Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
1تمهيد: الشاعر وصراع التحوّلاتعليّ بن المقرَّب بن منصور بن المقرَّب بن الحسن، الشاعر العيونيّ البحرانيّ الأحسائيّ، يُنسب إلى بلدة العيون، ويرجِّح الدارسون أنّ مولده كان في سنة 572/1176، أمّا وفاته ففي سنة 629/1232.1 ورغم انتساب هذا الشاعر إلى الأسرة العيونيّة التي كانت بيدها مقاليد السلطة والإمارة في زمنه،2 فإنّه قد عانى في حياته كثيرًا ولم ينتفع من صلته بأسرته شيئًا، لكنّه تمتّع بشخصيّة قويّة، وكان دائمًا ما ينهز أقاربه، ويحذّرهم عاقبة القعود عن مواجهة الأخطار، ولهذا غضبوا عليه، ورأت فيه السلطة العيونيّة ”مثقّفًا معارضًا، فعملت على إخماد صوته، وسعت إلى تغييبه بالسجن، والمبالغة في أذاه باجتياح أملاكه، متجاهلةً حقّ القرابة والنسب.“3 وعلى إثر هذا، اضطرّ ابن المقرَّب – وقد نبت به الدار – إلى أن يرحل عن وطنه، ويجوب البلاد،4 يحدوه الأمل في أن يحقّق طلابه ويظفر بما فاته عند قومه.إنّ عوارض الهمّ ونوازل الغمّ هما – كما ذكر الأصبهانيّ – أصعب ما ناب به الزمان ولقي في عمره الإنسان، وحدوثها يكون بأسبابٍ أتمّها حالًا في السورة وأعلاها درجةً في القوّة: تغيُّر الحال من سعة إلى ضيق، وزيادة إلى نقصان، وعلوّ إلى انحطاط.5 وإذا كانت الحال كذلك، فإنّ ما سبق ذكره عن ابن المقرَّب يشير إلى أنّه في حياته قد وقع تحت وطأة عدد من التحوّلات السلبيّة، تلك التي فُرضت عليه مجابهتها وحده على كثرتها. وكان أشدّها إيلامًا له التحوّل القيميّ في سلوك قومه تجاهه؛ فهم لم يكتفوا بسجنه وانتزاع حقوقه، وإنّما أعانوا عليه خصومه، ورموه معهم بسهم واحد، وفي هذا يقول: (من الطويل)6ويظلّ ابن المقرَّب في أكثر من موضع من شعره يجأر بالشكوى من قومه، ناعيًا عليهم قسمتهم الضيزى في معاملتهم له؛ فقد غمطوه حقّه، وعَدِم الأمنَ والطمأنينة في جوارهم، بينما نعم بهما أناس آخرون ليسوا على قدره مكانةً ولا حبًّا لقومه، وفي هذا يقول: (من الكامل)7ومن المفارقات الغريبة التي ألحّ عليها ابن المقرَّب في شعره وتعمّد تكرار ذكرها أنّ سوء معاملة قومه له والمظاهرة عليه لم يكونا لجرمٍ جرَّه، وإنّما لأنّه لم يَأْلُ جهدًا في رعاية مصالحهم والذَّود عنهم بلسانه وسيفه خوفًا من أن تصيبهم دائرة، أو يحيق بهم مكر الأعداء، وفي هذا المعنى يقول: (من البسيط)8كان نبذُ قومِ ابن المقرَّب له نقطة تحوّل خطيرة في حياته؛ فقد آض بعد أن كان آمنًا في سربه يضرب في الأرض متجرّعًا مرارة الغربة والحنين إلى أحبابه، لا سيّما حين يتذكّر بُعده منهم وما يحول دونهم من المفاوز والفلوات: (من الطويل)9لا غرابة بعد هذا أن يتغيّر أيضًا موقف الزمان أو الدهر من ابن المقرَّب؛ إذ لم يعد في مأمنٍ من بطشه وغدره، بعد أن صرّح له بالشرّ، ورماه بسهامه مع من رماه، وعن هذا التحوّل العدائيّ يقول الشاعر: (من الطويل)10وممّا آسف ابن المقرَّب كذلك أن انقضى شبابه وزهاه الكبر، فأعرضت عنه الغانيات، ولم يعد لهنّ فيه مأرب، وقد نعى على إحداهنّ موقفها منه، وبيّن لها حقيقة الأمر في قوله: (من الطويل)11وكان ممّا امتُحن به ابن المقرَّب أيضًا أنْ نفق وقلَّ ماله بعد وَفْرٍ وغنى، واحتاج إلى مَنْ يرفده؛ فأُصيب بغمّ على غمّ، وطفق يعدّد ابتلاءاته قائلًا: (من الرمل)12إنّ ازورار قوم ابن المقرَّب عنه، ونأيه عن وطنه، وعدوان الدهر عليه، ووَخْط الشيب له، وقلّة ماله، جميعها نوائب وتحوّلات خطيرة طرأت على حياته؛ فلم يكن له إزاءها سوى مآل أو مصير واحد من مصيرين: إمّا الانكسار والعجز عن مواجهتها، وإمّا الصمود والدأب على تخطّي عقبتها الكؤود. وقد بدا من شعر هذا الأديب أنّه قد اختار المصير الثاني وسعى إلى تحقيقه بوساطة عدد من ميكانزمات الدفاع النفسيّ التي عزّزت لديه فكرة التشبّث بالأمل.2الأمل وميكانزمات الدفاع النفسيّالواقع (العالم الخارجيّ) والـ”هي“ (اللاشعور) والذات العليا (الضمير اللاشعوريّ) ثلاث قوى تقع الأنا أو الشخصيّة الشعوريّة تحت تأثيرها،13 وهذا التأثير ناتج – كما أوضح فرويد – من الأنا و”يهدف إلى تصوير مطالب العالم الخارجيّ، لكنّه يريد أيضًا أن يكون خادمًا وفيًّا لِلْهِيَ، وأن يبقى على وفاق معها، وأن يوصي بنفسه عندها باعتباره موضوعًا من الموضوعات“14؛ وإزاء هذا يتعيّن على الأنا أن ”يجهد ويكافح لإعادة نوع من الانسجام والتوازن بين القوى والمؤثّرات التي تعتمل في ثناياه وتأخذه من خارج.“15 ولإدراك هذه الغاية من الانسجام والتوازن والتطبيع المجتمعيّ، يتعيّن على الأنا أو الشخص التحصّن ببعض ميكانزمات الدفاع النفسيّ، شريطة أن تكون هذه الميكانزمات أو الحيل من حيل التوافق السويّة.16 أمّا إذا لم يسعفه هذا النوع من الحيل، فإنّه قد يهرع إلى حيل الدفاع غير السويّة – مثل الإسقاط والنكوص والتثبيت والتحويل والتفكيك والسلبيّة – وحينها يصبح سلوكه مَرَضيًّا، ويخفق في التواؤم مع محيطه وبيئته.17إنّ العمل الفنّيّ هو ثمرة أسبابٍ تدفع إلى الحُلم، وهو يحقّق من الرغبات المكبوتة في اللاشعور ما يحقّقه الحُلم،18 وإنّ هدف الشاعر في إبداعه هو خفض التوتّر، وتنظيم تجربته، وبذلك إعادة الاتّزان إلى الأنا.19 يفسّر هذا إلحاحَ ابن المقرَّب في شعره على استعمال عدد من حيل التوافق أو الدفاع النفسيّ لكي يتوقّى الأرزاء التي أصابته، عزّز من لجوئه إليها أنّه كان مسكونًا بالألم. ومعروفٌ – كما قال فرويد – أنّ ”الإحساسات المؤلمة تنزع نحو التغيير ونحو التفريغ، وهذا هو السبب الذي من أجله نفسّر الألم على أنّه يتضمّن ازدياد شحنة الطاقة النفسيّة، ونفسّر اللذّة على أنّها تتضمّن خفضها.“20 وهذه الميكانزمات أو الحيل المشار إليها، والتي انتفع بها الشاعر تمثّلت لديه في أربع؛ هي: التحوّل المكانيّ، وتقدير الذات، واستدعاء الموروث التاريخيّ، والاتّصال بالممدوح.2.1أوّلًا: التحوّل المكانيّ/الاغترابيُعَدّ المكان عنصرًا فاعلًا في الذات ومؤثّرًا فيها إلى حدّ بعيد؛ ذلك أنّ علاقتنا به كما يبيّن يوري لوتمان:[تنطوي] على جوانب شتّى ومعقّدة تجعل من معايشتنا له عمليّةً تجاوز قدرتنا الواعية لتتوغّل في لاشعورنا، فهناك أماكن جاذبة تساعدنا على الاستقرار، وأماكن طاردة تلفظنا، فالإنسان لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقيّة جغرافيّة يعيش فيها، ولكنّه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصّل فيها هويّته، ومن ثمّ يأخذ البحث عن الكيان والهويّة شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فيها الأنا صورتها، فاختيار المكان وتهيئته يمثّلان جزءًا من بناء الشخصيّة البشريّة.21وغالب الظنّ أنّ إخفاق الإنسان في تأصيل هويّته في المكان وتهيئته والفعلِ فيه راجعٌ إلى افتقاره إلى الاهتمام الاجتماعيّ الذي يعمل ضدّ مشاعر اليأس والاغتراب.22 وبغياب هذا الاهتمام، قد يصبح الشخص مسكونًا بهاجس الحركة والسفر، وتتولّد لديه الرغبة الملحّة في الانعتاق من سلطة المكان، تقول سيزا قاسم: ”الانتقال من مكان إلى مكان يصاحبه تحوّلٌ في الشخصيّة […] فالرحلة أي الانتقال من مكان إلى مكان مستمدّة من أسطورة البحث، أمّا الانغلاق في مكان واحد من دون التمكّن من الحركة فإنّ هذه الحالة تعبّر عن العجز وعدم القدرة على الفعل أو التفاعل مع العالم الخارجيّ أي مع الآخرين بل يضيق المكان الحابس فيصل إلى مجرّد غرفة.“23عندما استحال مكثُ ابن المقرَّب في وطنه الأحساء، لم يخلد إلى الأرض، ولم يُصَب باليأس، كما لم يرضخ للظلم ولملاحاة قومه له، وإنّما آثر دَفْع هذا كلّه بالتحوّل عن الوطن معلنًا في صراحة تامّة تذمُّرَه ورفضه لما جُوزي به،24 وموقنًا في الوقت نفسه بأنّ هذا التحوّل هو أنجع السبل للخلاص ممّا هو فيه، وهذا ما أخبر به صاحبيه قائلًا: (من الطويل)25على هذا النحو، سوّغت مَلَكة الإبداع لابن المقرَّب أن يعرض في بيت واحد لقضيّة محوريّة في حياته، طارحًا في هذا البيت أصل المشكلة وحلّها، ذلك الحلّ الذي بدا الأمثلَ والأوحد باستعمال أسلوب القَصْر والاستثناء. ولعلمِ هذا الشاعر أنّ بُعده من بلده قد يُشمت به الأعداء، فقد عاد مرّة ثانية في موضع آخر من شعره لمخاطبة صاحبيه وللحديث عن القضيّة نفسها ولكن بشيء من الإطناب، يقول: (من الطويل)26يدلّ ما أورده الشاعر في هذه الأبيات على أنّه تغيّا من ورائها تسويغ موقفه27 وسدّ ذرائع خصومه ودَرْء مظنّة الضعف عن نفسه، وهذا ما دعاه إلى التعويل فيها على الأساليب الخبريّة، وإلى استعمال حجج عقليّة مختلفة، تتعاضد فيما بينها لتفضي إلى خيار وحيد هو الذي ارتضاه الشاعر وقَبِل به في نهاية المطاف؛ ذلك أنّه لم يُقْدم على الرحيل أو فراق أهله إلّا بعد أن تهيّأت له من المقتضيات والأسباب ما يوجبه. ومن هذه الأسباب أنّ الشاعر حرٌّ قويّ الشخصيّة يأبى الضيم، ومَنْ هذه مناقبه يؤمن بأنّ أرض الله واسعة، وأنّ في بلادٍ من أختها بدلًا، وأنّه ربما يجد الراحة في بلد من البلدان. ومنها أيضًا أنّه علم يقينًا أنّ ثمَّة من الأماكن ما يعوّضه عن وطنه الأمّ، وهو شاطئ الزوراء الذي عمّ فيه الوفاء والعدل بخلاف موطنه الذي غاضت فيه المبادئ السامية والمُثُل العليا.يُلحّ ابن المقرَّب في أكثر من موضع من شعره على أنّ زواله عن وطنه لم يقضِ على آماله في الحياة، ولم يُفضِ به إلى الخضوع والانكسار؛ لأنّه دائمًا ما كان يرى في نفسه القدرة على تحمّل لأواء التحوّل المكانيّ/الاغتراب وعلى التكيّف مع أيّ أناس وفي أيّ مكان يحطّ فيه رحله، شريطة أن تُحفظ في هذا المكان كرامته، ويُعرف به قدره، وذلك قوله: (من البسيط)28وفي جُلِّ المرّات التي تحدّث فيها ابن المقرَّب عن غربته، نلفاه حريصًا على ذكر الدواعي والمؤهّلات النفسيّة والبدنيّة والاجتماعيّة التي لم تسوّغ له فقط احتمال هذه الغربة، بل جعلتها مستعذبة محبّبة إلى قلبه، تحقّق هذا في الشاهدين السابقين، وفي قوله أيضًا: (من الطويل)29غداالتحوّل المكانيّ/الاغتراب حيلةً ناجعة في تجربة ابن المقرَّب، فقد جعله علامةً على قوّة الشخصيّة، بينما عَدَّ في المقابل مَن لا يقدر عليه ضعيف العزم خوّار الهمّة: (من البسيط)30لا يكتفي ابن المقرَّب باختيار الاغتراب حلًّا أمثل لما حاق به، بل يذهب إلى التقليل من خطره والآثار المترتّبة عليه حتّى يزيدَ من جرعات التوافق النفسيّ، وذلك قوله: (من الطويل)31في هذا السياق أيضًا، يُقْسم ابن المقرَّب على أنّ التحوّل المكانيّ/الاغتراب ما زاده إلّا طمأنينة وراحة نفسيّة وخلاصًا من الأسف والضجر والوحشة والسهر، وذلك في قوله: (من البسيط)32كان ابن المقرَّب في صراع دائم مع نفسه ومع شانئيه وكلِّ مَن ساوره شكّ في إطاقته الاغتراب، ولذلك لم يكتفِ بتكرار إعلانه القدرة على احتماله، بل ألفيناه ينصح به غيره ممّن مسّهم مثله الضرّ ونالهم على غراره الضيم، وفي هذا يقول: (من الطويل)33ربّما توقّع الشاعر عدم اقتناع المخاطَب بجدوى التحوّل المكانيّ/الاغتراب؛ لذا شفع نصحه له في الأبيات السابقة بتقديم بعض المحفّزات والدلائل الحسّيّة التي لا يعزب عنه إدراكها، والتي من شأنها أن تحبّب إليه الحركة والنشاط، وتكرِّه إليه – في المقابل – الكمون والخمول. ومن هذه القرائن السيف الذي لا يُلقَّب بأفضل الألقاب إلّا إذا انتضاه صاحبه، وسلَّه على الأعداء، وكذلك القمر الذي لو أقام في مكانه، لظلّ هلالًا، ولمَا اكتمل وأصبح بدرًا تامًّا. ولا يكتفي ابن المقرَّب بهذين الدليلين، بل يضيف في البيتين الأخيرين دليلًا ثالثًا، اجتباه هذه المرّة من وقائع التاريخ وأحداثه المنصرمة، وهو المتعلّق بشخصيّة سيف بن ذي يزن.34وإن كان ابن المقرَّب قد شُغل بخطاب الآخر لإقناعه بعوائد الاغتراب الإيجابيّة، فإنّه ربّما قصد نفسه أوّلًا بهذا الخطاب بدليل ثنائه الجَمّ على مَنْ يخاطبه؛ إذ وصفه بأنّه كريم، وذو علا ومجد، وأنّه أخو العزم، وذلك قوله: (من الطويل)35وممّا يرجّح أنّ ابن المقرَّب إنّما كان يعني نفسه في نصحه غيره بالاغتراب، أنّه في بعض مواضع من شعره كان يحثّ المخاطَب على النأي عن المكان الذي تبدّلت فيه القيم، ثمّ ما يلبث أن يلتفت بالضمير متكلّمًا عن نفسه وما حدث له مع قومه، وذلك قوله: (من الكامل)36كان ابن المقرَّب يسعى إلى إثبات صحّة ما خلص إليه في أمر الجلاء عن وطنه؛ لذا نوّع في طرائق الحديث عن هذا الجلاء بوصفه سبيلًا للأمل ونَقْع الغُلّة؛ فبعد أن كان يأخذ هو – كما في الشواهد السابقة – زمام المبادرة؛ بإغرائه غيره بجدواه، ألفيناه في بعض مواطن من شعره يجعل نفسه منصوحًا به ومدعوًّا من غيره للعمل به، ومن ذلك قوله: (من الطويل)37توحي إضافة ”كم“ الخبريّة إلى كلمة ”قائل“ النكرة في بداية الأبيات السابقة بأنّه لا خلاف على أنّ للعجز والفقر عواقب وخيمة، وأنّه لا سبيل لدفعهما والنجاة منهما إلّا سبيل التجلّد والضرب في الأرض وركوب الأهوال من غير توانٍ.أفاد ابن المقرَّب من هذا الصوت الآخر الذي كسر به – إلى حدّ ما – النسقَ الأحاديّ للقصيدة الغنائيّة؛ فلم يكتفِ بأن جعله يؤدّي دور الناصح الأمين له كما في الأبيات السابقة، وإنّما استثمر حضوره في تأييد موقفه؛ بأن توحّد معه شعوريًّا وألقى مثله باللائمة على قوم الشاعر لأنّهم مَن تنكّبوا عن وضح السبيل، وباؤوا بإثم الجور على حقوقه، وفي هذا يقول: (من الكامل)38ومع أنّ الحوار الذي حكاه ابن المقرَّب في شعره السابق لم يكن حوارًا متناميًا أو متعاضدًا مع عناصر أخرى تؤثّل لبنية دراميّة ومعمار فنّيّ متصاعد، فإنّ الشاعر قد أفاد ممّا جرى في هذا الحوار المبسّط39 على لسان اللاحي في كسر أفق التوقّع القرائيّ والإعلان – خلافًا لما ظنّه هذا اللاحي – عن نفسه وعن قدرته على تحدّي الصعاب والنزوح – ما دام في الأرض مراغم كثيرة وسعة – عن دار قومه وعن أيّ موضع يناله فيه ضيم.جاءت الأمثلة السابقة شاهدةً على أنّ ابن المقرَّب قد تقلّبت به الأسفار، وكثر اغترابه؛ لأنّه كان يأبى أن يطول به الثواء، وأن يرتهن إلى مكان لا يقضي فيه وطره أو يُمَسّ فيه بسوء؛ ومن ثَمَّ استعذب التحوّل المكانيّ، وصار بالنسبة له علامة على قوّة الشخصيّة وسبيلًا لاحبًا للوئام النفسيّ وكبت الأعداء وإفشال مساعيهم وإيئاسهم من أن يتضعضع أو أن تنطفئ جذوة الأمل في فؤاده.2.2ثانيًا: تقدير الذاتذهب علماء الصحّة النفسيّة إلى أنّ فكرة الشخص عن نفسه هي النواة الرئيسة التي تقوم عليها شخصيّته، وهي كذلك العامل الأساسيّ في تكيّفه الشخصيّ والاجتماعيّ.40 كما أكّدوا أنّ مشاعر الوحدة النفسيّة ومستويات الاكتئاب تنخفض في ظلّ التقدير الإيجابيّ للذات،41 ذاك التقدير الإيجابيّ الذي يدفع إلى الانتحاء نحو السواء والبعد من الانحراف والسلوك العدوانيّ، وهو بهذا بخلاف التقدير السلبيّ الذي ينشأ عن ”المبالغة في التقدير ورفع الشأن بما يُعمي الفرد عن حقيقة الشيء ويحرمه من النظرة الموضوعيّة.“42ولتقدير الذات والاعتداد بها ارتباطٌ وثيق بمشاعر الشخص وإحساسه بالقهر والدونيّة، هذا الإحساس في رأي ألفريد آدلر:[يُجبر الإنسان] على أن يستجمع كلّ قواه ويبذل جهدًا أكبر ممّا يبذله الآخرون. إنّ قوّة هذه الجهود تجعل الفرد يؤمن بأنّه قادر على أن يحتلّ مكان الصدارة في دائرة الضوء، ويثبت أنّه قادر على الانضمام إلى فريق المنتصرين، فلا يمكن للفرد أن يغضب بدون أن يكون له عدوّ، وبالمثل فإنّه من غير الممكن تفهّم عاطفة الغضب بدون أن نأخذ في الاعتبار هدف هذه العاطفة والذي يتمثّل في محاولة الانتصار على هذا العدوّ.43أمّا فيما يتعلّق بابن المقرَّب، فقد كان من بين الشعراء الذين أكثروا من الافتخار بأنفسهم، وعنوا بتقدير الذات والاعتداد بها إلى حدّ كبير، وقد كان دافعه إلى هذا السلوك رغبته في الدفاع عن نفسه وتغيير واقعه. فأبدى صموده وغضبه ورفضه الرضوخ والقبوع مقهورًا في وطنه، وفي هذا ما يتّسق وطبيعة شخصيّته؛ إذ انماز ابن المقرَّب بأنّه كان ”عزيز النفس، سامي الهمّة، طموحًا متطلّعًا إلى المجد، رافضًا للضيم، متوقّد العزيمة، صريحًا صادقًا متأبّيًا، معتدًّا بنفسه، مزهوًّا بشاعريّته، داعيًا إلى مذهب القوّة في الحياة، جادًّا، حادّ المزاج، عاشقًا لوطنه الأحساء.“44 ومن أهمّ ما انماز به أيضًا أنّه لم يشعر ”بالضعف أمام القوى المادّيّة التي يملكها الولاة – من بني عمّه – الذين غضبوا عليه، أو الذين غضب عليهم وجفاهم، بل كان يحسّ بأنّ في وسعه مجابهة كلّ عاثٍ وكلّ سلطان وأن يكون له بالمرصاد، فهو يشعر بقوّة لدنيّة تكافئ – في نظره – قوّة الجيوش وبأسها.“45بهذا يتبيّن لنا أنّ ابن المقرَّب قد صاول مَنْ حافوا عليه بالإيمان بذاته وتقديرها؛ إذ كان على ثقة تامّة بأنّ شخصيّته الصلبة هي له درع واقٍ وجدار صفيق، يحميه من خصومه ومناوئيه، ولعلّ هذا ما يفسّر لنا شفعه في أكثر من موضع من شعره شكواه وتوجّعه بالحديث عن نفسه وتمجيدها؛ وذلك على نحو قوله: (من الرمل)46بدا الشاعر في صدر هذه الأبيات مبتئسًا مهيض الجناح مستسلمًا لليأس؛ إذ صوّر نفسه وقد رنق عيشه، وأصبح فريسة سهلة للأيّام، كما أفضى به الاستلاب إلى حدّ فقدان الغاية من الحياة، على أنّه سرعان ما يتعافى ويتخلّص ممّا تسرّب إليه من مشاعر سلبيّة، معلنًا عن شخصيّة أخرى ووجه آخر استقبل به الحياة. لم يعد الشاعر هذا الشخص المستكين المطرق، بل تحوّل إلى فارس مغوار يصول ويجول، ويملأ الدنيا حركة ونشاطًا، وتصير له أنياب ومخالب، يقتحم بها الأخطار ويردّ بها الغوائل.لجأ ابن المقرَّب إلى أكثر من ثيمة فنّيّة حتّى يرسّخ هذه الصورة المثاليّة في الأذهان ويقرّبها؛ فاستعمل التشبيه مرارًا؛ حينما شبّه نفسه مرّة بحيّة الوادي، وأخرى بليث الغاب، وثالثة بالشهاب ذي الاتّقاد، وكلّها تشبيهات محسوسة انتزعها من الطبيعة – المعروفة بقوّتها وفتكها – وأضاف إليها من الصفات ما يؤكّد ضراوتها. كما استعان ببعض الاستعارات (مثل تمضغ الأيّام لحمي، يا جفوني طلّقي عنك الكرى، المنايا رائحات وغواد، لأقيمنَّ سوق إقدام وطعن وجلاد، الوغى تعرفني والعوالي والمواضي والهوادي). وإنّ توظيف هذه الصور البيانيّة في مثل هذا السياق لا يُعَدّ انسلاخًا من الواقع؛ لأنّالشاعر حين يستخدم خياله لا يهرب من الحقيقة، بل يلتمس الحقيقة كذلك في الخيال، فالخيال والواقع كلاهما وسيلة لنقل ذلك الصراع الداخليّ الذي يعاني منه الفنّان، ومن ثمّ يتّضح لنا الخطأ في استنتاج أنّ رغبة الفنّان في الهروب من الواقع هي التي تدفعه إلى الإبداع الفنّيّ؛ من حيث إنّ الهروب من الواقع يكون إلى عالم خياليّ، ومن حيث إنّ الخيال عنصر لازم في الإبداع الفنّيّ، فالحقيقة أنّ الشاعر يحتال على الواقع بالخيال، أي أنّه يحاول تعمّق الواقع بالخيال، فهو إذن لا يهرب منه بل يغوص فيه.47استدعى ابن المقرَّب في أبياته السابقة شبيب بن يزيد الشيبانيّ (ت 77/696) وأخاه مصاد، وكلاهما شخصيّة قويّة، ثابرت في قتال بني أميّة ومناجزتهم.48 وقد قرن الشاعر اسمه باسمهما هنا، وشبّه نفسه بهما؛ لأنّه لم يرها أقلّ منهما قوّة وشجاعة. وعلى ذكر الاستدعاء ألفيناه أيضًا يلمّ في البيت السابع من الأبيات السابقة بمقولة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ (ت 95/714) ”وإنّي لأرى رؤوسًا قد أينعت، وحان قطافها، وإنّي لصاحبها،“49 وقد وردت هذه العبارة في خطبته الشهيرة إلى أهل العراق حين أُرسل واليًا عليهم. وفي تناصّ ابن المقرَّب مع العبارة، أجراها على لسانه هو، ونسب ما فيها من فعالٍ لنفسه، في إشارة منه إلى أنّه في قوّة شخصيّته. تلك الشخصيّة التي أصبحت في التراث العربيّ رمزًا للقوّة وشدّة البأس، وربّما للبطش بالآخرين والتنكيل بهم. يُضاف إلى الوسائل الفنّيّة السابقة مراوحة ابن المقرَّب في النصّ السابق بين أسلوبي النفي والتوكيد، وقد أفاد منهما معًا في حشد أكبر عدد ممكن من الصفات الدالّة على شموخه وشدّة بأسه؛ إذ جاء النفي لديه في قوله: ”ليس هذا الينع إلّا للحصاد،“ وقوله: ”لست من دون شبيب ومصاد،“ وقوله: ”لست بالترعية الغمر ولا واهن العزم ولا كابي الزناد،“ كما جاء التوكيد في مثل قوله: ”لأقيمنَّ لأبناء الوغى سوق إقدام وطعن وجلاد،“ وقوله: ”واعلم أنّني ليث غاب وشهاب ذو اتّقاد.“ هذا إلى جانب تعويله في أكثر من موضع في الأبيات السابقة على الاستفهام الاستنكاريّ (ما انتظاري، ما الذي يقعدني، ما اعتذاري). وجميعها وسائل فنّيّة وظّفها ابن المقرَّب بغية تضخيم الأنا وإعلاء صوتها والإعلان عنها؛ تحصينًا لها من الاستسلام والوقوع في براثن الضعف.إن الملمّات التي أحدقت بابن المقرَّب صدفته عن مداركة الخطو نحو المباهاة بطيب المأكل والملبس وتقديم القرى للضيوف وإنعاش الفقراء وإغاثة الملهوفين والتعفّف عن نطق الخنا أو حتّى بمعاقرة الخمر واللهو بالحسان من النساء، وإنّما عُني بتقدير ذاته من جهة الفخر بنفسه بإبراز شجاعته وقوّته وقدرته على الثأر من خصومه والتنكيل بهم إن لزم الأمر، كما في قوله: (من البسيط)50نَفَّس ابن المقرَّب عن غضبه وكربته على شاكلة فرسان الجاهليّة وشعراء البادية بأن طفق يصكّ سمع أعدائه ويحذّرهم نفسه؛ فنسب – متغافلًا واقع المتغيّرات الدينيّة والحضاريّة والثقافيّة – الجهلَ لنفسه، وتوعّدهم باستئصال شأفتهم، وتنصّل من تحمّل ديّاتهم، وجعل سطوته فوق سطوة الجبّارين. وفي هذا ما يؤكّد أنّ الشعور بالغضب قد ”يُستخدم في زيادة شعور الفرد باحترامه لذاته وثقته في قدراته، والحطّ من معارضيه في الوقت نفسه.“51كان ابن المقرَّب حريصًا كلّ الحرص على أن يفرغ على نفسه صبرًا وعلى ألّا يشمت به الأعداء، ولهاتين العلّتين نراه يكثر من الفخر الذاتيّ ذي النبرة العالية، وذلك نحو قوله: (من الوافر)52تَغنَّى ابن المقرَّب في هذا النصّ بمآثره من شجاعة وعلوّ همّة وكرم وحصافة رأي، وتمتّعه بهذه الخلال هو ما خوّل له منازلة الحوادث – وليس حادثة واحدة – من غير أن يتهيّبها، وهو ما جعله أيضًا يحسن التدبير ويقوى على مجابهة الهموم، وإن أتته مجتمعةً، وإن عاودت الرجوع إليه ولم تملّ ذلك. كذلك فإنّ تحلّيه بهذه المناقب هو ما جعله يأبى الضيم، ولا يحجم عن اتّخاذ قرار الرحيل عن دار قومه بعد أن نبت به وذِيْد عنها.لم يَفُت ابن المقرَّب في البيت الأخير أن يحترز لنفسه بأنْ صرّح بأنّ نزوحه لم يفضِ به إلى اليأس والخور، بل كان داعيًا له لأن ينهز – من دون تسويف – لاسترداد حقّه وحقّ آبائه، وإن كلّفه ذلك انتزاعهما من بين أنياب الأفاعي. وفي هذا دليل قاطع على فرط شجاعته وإيمانه بقضيّته، وأنّ اجتباءه ألفاظه لم يأتِ ضربة لازب؛ ذلك أنّه جاء بكلمة (الأفاعي) جمعًا؛ الأمر الذي يؤشّر على كثرة أعدائه وصعوبة مهمّته، كما أنّه اختار هذا الجنس من الحيّات، وخصّ أنيابها بالذكر؛ لأنّ الأفعى سلاحها في أنيابها، وهي ما لم تعضّ فهذه الأنياب مصونة في أكمام، أمّا إذا عضّت، فتستفرغ إدخال الناب كلّه.53وعلى غرار الشواهد السابقة، نُلفي ابن المقرَّب يذهب كلّ مذهب في الإعلان عن نفسه وعن رفضه الضيم، متّكئًا في هذا على حفظ الله له، وعلى نسبه المؤثَّل، وعلى شجاعته التي يطأ بها أنف الموت نفسه من دون رهبة، وعلى عزمه الذي لا يقوى على أن يضمّه صدر، ولو كان صدر الدهر عينه، وفي هذا يقول: (من البسيط)54يتّضح في ما سبق أنّ فخر ابن المقرَّب لم يكن من باب الاستعلاء والنرجسيّة أو الشعور بعقدة النقص، وإنّما كان نفثة مصدور، ومن باب ردّ الفعل والدفاع عن النفس ووقايتها من التشظّي بتمجيدها والاعتداد بها، استنادًا إلى ميزات ومناقب حقيقة حازها هذا الشاعر، وعمل على تضخيمها والمبالغة في التعبير عنها في بعض الأحيان.2.3ثالثًا: استدعاء الموروث التاريخيّيفتقر الأديب – وإن كان ذا طبعٍ مجيب وقريحة مواتية – إلى التشبّث بكثير من الفنون وإلى النفاذ في العديد من العلوم ”حتّى إنّه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جَلْوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة.“55 وتُعَدّ معرفة الشاعر بالأيّام والوقائع الماضية من أهمّ الآلات والموادّ التي يتعيّن عليه الإحاطة بها؛ إذ إنّه لا يخلو ”من الانتصاب لوصف يومٍ يمرّ به في بعض الأحوال شبيهًا بيوم من تلك الأيام، ومماثلًا له، فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيّام المناسبة لمراده، الموافقة له، وقاس عليها يومه، فإنّه يكون في غاية الحسن والرونق.“56 وبالنظر إلى شعر ابن المقرَّب، فإنّ غاية القياس هذه كانت الباعث الرئيس وراء استدعائه بعض الأحداث التي يذخر بها تاريخنا، لا سيّما أنّ هذه الأحداث قد تعلّقت بشخصيّات تراثيّة تتمتّع بسلطة حجاجيّة واسعة النطاق،57 الأمر الذي أفاد منه هذا الشاعر في تضميد جراحه وتعزيز موقفه، خاصّة مع تعدّد أوجه الشبه والمماثلة بين موقفه الراهن واللحظة التاريخيّة التي انفتح عليها في بعض قصائده.كانت شخصيّة الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم في مقدّمة الشخصيّات التاريخيّة التي تناصّ ابن المقرَّب مع بعض أحداث حياتها،58 وأفاد من حضورها والقياس على بعض مواقفها في مثل قوله: (من الطويل)59حتَّم سياق الحال على ابن المقرَّب أن يبتعد في هذه الأبيات – وفي نظيراتها – عن التأويل والمواربة، وأن يكون استدعاؤه فيها حدثَ هجرةِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استدعاءً صريحًا، مهتبلًا فرصة وقوع مثل هذا الحدث التاريخيّ للاحتجاج به على أنّ المرء لا يضيره أن يُخرجه قومه؛ لأنّ ممّن اصطفاهم المولى عزّ وجلّ نفسه وصنعهم على عينه قد كتب عليهم الجلاء عن أوطانهم، فلم يوهن ذلك عزمهم، ولم يطفئ في أفئدتهم مشاعل الأمل.ولِعِلْم ابن المقرَّب بأنّ الاحتجاج ببعض المواقف من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يضمن لكلامه قدرًا كبيرًا من الإقناع، ويحقّق له كذلك الدعم النفسيّ اللازم للصمود ومقاومة اليأس، لعلمه بهذا، عاود مرّة ثانية النهل من سيرته العطرة، مؤكّدًا الشبهَ الكبير بينه وبين النبيّ في أنّ كليهما قد عميت عن رشدها عشيرته، ولم تتبع هداه، واستبدلت بشكر النعمة الكفران والعقوق، وفي هذا يقول: (من البسيط)60كان يوسف عليه السلام واحدًا من الأنبياء الذين حنق عليهم أشدُّ الناس قرابةً منه؛ إذ حسده إخوته على مكانته وعلى ما آتاه الله من حبّ والده له؛ فحاولوا الخلاص منه، بأن ألقوه في غيابة الجبّ، وبيع بعد ذلك بثمن بخس، وعاش مدّة طويلة بعيدًا من مراتع صباه، ولهذا كلّه لم يفت ابن المقرَّب أن ينفتح على هذه القصّة وعلى هذا الحدث المؤثّر، متمثّلًا به ومتصبّرًا على مصابه وما صنعه معه أهله، وفي هذا يقول: (من الطويل)61ربّما كان إكثار الشعراء من التأسّي بمواقف الأنبياء في إبداعهم راجع – كما سبق القول – إلى ما تتمتّع به شخصيّاتهم من سلطة حجاجيّة، وإلى ما لهم في الوعي الجمعيّ من مكانة سامقة، وعائد أيضًا إلى أنّ الشعراء أحسّوا ”من قديم بأنّ ثمة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم وتجربة الأنبياء؛ فكلٌّ من النبيّ والشاعر الأصيل يحمل رسالةً إلى أمّته، والفرق بينهما أنّ رسالة النبيّ رسالة سماويّة، وكلّ منهما يتحمّل العنت والعذاب في سبيل رسالته، ويعيش غريبًا في قومه محارَبًا منهم، أو في أحسن الأحوال غير مفهوم منهم.“62إنّ مَنْ يُمعن النظر في شعر ابن المقرَّب يتبيّن أنّه كان يكثر من اعتصار ذاكرته ومراجعة مخزونه الثقافيّ؛ ليستدعي لنا فيه أكبر قدر ممكن من الشخصيّات التراثيّة التي أُجبرت مثله على النزوح عن الأوطان، وابتُليت بصنوف من الابتلاءات، ولهذا لم يكتفِ في استدعائه الموروث التاريخيّ بالتناصّ مع شخصيّات الأنبياء والانفتاح على مواقف بعينها من حياتهم، وإنّما ألمع إلى بعض ما حدث لشخصيّات تراثيّة أخرى كان لها في تاريخنا شأن عظيم ومكانة مرموقة، وبرغم ذلك لم تسلم من الأذى، ومن ذلك قوله: (من الطويل)63عُوقب ابن المقرَّب – كما سبقت الإشارة – بالسجن، ولعلّ ألمَ هذه التجربة كان يلحّ عليه ويلاحقه؛ فكان من مبرّرات إقصائه هذا الشعورَ والتغلّب عليه أنْ تأسّى فيما حدث له بشخصيّتين عاليتي القدر، جرى عليهما القلم وابُتليتا مثله في حياتهما. أمّا الشخصيّة الأولى فهي التي ذكرها في البيت الثاني من الأبيات السابقة، وهي شخصيّة أبي قابوس النعمان بن المنذر (ت 608م)، هذا الرجل الذي كان من أشهر ملوك المناذرة قبل الإسلام، وفي يوم من الأيام لجّ الخلاف بينه وبين كسرى فارس؛ فكان من أمر هذا الأخير أن نجح في أن يستقدمه إليه. فلمّا ظفر به قيّده وحبسه بسجن كان له بخانقين، فلم يزل فيه – كما تذكر بعض الروايات – حتّى وقع الطاعون هناك فمات فيه سنة 608م، وغضبت له العرب حينئذٍ، وكان قتله سبب وقعة ذي قار.64 وأمّا الشخصيّة الثانية التي هوّنت على ابن المقرَّب مصابه فهي شخصيّة ابن ذي الجدّين بِسْطَام بن قيس الشيبانيّ (ت 612م)؛ وقد تناصّ في البيت الثالث من النصّ السابق مع خبر أسر هذا الرجل الذي عاش جلّ حياته في الجاهليّة، وكان يُضرب به المثل في الفروسيّة والشجاعة، وبرغم ذلك وقع في الأسر يوم الغبيط؛ أسره عتيبة بن الحارث (ت 604م)، ولم يطلقه إلّا بعد أن فدى نفسه بأربعمائة بعير، وقيل بألف بعير وثلاثين فرسًا وهودج أمّه وحِدْجها.65 وإذا كان بِسْطَام قد نجا في هذا اليوم، فإنّه قد قُتل بعد ذلك سنة 612م في يوم سُمّي بنقا الحسن أو يوم الشقيقة، عندما غزا، ومعه أخوه السّليل بن قيس (ت؟)، بني ضبّة بن أد، فلمّا وجد لأحد رجالها ألف ناقة، أغار عليها، لكنْ لحقته خيل ضبّة، وحمل عليه عاصم بن خليفة؛ فقتله حينها.66تدلّ الشواهد السابقة أنّ ابن المقرَّب قد تلافى أنْ يُتْخِم شعره أو أن يصيّره وثيقة تسجيليّة لعدد من الأخبار والأحداث الغابرة، وقد تأتّى له هذا بأن انتخب من الماضي وقائع بعينها، انمازت بقدرتها على التجدّد وبصلاحيّتها للقياس عليها والإسقاط عن طريقها على الواقع المعيش. وقد زاد من نجاعة حضورها اقترانها بشخصيّات تراثيّة، تمثَّل بها هذا الشاعر، واحتجّ بسلطتها، وشهرتها، وما لها في الوعي الجمعيّ من مكانة، لم ينل منها ما نزل بها من البلاء، احتجّ بهذا كلّه وأفاد منه في بثّ الأمل والطمأنينة في نفسه، وكذا دعم موقفه أمام الآخرين.2.4رابعًا: الاتّصال بالممدوحمع زيادة الأعباء الحياتيّة والضغوط النفسيّة، قد لا تكون حيل ”التحوّل المكانيّ،“ و”تقدير الذات،“ و”التحصّن بالماضي“ كافيةً وحدها لتحقيق المراد وحفظ النفس ووقايتها من الوصول إلى مرحلة الاغتراب النفسيّ التي تتعرّض فيها وحدة الشخصيّة للانشطار والانهيار، وتفقد مقوّمات الإحساس المتكامل بالوجود والديمومة.67 وفي هذه الحالة يتعيّن على الشخص تنويع وسائل إشباع الحاجات والانغماس في الواقع ”بمراعاة ما يريده الآخرون، واتّباع طريقتهم التي تعبّر عنها العادات والتقاليد […] التي ارتضوها لجماعتهم ويريدون للكلّ أن يسير عليها دون مخالفة أو انحراف.“68وهذه المواءمة مع الآخرين تتعدّد أشكالها وطرائقها بحسب طبيعة كلّ شخصيّة ودرجة تفاعلها مع المجتمع، وقد تجسّدت لدى ابن المقرَّب – بوصفها حيلة من حيل التوافق السويّة – في مدائحه التي كثرت في ديوانه.69 ولكنّه – برغم كثرتها – لم يكن يبذلها لفِدام الناس كما ذكر هو،70 كما أنّ مقصده منها لم يكن التكسّب أو التزلّف والمداجاة، وإنّما إشباع حاجاته الضروريّة واستعادة حقوقه المسلوبة، سواء ما توجّه به منها لأقاربه وأبناء عمومته، أو ما صرفها لغيرهم ممّن توسّم فيهم الخير، وظنّهم يستأهلون ودّه ويستحقّون إطراءه. وهو في أثناء هذه المدائح لم يستنكف – وهذا هو بيت القصيد هنا – من إخبار ممدوحه بأنّه – لثقته التامّة فيه من دون غيره – أنزل به حاجته، وعلّق عليه آماله. من ذلك أنّه حين أخذ بعض الناس يزيّن لابن المقرَّب مجافاة قومه ويغريه بمغادرة ديارهم بعد أن ظلموه، نراه يخبر ممدوحه محمّد بن عليّ بن عبد الله العيونيّ بهذا الأمر، ويحكي له كيف أنّه أبدى تمسّكه بأهله، وأرخى لهم طول الرجاء والأمل، وذلك قوله: (من الطويل)71تدلّنا هذه الأبيات وما شاكلها على أنّ ابن المقرَّب لم يستعجل الرحيل عن قومه، وإنّما استفرغ جهده في استعطافهم ورجائهم؛ لكي يسل سخيمة قلوبهم، فيعيدوا الأمور إلى نصابها، ويردّوا حقوقه عليه. وقريب من هذا أيضًا قوله في مدح أحد الأمراء العيونيّين: (من الطويل)72تدلّل الأبيات السابقة على أنّ الشاعر في وقت من الأوقات كان مطمئنًّا إلى أنّ الممدوح أحد أهمّ الوسائل الوقائيّة والناجعة في مثل حالته؛ لذا عوّل عليه في تبديد مخاوفه من الاغتراب ومن اضطراب نفسه وجيشانها، وهو ما صرّح به أيضًا في مدحه الخليفة العبّاسيّ المستنصر بالله أبا جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله (حكم 623–640/1226–1242): (من البسيط)73فأَوْلى ما يحتاجه الشاعر هو الأمان النفسيّ، وهو ما وثق من الظفر به عند هذا الممدوح، وفي القصيدة نفسها يعبّر عن مدى سعادته وانشراح صدره بهذا الممدوح في قوله: (من البسيط)74وهو وإن كان قد ألمَّ في هذا البيت ببيت المتنبّي (ت 354/965) في مدح كافور الإخشيديّ (ت 357/968): (من الطويل)75فإنّه يُحسب له صرفه المعنى فيه لممدوحه هو عن طريق بعض الألفاظ؛ مثل الضمير (أنت) واللقب (الإمام) واستبداله أيضًا صفة (الترقّب) لديه بصفة (التوق) عند المتنبّي. ناهيك بالاختلاف بينهما فيما اختصّ به المتنبّي، من أنّه لم يكن محبًّا لكافور على الحقيقة، وكثير من أبياته المدحيّة فيه يمكن أن تُقرأ على أنّها ذمّ وهجاء في آنٍ فيما عُرف لديه بظاهرة التوجيه.واتّباعًا لسنن الشعراء القدامى، كان ابن المقرَّب يوجب على ممدوحه حقّ الرجاء وذمامة التأميل بأن يصف في تخلّصه من المقدّمة إلى المدح ما ناله من المكاره وما مسَّ راحلته من الأين والكلال،76 وذلك في حوار – ربّما يكون متخيّلًا – مع امرأة، طفقت تحضّه على الصبر، وتحثّه على ترك الحلّ والترحال، فأجابها قائلًا: (من الطويل)77إنّ انتحاء الشاعر في الأبيات السابقة نَهْج القدماء في بناء قصائدهم لم يُفْضِ به إلى التقليد المعيب؛ إذ عبّر فيه عن تجربته الحقيقيّة وما لاقاه من قومه من حنق وعنت، لم يجد منه مخلّصًا إلّا أن يقصد هذا الممدوح الذي تُشَدّ إليه الرحال، وتُتوقّى لديه المحاذير، ويحصل بقربه خير الدنيا والآخرة.يُنزل ابن المقرَّب في شاهد آخر رجاءه بممدوح آخر؛ فلا يخيب ظنّه، ولا يعطيه ما يغنيه فقط، بل ما يفيض به على غيره: (من الكامل)78حاول ابن المقرَّب – من غير أن يبذل ماء وجهه – أن يفتح لنفسه بمدائحه بابًا للأمل، يدرك بوساطته ما فاته عند قومه، وما لاقاه بعد رحيله عنهم.في ختام الحديث عن الميكانزمات أو الوسائل الدفاعيّة الأربع التي استعان بها ابن المقرَّب العيونيّ وتمخّض شعره عنها تجدر الإشارة إلى أمرين: الأوّل أنّ الفصل بين هذه الميكانزمات أو الوسائل إنّما اقتضته طبيعة الدراسة العلميّة والتقسيم المنهجيّ، لكنّ مَن يمعن النظر في ديوان هذا الشاعر يجده يجمع في قصيدة واحدة بين أكثر من حيلة، ولعلّه كان يهدف من وراء ذلك إلى زيادة جرعات الدعم النفسيّ، والتأكيد على تشبّثه بالأمل، وعلى أنّ لديه أكثر من حيلة تمنحه الصمود وتعينه على نوائب الدهر؛ الأمر الثاني أنّ ابن المقرَّب غالبًا ما كان يُتبِع شكواه – على اختلاف أسبابها – بذكر واحد من هذه الميكانزمات أو أكثر، بما يوحي بأنّه كان يحفد إلى استعمالها والإعلان عنها خوفًا من أن يُظَنّ به الضعف وقلّة الحيلة، أو أن يتسلّل إليه هو نفسه الخور، ويستحوذ عليه اليأس.لم تكن حياة الشاعر ابن المقرَّب العيونيّ حياة دعة واستقرار؛ وإنما تبدّلت به الأحوال، وابتُلي بكثير من الأرزاء التي نكأت جراحه، وكان أشدّها إيلامًا له ظلم قومه له وجورهم على حقوقه من غير ذنب منه ولا جريرة. وقد صمد هذا الشاعر للنائبات، ولم تفلّ صبره وعزمه، ولا آده ما أصابه من المفاقر والمحن، وإنّما تشبّث بالأمل، وتجلّد للشامتين والعادين عليه معوِّلًا في هذا على عدد من حيل التوافق ووسائل الدفاع السلميّة؛ أهمّها: التحوّل المكانيّ، وتقدير الذات، واستدعاء الموروث التاريخيّ، والاتّصال بالممدوح. تحوّل ابن المقرَّب عن وطنه مؤثِرًا احتمال الاغتراب والضرب في الأرض على الرضا بالضيم والاستسلام لليأس. ولم يكن نِكْسًا بل معتدًّا بذاته مقدّرًا لها إلى حدّ كبير، وهذا ممّا أكسبه مناعة نفسيّة وأعانه على مقاومة الضعف والانكسار. كما دأب الشاعر على تضميد جراحه ومقاومة القنوط بالتأسّي بمصاب السابقين، وقد حمله هذا على استدعاء بعض الأحداث التاريخيّة والشخصيّات التراثيّة التي أصابها الضرّ مثله، وتعرّضت في بعض مراحل حياتها للظلم، خاصّة من أقاربها. وأدرك أنّ الفرد – مهما أُوتي من قوّة – لا يتسنّى له وحده قضاء حوائجه كلّها وتحقيق آماله جميعها؛ ومن ثمّ لجأ – من دون تملّق – إلى مدح بعض الأشخاص بغية استرداد حقوقه وإعادة الأمور إلى نصابها.
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote
Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
All DeepDyve websites use cookies to improve your online experience. They were placed on your computer when you launched this website. You can change your cookie settings through your browser.