلى حضور ثيمة الأمل انطلاقًا من العنوان، فالعتبات، ثمّ متن الشرح، وتغوص في معالجة الألفاظ والعبارات وتستحضر كنهها بعد ربطها بالمقام والسياق.1المقام والسياق التواصليّ للشرحيستلزم فهم شرح ابن الأحمر واستخراج معانيه وضعَه ضمن السياق والمقام اللذين أُلِّف فيهما، وهو الأمر الذي يستدعي التعريف بقصيدة البردة وذكر خصائصها، ثمّ التطرّق إلى ظروفِ حياة شارحها، وربط الشرح بالقصيدة وناظمها؛ إذ يشتمل الشرح على صوتين: صوت الناظم البوصيريّ (ت بين 694–696/1294–1297)4 صاحب القصيدة، وصوت الشارح ابن الأحمر الذي يحاول في شرحه مخاطبةَ آخر – وهو سلطان المغرب – واستدعاءَه أحيانًا في العتبات أو بين ثنايا المتن.1.1قصيدة البردة وخاصّيّتها الاستشفائيّةالقصيدة المعنيّة بالشرح هي في المديح النبويّ، نظمَها البوصيريّ على البحر البسيط بقافية ميميّة إثر تأديته فريضة الحجّ، وزيارة قبر الرسول (ص) تقرُّبًا إلى الله عزّ وجلّ وأملًا في الشفاء من مرض ألمَّ به. عنون البوصيريّ قصيدته بـ”أمّ القرى في مدح خير الورى،“ وقيل بـ”الكواكب الدرّيّة في مدح خير البريّة،“5 وذكر صاحب كشف الظنون أنّ عنوان القصيدة ”الكواكب البدريّة في مناقب أشرف البريّة،“ سمّاها بذلك الشيخ جلال بن قوام بن الحكم (القرن الثامن للهجرة).6 وسُمّيت القصيدة أيضًا بـ”البرأة“ لوظيفتها العلاجيّة، فقد حكى غير واحد – ومنهم الشارح في مقدّمته – أنّ البوصيريّ شُفي بسبب هذه القصيدة من مرضٍ أصابه وأبطل نصفه، ومنذ ذلك الحين، حملت القصيدة لقب ”البرأة“ تسميةً للسبب باسم المسبِّب.7 ويبقى اسم ”البردة“ أشهر أسمائها المجازيّة، وبه اشتُهرت، لأنّ البوصيريّ لمّا نظمها بقصد البرء من داء الفالج رأى النبيّ (ص) في منامه فمسح بيده الكريمة عليه ولفّه في بردته فبرأ لوقته.8 اختلف الدارسون في تحديد عدد أبيات القصيدة، وجعله معظم الباحثين مائةً وستّين (160) بيتًا،9 وهو العدد الذي وقفنا عليه في الدواوين المطبوعة.يرجع الاهتمام الذي حظيت به هذه القصيدة المدحيّة إلى ما تحمله من دلالات مجازيّة تخدم الوظائف الفكريّة والنفسيّة والجماليّة، غير أنّ قصّة شفاء البوصيريّ من مرضه بعد أن نظمها، وشيوع منامه بين الناس، يبقيان السبب الرئيس في شهرتها والعناية بها.1.2شرح البردة لابن الأحمر وأمل الخروج من المحنةطُرد أبو الوليد إسماعيل المعروف بابن الأحمر10 وأسرته من الأندلس على أيدي بني أعمامه بسبب صراعات سياسيّة، واستقرّ وأسرته بمدينة فاس، عاصمة بني مرين بالمغرب.11 وقد ساعدته الظروف السياسيّة والثقافيّة على الاستقرار في تلك العاصمة والاستفادة من الازدهار الثقافيّ فيها، لأنّ مذهب الدولة المغربيّة وفلسفتها الفكريّة يقومان على أساس إتاحة الفرص أمام أهل العلم،12 وابن الأحمر كان واحدًا من العلماء. فضلًا عن ذلك، فإنّ نَسَبَ الشارح ومكانته، وهو أمير من أمراء دولة بني الأحمر بالأندلس وأحد أحفاد سلاطينها، سهّلا مكوثه في فاس لأنّ دولة بني مرين بالمغرب كانت حليفةً من حلفاء دولة بني الأحمر بالأندلس، تمدّ لها يد العون وتساعدها باستمرار على الوقوف في وجه الغزو الصليبيّ.13في هذا المقام، جاء تأليف شرح البردة لابن الأحمر شكلًا من أشكال التعبير عن أزمة طرد الشارح من وطنه، وأمل العودة إليه. غير أنّ هذا التعبير يرد في سياق مضمر يرتبط ارتباطًا مباشرًا بسياسة المؤلّف الذي عاش عمرًا مديدًا في ظلال دولة بني مرين في فاس، وعاصرَ أحداثها الكبرى مؤرِّخًا وكاتبًا وشاعرًا ومؤلّفًا، لكنّه ظلّ مرتبطًا بقومه بني الأحمر ووطنه الأندلس فكرًا ووجدانًا.14 وإنّ وجهًا من وجوه هذا التعبير الذي تستند إليه العلاقات الدلاليّة للشرح هو الأمل الذي يعبّر عنه المؤلّف بأنساق متنوّعة.2بلاغة عتبات الشرح وأمل الاستقرارجعل ابن الأحمر من العتبات أحد مكوّنات خطاب الشرح التي تتيح له التواصل مع المتلقّي وتوجيهه إلى قصده. ورغم اندراج النصّ ضمن الشروح الأدبيّة، فإنّ الشارح ألمح في العنوان إلى أزمةٍ خرج منها بسلام، ثمّ حدَّد للقارئ في خطبة الكتاب ظروف التأليف، والهدف منه، وسبب اختياره قصيدة البردة. لجأ الكاتب في مستهلّ الشرح إلى تقديم الذات،15 واستحضر شخصيّة وزير بني مرين، وكشف لنا عن مقصديّته من التأليف في سياق حواريّ تواصليّ، يتوخّى فيه المتكلّم الخروج من وضعيّة الشدّة إلى وضعيّة الفرج، وهو ما يقتضي الإقناع، والقدرةُ على الإقناع تقتضي معرفة ما يمكن أن يحرّك الذات المخاطَبة.16 وما العنوان إلّا نتيجةً لهذا الإقناع وتجسيدًا للأمل.2.1العنوان تجسيدًا للأملينفتح العنوان على الجنس الأدبيّ ”الشعر،“ وبمنهج علميّ ”الشرح،“ ويتأسّس على بلاغة التضادّ (الفرج/الشدّة)؛ إذ يتشاكل هذان المكوِّنان دلاليًّا مع الجنس والمنهج بفعل تأويل المعنى وافتراضه نظرًا لعلاقة التنافر والتباعد البارزة بينهما، الأمر الذي يُنتج صورةً بلاغيّة تقوم على الطباق أساسها الأمل. فالذي يميّز شرح ابن الأحمر عن سائر الشروح الأخرى هو قصده من التأليف، والسياق الذي يحيل إلى أزمة، وهذان ما عبّر عنهما عنوان الشرح تعبيرًا مباشرًا: استنزال الفرج بعد الشدّة في شرح قصيدة البردة.17لقد أُسِّسَ العنوان على مضامين الشرح، ويمكن عدّه تكثيفًا شديدًا له لتوجيه المتلقّي إلى دلالته، وإدراك غايته، ودعوته إلى فهمه، في سياق حواريّ يتوخّى فيه المتكلّم الخروج من وضعيّة الشدّة (الطرد من الأندلس) إلى وضعيّة الفرج (الاستقرار في دولة بني مرين بالمغرب). ويتماشى الشرح مع العنوان؛ إذ تتحرّك لغته في شتّى تلويناتها وتوظيفاتها لتستفزّ القارئ وتحثّه على تشغيل آليّات التحليل والتأويل لفهم مقاصد النصّ البلاغيّة. ولعلّ هدف الشارح من توظيف ثيمة الأمل هو تحرير الذات، يوحي بذلك اختياره الواعي والقصديّ للعنوان في الاشتغال على قصيدة البردة، وسيؤكّد التصدير هذه الاستراتيجيّة البلاغيّة.2.2التصدير وبلاغة الأملظهرت فكرة الأمل بناءً على حالة جوهريّة مرتبطة بتعطُّل الحزن وبطلان تأثيره، وهي الحالة التي شعر بها البوصيريّ بعد أن كان مهزومًا بالمرض ثمّ عاوده الأمل من جديد بعد الشفاء،18 يقول الشارح:رُوي أنّ الإمام البوصيريّ ناظمها قال: إنّ سبب إنشائي لهذه القصيدة، أنّه أصابني خِلْط فالِج أبطلَ نصفي، ولم أنتفع بنفسي، ففكّرت أن أعمل قصيدةً في مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأستشفع بها إلى الله تعالى، فأنشأتُ وأنشدتُ هذه القصيدة، فَنِمْت بحمد الله، فرأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فمسح بيده المباركة عليّ، فعُوفيت من وقتي، وخرجتُ أمشي من أوّل النهار.19يأمل ابن الأحمر الخروج من محنته باستدعاء حالة البوصيريّ، غير أنّ شرح نصّ البردة لا يصرّح بطبيعة هذه الشدّة، وكيف أتى الفرج؛ فباستثناء العنوان، لا نجد خطابًا مباشرًا يأتي على ذكر محنة البوصيريّ. يقيم الشرح تماثلًا بين حالة البوصيريّ الذي شفي من مرضه ببركة قصيدته، وحالة أخرى تخصّ الشارح، وتستدعي حالة التماثل عرض هويّة المؤلّف الاجتماعيّة، وإبراز قدراته العلميّة.2.3المقدّمة وهويّة الشارح وأمل الاستقرارتكشف مقدّمة الشرح هويّة الشارح التي أكسبته الحظوة والمكانة الاجتماعيّة، وخدمت مقصديّته البلاغيّة. يرد في مطلع الشرح:20 ”قال الرئيس أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبي الحجّاج يوسف بن السلطان القائم بإذن الله أبي عبد الله محمّد بن الأمير أبي سعيد فرج بن الأمير أبي الوليد إسماعيل بن الأمير أبي الحجّاج يوسف الشهير بالأحمر بن السلطان المنتصر بالله أبي بكر ابن محمّد بن نصر الخزرجيّ الأندلسيّ، رحمه الله.“21تؤكّد عمليّة التأليف هذه المكانة وتمنح الشارح صورةَ العالِم الذي يلقى التقدير والاحترام من قبل أفراد المجتمع، فيبادر إلى تأليف كتابه شرح البردة، يقول في مقدّمة الشرح: ”فإنّي لمّا تصفّحت القصيدة العظيمة الموسومة بالبردة، في مدح خير عُدّة،22 أخذت في شرح لغاتها ومعانيها، وسبك إشاراتها ومبانيها، وسمّيتُ كتابي هذا بـ”الوردة واستنزال الفرج بعد الشدّة في شرح قصيدة البردة.“23تكشف عمليّة التأليف عن كفاءة الشخص العلميّة، وقد كان أهل العلم يحظون بتقدير سلاطين الدولة المغربيّة، ويزيد تأليف شرح البردة صاحبه مكانةً بسبب العناية الكبيرة التي كانت تحظى بها هذه القصيدة من قبل سلاطين بني مرين في المجالس؛ إذ كانوا يرغّبون في قراءتها في المواسم والحفلات، ويُجيزون المشتغلين بها، ويشجّعون على الاحتفاء بها.24 ولعلّ ابن الأحمر قد بادر إلى تأليف الشرح أملًا في التقرّب من البلاط المرينيّ.من هنا كان النسب وسيلة، والتأليف أداة، للإقامة بقصر السلطان، فهما بمثابة شاهدينِ يُثبتان أحقّيّة الشارح في الإقامة في كنف بلاط المرينيّين بصفته أميرًا وعالمًا منخرطًا في مجالس العلم للإفتاء والتدريس. يتّضح هذا الأمر في طالعة شرحه عن طريق تقنيّتي الإهداء والوصف البلاغيّ لوزير البلاط المرينيّ.2.4الإهداء والوصف البلاغيّجعل ابن الأحمر شخصيّةَ وزير بني مرين أحد مكوّنات خطاب الشرح التي تتيح له التواصل بقصد توجيهه أو التأثير فيه لكسب ثقته. فاستهلّ بوصف صورة الوزير الأخلاقيّة والدعاء له، يقول:الوزير أبو يحيى أبو بكر بن الوزير الذي حاز عُرَر الفخر وحُجولَه، وفاق في المجد شبابه وكهوله، المرجوّ للعظائم، المحبوُّ بالمكارم، الموصل للمهمّات، المعوَّلُ على كرمه في الملمّات، أسد الميادين، ومن جرت طيورُ سعده بالميامين، الهُمام الباسل، الضرغام الحافل، الصنديد المجالد، القائم بأمر كلِّ مجاهِد، الأمضى الأكبر، الأشرف الأخطر، الأحفل الأمين أبي مجاهد غازي ابن الكاسر الورتاجنّيّ، أدام الله أيّامه، ونصر جيوشه وأعلامه، وجعل النصرَ خلفه وأمامه، وحفظ وجوده، وشكر أنعامَه، وأبقاه لإيالة المسلمين عضدًا قويّة، كما جعله لحماية الدين والدنيا ذمّةً مليّة، بمنّه وفضله.25وفي سياق خبر التأليف، يهدي الشارح كتابه إلى الوزير واصفًا إيّاه:26رأيت أن أجمع كتابًا أطرِّزه باسمه، وأجعل ذكره الطاهر روحًا لجسمِه، أخدُم به حضرته العليّة، وخلالَهَا الباهرة المرينيّة. فشرعت في شرح هذه القصيدة العذبة المفيدة؛ إذ هي قصيدةٌ نورُها مشرق، وفضلها أصفقَ عليه أهل المغرب والمشرق، فتمّ شرحي والحمد لله على ما يرضي النفوس، ويبتهج بسماعه والنظر فيه الرئيسُ والمرؤوس، فهاك سيّد الوزراء أعظم الوسائل، وأفضل ما قُدّم بين يدي السائل.27يغدو وصف الوزير عنصرًا خطابيًّا داخل الشرح، وصوتًا معبّرًا عن موقف الشارح، إذا ما وُضع في سياق غرضه المتمثّل بالاستقرار في بلاط المرينيّين أملًا في الحفاظ على المكانة الاجتماعيّة التي كان يحظى بها في الأندلس، ما دام أنّ الوزير المخاطَب لا يخيب مَن أمله، ولا يطرد مَن لاذ بحماه. يقول الشارح: ”ولمّا طار ذكر ثنائه في الآفاق، وتسايرت بالحديث على كرمه ومحاسن أخلاقه الرفاق، وانتشر فخر مَجْده، وعُرفَ نافع جُوده ورفده، وأنَّه لا يخيبُ منْ أمله، ولا يطرد عن حمى مجْده من أمَّ له.“28وإذا كان ابن الأحمر يعرض الصفات والنعوت الأخلاقيّة لوزير بني مرين من كرم، وجود، وشجاعة، وإيواء الضيوف، وحسن الخلق، وغيرها من الصفات السالفة الذكر، فمن المحتمل أنّه يُلمح إلى الصفات المذمومة لأخلاق بني أعمامه في سياق حجاجيّ مضمر. ومن هنا، فإنّ الغاية البلاغيّة لهذا الشرح تتمثّل في التعبير عن معاناة لكسب عاطفة29 شخصيّة الوزير.3الأمل في العودة إلى الوطن بإثارة العواطفإذا كانت بلاغة عتبات الشرح تخدم أمل استقرار الشارح في المغرب، وقد تحقّق له ذلك، فإنّ طموح المؤلّف سيتحوّل من أمل الاستقرار في المغرب إلى أمل العودة إلى الوطن. ويعبّر الشرح عن هذه الحالة النفسيّة، وتتحرّك لغته لإثارة عواطف المتلقّي المصحوبة بألمٍ ولذّةٍ في آن (مثل الحزن والفرح والحبّ والكراهية)،30 وهو ما يُعرف في البلاغة باستراتيجيّة الأهواء،31 لأنّ البشر في قراراتهم يخضعون للأهواء ويستسلمون لتيّارها الجارف.32 ولم يخرج ابن الأحمر عن هذه الاستراتيجيّة البلاغيّة،33 وذلك عن طريق إثارة عاطفتي الحزن والحبّ،34 متأسِّفًا على الزمن الذي حوّله من أمير إلى شخصٍ يطلب الرحمة والشفقة،35 وهي تقنيّة بلاغيّة وظّفها في سياق أزمته، لإثارة أهواء حكّام بني مرين أملًا في تمكينه من العودة إلى وطنه بحكم علاقاتهم.3.1عاطفة الحزنيستهلّ الشارح بإثارة عاطفة الحزن عن طريق البكاء الذي جسّد الإحساس المؤلم بالفقد والإبعاد من الوطن، ذلك أنّ مشاعر الألم تدفّقت بتذكّر مشاهد الاقتلاع من الأندلس، وحرّكت صورةُ الرحيل انفعالات الشارح منذ مطلع البيت الأوّل. يقول ابن الأحمر في شرحه لهذا البيت: (من البسيط)36”أَمِنْ تَذَكُّرِ، كأنّه يخاطبُ شخصًا، وهو في الحقيقة نفسَه. فيقول له: أخلطتَ دمعًا بِدَمٍ من أجل تذكُّر جيرانٍ كانوا مقيمين بذي سَلَمٍ.“37 لقد عبّرت صورة البكاء برمزيّته ”الدمع“ عن حالة مشتركة بين الشاعر والشارح،38 وهي حالة الفراق المفيض لدموع لوعة الشوق والحنين.استقى هذا الإحساس بعدَه الأنطولوجيّ/الوجوديّ من ارتباطه بكينونة الإنسان،39 حين امتدّت هذه الصورة عبر مساحة الشرح باستجلاب نماذج شعريّة تشكّل أيقونة التعلّق/الارتباط ولوعة الفراق، الأمر الذي أفاض الدمع وجسّد عمق الإحساس المأساويّ. يقول الشارح:قال الحسن بن رجب يشبّه اختلاط الدمع بالدم: (من الطويل)40وقالَ أبُو نُوَاسٍ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئ41 في ذلك: (من الطويل)42ولبعضِ المشارقة فِي ذلِكَ: (من الطويل)43وهكذا أخذ البكاء مساحةً كبيرة من الشرح، الأمر الذي يحتمل عمق المأساة الإنسانيّة للشارح وهو يُقتلع من جذوره كرهًا. وتكمن بلاغة هذه العاطفة في إثارة مجموعة من الأسئلة التي تحمل الأهواء، وتعمل على وصل أنماطٍ من الاستجابات العاطفيّة بسيناريوهات مثيرة محدّدة44 (من قبيل: ماذا حدث؟ ما طبيعة الحدث؟ من الشخص الذي وقع له الحدث؟ أين وقع الحدث؟ متى وقع الحدث؟)، وهي كلّها أسئلةٌ أجوبتها مثيرة لأهواء المتلقّي، تمثّل في النهاية ملفوظات الأهواء أو المبادئ التي تحكم إنتاج ما يسمّى بالباطوس (Pathos)،45 أو الحجج العاطفيّة.46 فالحدث مؤلم اكتسب صبغة حزينة، لأنّه وقع لأمير أندلسيّ من أسرة حاكمة، زمانَ تربُّص النصارى بالمسلمين وهجماتهم الصليبيّة المتكرّرة، وطبيعته الطرد من الوطن الأمّ لأسباب سياسيّة تتمثّل في الصراع على الحكم، والذين تسبّبوا في هذا الطرد هم بنو الأعمام.أثار الشارح عاطفة الحزن متّكئًا على قيمتي47 العروبة والدين، وهما سببان كافيان لتحريك أهواء السلطان المرينيّ، لأنّ المحنة التي نتجت من الأسباب المذكورة تدعو إلى الشفقة على حالة إنسانيّة غير عاديّة، وتفتح الأمل في قَبول السلطان إقامة ابن الأحمر رفقة أسرته في العاصمة فاس. وبمعنًى آخر، فإنّ العاطفة المستشعرة قد تحرّك بدورها مشاعر سلطة بني مرين، الأمر الذي يسهّل المرور48 من السبب (المحنة/الشدّة) إلى النتيجة (الاستقرار/الفرج).تؤكّد هذه النتيجة أنّ ابن الأحمر لم يستسلم لعاطفة البكاء، وإنّما جعلها استراتيجيّة بلاغيّة، للإقامة في بلاط الدولة المرينيّة المغربيّة، والعيش على أمل العودة إلى الدولة الأندلسيّة، ولن يتحقّق هذا الأمل إلّا بالتحرّر من قيود الحزن واليأس ومن الأفكار السلبيّة، والانفتاح على حالات أخرى شعوريّة، لتعميق التفكير في الأمور المستقبليّة. ومن هذه الحالات عاطفة الحبّ.3.2عاطفة الحبّيتبع الشارح شرحه في رصد كلّ جزئيّة من جزئيّاته السيكولوجيّة التي تبثّ الأمل في النفس، ويعبّر عن ذلك بإثارة عاطفة الحبّ عن طريق اطّلاعه على التجربة النفسيّة لشعراء الغزل، وجعلِها حاضرةً في شرحه بعبارات فيها حمولات نفسيّة دلالةً على الشوق والحنين، وتضمينًا لأمل العودة إلى الوطن.49 يقول ابن الأحمر في شرحه للأبيات: (من البسيط)العُذّال: جمعُ عاذِل، وهو اللائم. وفي ردّ العذّال قالوا: إنّما القلوب مقلَّبةٌ بيدِ خالقها ليس لها من الأمر شيءٌ ولا الحُكْمِ اختيارًا.50 والعين رائد القلب، والقلب رئيس الجسم، فإذا انجذب أعوزت الحيل في ردّه وصرفه، ووقفت العقول دون كفّه، فأنَّى للعاذل رَدّ سجيّة، وقد ضمّها بردًا ريحيّة، لا جرم أنّ الملام فيه إغراءٌ بالحبّ، وأمر يبردُ مَوضعَه حرارةُ القلب. كما قال أبو الأسود الدُّؤَليّ:51 (من الخفيف)52قال بعض الأدباء: العجب ممّن يعترض أهل الحبّ بالملام والتفنيد. قال ابن وَكِيع:53 (من الرجز)54وقال ابن أبي ربيعة:55 (من مجزوء الوافر)56ويُقال: رُبَّ عذول أذكى بتبريده نارًا، وحرّك للحنين أوارًا، وهاج بالذكر شوقًا وتذكارًا، هذا ولم يكلف أوارا، ولا رمته سِهامُ البين عن فشي النوى، فما عليه أن يعالج البركاء، ويعصي النصحاء، ويلتذّ بحالتي الاجتناب والانجذاب، ويستعذب أليم ذلك العذاب، يا أيّها اللَّاحي في هذه المناحي، أعجز الناس من يَلْحَى محبًّا في حبيب. (من الكامل)57ولمخلد بن الحميريّ: (من الخفيف)58استدعى ابن الأحمر هذه الأبيات الشعريّة والنصوص النثريّة التي تقارب ماهيّة الحبّ59 وتعكس حالة المحبّين النفسيّة. وربّما يكون الشارح في تتبّعه نماذج المحبّين وتلمُّس معاناتهم، يلخّص/يختزل تشابه تجارب الحبّ، ويكشف عن أحوالهم النفسيّة التي لا علاج لها سوى الوصال، لكون الحبّ لا منطق له سوى منطق العاطفة. وكأنّ الشارح يفسّر الحبّ بالحبّ لمعرفته بسيكولوجيّة المحبّين وأحوالهم.ولعلّ الشارح قد قصد بإثارة عاطفة الحبّ وجلبِ هذه النماذج، تحويلها إلى طبيعة إنسانيّة لا تقتصر على شخص من دون آخر. فالشارح يحبّ وطنه الأندلس، ويأمل في العودة إليه، الأمر الذي جعله مدافعًا عن كلّ المحبّين، ومعارضًا اللوّام، وكأنّه يتضرّع ويعترف بحاجته إلى وصال هذا الحبّ. لقد أضحت عاطفة الحبّ بالنسبة إلى الشارح فعلًا لا إراديًّا يحرّك مشاعره تجاه وطنه، ودافعًا أساسًا للخروج من أزمته. وإنّ الحاجة في العودة إلى الوطن لَهِي أمرٌ ضروريّ لتحقيق التوازن، فالنفس ”إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة،“60 ونار الشوق تبقى موقدة، لا يطفئها إلّا الصبر أملًا في العودة إلى الأقارب والأحباب.4الأمل بإثارة القيممن البدهيّ أن تشكّل القيم61 إطارًا سرديًّا يوظّفه الشارح لإبراز أحاسيسه وانفعالاته، وعرض موقفه من سلوك بني أعمامه، ليضمن عاطفة المتلقّي. وينطلق الشارح من الملفوظات التي لها صلة بالأمل، فيركّز في الشرح على القيم الدينيّة والأخلاقيّة التي تناسب حالته النفسيّة ومواقفه الفكريّة، لإثارة الحديث عن الأهل والأحباب، والحنين إلى الوطن. إنّ إدخال هذه القيم ضرورة اقتضتها طبيعة الموضوع وسياق الشرح، خاصّة فيما يتعلّق بالملفوظات ذات الحمولة التأثيريّة، التي لها صلة بأمل الرجوع إلى الوطن، مثل الصبر وصلة الرحم والبشارة.4.1الصبرتُعَدّ استراتيجيّة ترويض النفس على الصبر في الشرح سمةً بلاغيّة لجأ إليها الشارح لمواجهة الواقع المأساويّ الذي يعيشه. ومن الإشارات التأويليّة الدالّة على ذلك قوله في هذه الصورة البلاغيّة: ”كأنّ النّار بها بَلَل الماء وبرودته، فلا جرم هي خامدة الأنفاس، والماء به ما بالنار من الحرارة، والضَّرَم: وهو الاشتعال والتلهّب، فهو منقطع المادّة ممتنع الجريان. والحزن: معروف وهو ضدّ الفرح والسرور.“62لم يستسلم ابن الأحمر لليأس، بل تحمّل الصدمة التي تعرّض لها رفقة أسرته، بترويض النفس على الصبر أملًا في الفرج، الذي قد يأتي في أيّ وقت. يقول الشارح في شرحه على لسان البوصيريّ ”يَا نَفْسُ لاَ تَقْنَطِي،“63 ”لا تقنطي لما وقع منك من عظيم الزلّات وكبير المخالفات، فإنّ الكبائر بالنسبة إلى غفران الله تعالى وحلمه وكرمه كاللَّمَم. واللَّمَم: صغار الذنوب.“64وبوضع الشرح في سياقه التاريخيّ، وربطه بالألفاظ والعبارات الدينيّة الموظّفة (عظيم الزلّات، كبير المخالفات، الذنوب، الكبائر، غفران الله) يبدو الشارح مخاطبًا بني أعمامه، بلسان نفسه، إشارةً إلى إساءتهم له. وبهذا يكون الصبر جبرًا لكسر النفس، وترويضًا لها. ولعلّ الأمل بالبشارة، سيبدّد في نفس الشارح اليأس والتشاؤم.4.2البشارةيَمضي الشارح في شرحه معاني القصيدة بعرض معاني الأمل، ومن ذلك وقوفه عند شرح عبارة (بُشْرَى لَنَا)،65 يقول:البشرى معروفة، يقال بَشَرْتُ الرجلَ بالفتح، والتحقيق أَبْشُرُهُ بالضمّ بَشْرًا وَبُشُورًا وأبشرته من البشرى. والبشرى مصدر كالرُّجْعَى. قال ابن طريف:66 بشرتك بالخير، وبشرتك بفتح الشين وكسرها، بِشَارة وبُشارة بكسر الباء وضمّها، و”أَبْشَرْتُكَ“ بالخير أيضًا. وقد قرأ أبو عَمْرٍو ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ﴾ [الشورى، 42: 23] بضمّ الشين، وأنشد:67 (من الطويل)68تُعَدّ البشرى في الشرح الأملَ نفسه، فقد أصرّ الشارح على الوقوف على اللفظ وجلب مشتقّاته، لأنّ البشرى من البشارة التي تقترن بالخبر السارّ، ولعلّها طريقته في التعبير عن رجائه بالفرج؛ إذ اختار شرحَ ألفاظ وعبارات تستند إلى الأمل رغم أنّها معروفة ومألوفة لا تحتاج شرحًا. ومن هذا المنطلق، يمكن عَدُّ البشرى نتاجًا حتميًّا للفرج، وثمرةً من ثمرات الأمل.يتبيّن أنّ الشارح أولى اهتمامًا بشرح لفظ ”البشرى“ وجلب مشتقّاته تعبيرًا منه عن رغبة ذاتيّة أملًا في بشارة تبشّره بالعودة إلى وطنه، وفي العودة إلى الوطن الأندلس تغطية لنقص عاطفيّ إنسانيّ تَحَمَّله طيلة إقامته بالمغرب. وهو ما سيتوضّح عن طريق إثارة ابن الأحمر قيمة دينيّة إنسانيّة تتمثّل في صلة الرحم.4.3صلة الرحميعبّر أحد السياقات الدينيّة في الشرح تعبيرًا مباشرًا عن الأمل، وهو سياق صلة الرحم في وقوف الشارح عند عبارة: ”مَوصُولَةَ الرَّحِمِ.“69 يقول ابن الأحمر:الرَّحِم: هنا القرابة، وهي التي أمر الله سبحانه بوصلها. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِه أَنْ يُوصَل﴾ قال المفسّرون: هي الرَّحِم، ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي في قَطْعِهَا، ﴿وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾ [الرعد، 13: 21] أي في المعاقبة عليها.70 وروى عبد الرحمن ابن عوف أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله تعالى: ’أنا الرحمٰن وهي الرَّحِم، شققْتُ لها من اسمي فَمَن وصلها وصلتُه ومَن قطعها قطعته.’71 وقد جعلها الله سبحانه من جملة ما يُقسم به، فقال: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام﴾ [النساء، 4: 1].72يشتغل الشرح هنا على حجج السلطة73 المتمثّلة بالآيات القرآنيّة والحديث النبويّ الشريف، وهي حجج دينيّة تدعو إلى صلة الرحم. ولعلّ هيمنة هذه الآليّة البلاغيّة تكشف عن سمة من سمات خطاب الشرح الذي يقوم على المعاتبة. وتكمن سلطة هذه الحجج في التحذير من عقاب قاطع الرحم، وإنّ اعتماد الشارح على أكثر من حجّة يزيد من تدعيم الحكم الشرعيّ، لتحذير أولئك الذين خرجوا عن الأعراف والدين.نحاول في التركيز على عبارة الشارح ”الرحم هنا الأقارب“ وضعَ النصّ في سياق طرد المؤلّف من وطنه، وتفسيرَ حشده مجموعة من الحجج الدينيّة المدعّمة لموقفه لإقناع المتلقّي بالظلم الذي تعرّض له من قبل بني أعمامه. وتخضع هذه الحجج لموضعَيِ الكمّ والكيف،74 وتكمن بلاغتها في إثارة الرهبة75 من العقاب الإلهيّ لقاطع الرحم الذي ارتكب جرمًا دينيًّا عظيمًا يستوجب التوبة، وكأنّ ابن الأحمر يطالب بني أعمامه، بمراعاة هذه الصلة التي أضحت واجبًا دينيًّا أملًا في العودة إلى الأقارب في وطنه.الخاتمةخلاصة القول، إنّ شرح ابن الأحمر يسمح باستشراف ثيمة الأمل بمقاربة بلاغيّة ملائمة لطبيعة جنسٍ أدبيّ ينتمي إلى الشروح الأدبيّة، وهي مقاربة أوضحت أنّ هذا الشرح قد اتّسم بالأمل للتعبير عن أزمة المؤلّف إثر طرده وأسرته من الأندلس على يدِ بني أعمامه.أفاد مقام الشرح وسياقه أنّ الشارح قد لجأ إلى استدعاء حالة البوصيريّ ناظم قصيدة البردة لتشابُهها مع حالته، فألّف كتابًا في شرحها. وقد خضع الشرح لحركيّة الأمل تدريجيًّا بدءًا من العنوان بصفته إحالةً إلى الانفراج بعد معاناة الشدّة، ثمّ التصدير بتقديم الذات والإعلان عن الرغبة في التأليف للتخلّص من المحنة، ثمّ المقدّمة واشتمالها على إهداء ووصف بلاغيّ إقناعيّ لوزير بني مرين تقرُّبًا من السلطة وأملًا في الاستقرار في قصره، وأخيرًا الألفاظ والعبارات الواردة في المتن الباعثة على أمل العودة إلى الوطن بإثارة عواطف الحزن، والحبّ، والصبر، والحديث عن البشارة، وصلة الرحم. وقد اشتغلت حركيّة هذه العناصر مجموعةً وديناميّتها على الشرح أملًا في انتهاء مرحلة الشدّة، وبداية مرحلة الفرج.ما تحويه عتبات الشرح هو عبارةٌ عن خطاب حواريّ مع سلطة بني مرين مبنيٍّ على الأمل في الاستقرار. وهذا ما جعل خطاب العتبات خطابًا بلاغيًّا حواريًّا بين المؤلّف وسلطة بني مرين من جهة، وبين المؤلّف وبني أعمامه الأندلسيّين من جهة ثانية. سلك المؤلّف في عتبات التأليف بلاغة الإقناع لنيل الحظوة والمكانة التي كان يحظى بها الأمراء والعلماء في قصر السلطان، ومن ثمّ يكون تقديم الذات، ووصف الوزير، والدعاء له، وإهداؤه هذا العمل، استراتيجيّةً بلاغيّةً المرادُ منها التأثير في الوزير، وإقناعه بالتشبّث به، والتوسّط له عند السلطان المرينيّ.غدا متن الشرح تعبيرًا عن واقع الحزن الذي عاشه المؤلّف، فابن الأحمر قد قضى بعد واقعة الترحيل بقيّة عمره بعيدًا من الوطن، وكان عليه أن يرتاد ملامح حياة جديدة تشبه حياته السابقة، والمحافظة على مكانته الاجتماعيّة، لكنّ مشاعر الحزن وحبَّ الوطن ظلّت حاضرة في الشرح.تكمن قيمة الشرح في تأكيده محوريّةَ أزمة، ومنطق تفريغ هذه الأزمة، وكيفيّة الخروج منها. واستطاع أن يقيم تماثلًا بين حالة البوصيريّ – ناظم قصيدة البردة في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم الذي شُفي من مرضه بفضل قصيدته – وحالة أخرى تخصّ الشارح. لقد اتّخذ المؤلّف من تأليفه قناعًا للتعبير عن الأمل، فأضحى شرحه أشبه بالإرادة الإنسانيّة التي تواجه الأزمات من أجل تحقيق الآمال الحياتيّة.
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote
Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
All DeepDyve websites use cookies to improve your online experience. They were placed on your computer when you launched this website. You can change your cookie settings through your browser.