Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
References for this paper are not available at this time. We will be adding them shortly, thank you for your patience.
جيلبير سينويه، أمل، ترجمة صالح الأشمر، 168 صفحة. بيروت: دار الجمل، 2023. 6.8$. غلاف ورقيّ. ISBN 978-9933354893.تشكّل كتابات الروائيّ جيلبير سينويه (Gilbert Sinoué)، الذي وُلد في القاهرة عام 1947 من أصول لبنانيّة وهاجر إلى فرنسا وهو في سنّ التاسعة عشرة، ظاهرةً متميّزة في السرديّات المكتوبة بالفرنسيّة، من حيث قدرة أعماله على تقديم ظواهر وشخصيّات ومدن وقضايا تخرج على رتابة الصورة النمطيّة للشرق العربيّ في الغرب، وتُقدَّم بمنظور العصر ولغته، وتقرأ الماضي والحاضر معًا.يرسم الروائيّ الفرنسيّ جيلبير سينويه في رواية الصقر التي صدرت بالفرنسيّة عن دار غاليمار (Gallimard) عام 12020 مسيرةَ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (1918–2004) في تجلّياتها الإنسانيّة وهو يبني دولة الاتّحاد ويصنع حركة تحوُّلٍ خلّاقة، موظِّفًا سيمياء الصقر بكلّ ما ينطوي عليه من مكانة في الواقع والمتخيَّل العربيّ والعالميّ، بوصفه رمز التسامي والقوّة والدقّة والشجاعة. ثمّ يُبرز في رواية أمل فكرة الأمل وتأثيرها العميق في وجدان الناس وحياتهم. يذهب سينويه في هذه الرواية صوب الماضي البعيد، ويحكي تاريخًا موغلًا في القِدَم لإمارة أبوظبي بواسطة خيال معرفيّ يفيد من معطيات الأنثروبولوجيا والتاريخ والكشوفات الأثريّة. ومن الواضح أنّ الرواية ترى أنّ هذا التاريخ، مع ما عرفه من تحوُّلات وصراعات، محكوم بالأمل وقدرته على صناعة حياةٍ ذات معنى في مواجهة الصعاب والتحدّيات.يفيد القسم الأوّل من الرواية بعناوينه التسعة، في تشكيله ورؤيته وأحداثه، من الأنثروبولوجيا الثقافيّة وما تمنحه من قدرة على الوصف والتفسير والتأويل وبناء نصّ سرديّ يعتمد مرجعيّة وسياقًا خارجيّين. فهو يقوم على موضوع الهجرة الذي يُعَدّ من أكثر الموضوعات حضورًا في الأنثروبولوجيا الثقافيّة، لأنّ الهجرة وعمليّات الانتقال ثريّة على مستوى التشكيل السرديّ لما فيها من مغامرات وأحداث وتحوّلات، ولما تحتويه من منظومة ثقافيّة ورموز وأساطير وحكايات، ولما تنتهي إليه من تغيُّرٍ في البنى التقليديّة جرّاء ذلك التفاعل بين الراحلين والعالم الجديد.سعى سينويه إلى بناء عالمه الروائيّ عن طريق سيرة مجموعة من القبائل والشخصيّات، اخترع أسماءها على نحوٍ يشاكل ما تشير إليه الدراسات الأنثروبولوجيّة في حديثها عن القبائل الإفريقيّة في التاريخ البشريّ الموغل في القِدَم. وبذا، يتحرّك الروائيّ ضمن عالمٍ وضعَتْ ملامحَه وخطوطه العريضة دراساتٌ علميّة وكشوفات، لكنّه يعتمد على متخيَّل سرديّ يبني حكايةً بمجتمعها وشخصيّاتها.تحكي الرواية سيرة قبيلة تسمّيها المحالي، والتي تبدأ سرديّتها منذ لحظة حصولها على النار، وهي لحظة فارقة في التطوّر الحضاريّ البشريّ سمحت بطهي الطعام والحصول على التدفئة والحماية من الحيوانات المفترسة، وتعود إلى العصر الحجريّ القديم الأدنى. تدخل قبيلة المحالي في صراع مع أكلة لحوم البشر بعد أن أخذوا شعلة النار منها، وتكلّفهم محاولةُ استرجاعها ثمنًا باهظًا. ويؤشّر هذا الصراع بين المحالي وأكلة لحوم البشر إلى العلاقة بين التطوّر والتخلّف، ويُظهر سعيَ التخلّف إلى اختطاف ثمار التطوّر. بعدها، تتعلّم المحالي كيفيّة الحفاظ على النار مشتعلةً وتجديد شعلتها.يجيء قرار المحالي بالرحيل نحو الشمال أملًا في الحصول على مياه ”من أكبر الأنهار، أعماقها مفروشة بالنجوم. مكان فيه الغذاء وفير لا يعرف الجفاف.“2 وهنا، تستند الرواية إلى ما يقوله علماء الأنثروبولوجيا بخصوص الهجرات البشريّة الأولى، وكيف غادر الإنسان موطنه الأصليّ في إفريقيا إلى الجزيرة العربيّة بسبب تغيّرات مناخيّة أدّت إلى الجفاف وارتفاع درجات الحرارة. تسرد الرواية في هذا القسم ما واجهته قبيلة المحالي من تحدّيات في رحلتها، فقد دخلت في صراع مع قبيلة الهواري التي رغبت في الحصول على النار أيضًا، ثمّ تحالفت المحالي بعدها مع قبيلة الحاريت.كانت لقبيلة المحالي فرادة في المظهر، فقد ”كانت الجمجمة لديهم أكبر،“3 أمّا على مستوى الذاكرة الجمعيّة فيبدو أنّ ”كلّ معارف أسلافهم مخزونة في أدمغتهم، ويعرفون بالغريزة الشيء الضروريّ لبقائهم على قيد الحياة،“4 وهذا ما منحهم هويّتهم الخاصّة. وكان لهم زعيمٌ يُدعى كلوم استولى على النار وخاض حربًا ضروسًا لاستعادتها. تزوّج كلوم من لارما وأنجب منها ابنه غام الذي تميّز بقوّة العضلات وبقدرة على القتال بالحربة، كما أنجب ابنته إسما التي امتازت بقوّة الشخصيّة.تبادل رجال المحالي والحاريت في أثناء الارتحال خبرات الصيد فانقضّوا معًا على قطيع من الثيران ليُطعموا أفراد القبيلتين. وتعلّم الحاريت من المحالي كيفيّة صيد السمك من دون النزول في الماء، واستعمال المقلاع، وتبادلت النساء طرق طهي اللحوم. وتعلّمت نساء المحالي كيفيّة تجميع الجلود لصنع الملابس، وبناء سقائف بفضل الإبرة العظميّة الحادّة. يفيد السرد من التطوّرات التي عرفها الإنسان، وتتّضح أهمّيّتها في بناء سرديّة روائيّة. وفي تلك الأثناء، لاحظ المحالي أنّ الحاريت يحرصون على بناء لغة تواصلٍ بينهم عن طريق التميّز الخارجيّ فيصبغون وجوههم. وقد دلّ فتيان الحاريت فتيان المحالي على جداريّات كبيرة في الكهوف تضمّ رسومًا لفيلة وثيران وغزلان وأسود ودببة. ولا وجود للضباع فيها لأنّها محتقرة تأكل الجيف. وقد عجز الفتيان عن الإجابة على وظيفة هذه الرسومات، ولا شكّ في أنّ العجز عن الإجابة يشير إلى مرحلة لم يكن المرء فيها قادرًا على فهم الفنّ وتذوّقه.تجتاح الحمّى جسد كلوم الذي يصارع من أجل البقاء، لكنّ الحمى تفتك به فيموت أو يذهب إلى عالم الليل الكبير طبقًا لتصوّر المحالي عن الموت. ويشير هذا التعبير إلى غموض مفهوم الموت عند المحالي وما يطرحه على الوجدان من أسئلة، لهذا بدا الموت مرتبطًا بالظلمة في حين ارتبطت الحياة بالضياء والنار. يتولّى غام رئاسة المحالي بعد وفاة أبيه، ويغدو شديد الشبه به، وصيّادًا محترفًا ومحاربًا لا يُجارى. أمّا شرعيّته في رئاسة القبيلة فقد تجلّت بعد أن صرع نمرةً هاجمت الناس على حين غرّة، فتصدّى لها غام بعد أن فشل آخرون في القضاء عليها، وقتلها بهراوته بعد أن أنشبت أظفارها في فخذه.وفي أثناء الرحيل الطويل تقع حوادث زواج وموت، فيتزوّج برقا من إسما، وتموت زوجتا كلوم وهديب. وبذلك يفنى الجيل الأوّل ويتولّى الجيل الثاني القيادة. ويُكتشف في أثناء الرحيل سلاح جديد هو القوس، أهدتها لهم فتاة أطلقوا عليها لقب السمراء. وقد صنع القوس والسهم تحوّلًا كبيرًا في القتال وفي صدّ الهجمات.بهذا، ينتهي القسم الأوّل من الرواية ليبدأ القسم الثاني، وإذا كان القسم الأوّل موسومًا بالرحيل، فإنّ الثاني موسوم بالاستقرار. تمكّن المحالي من قطع البحر الذي سمّوه الأحمر لأنّه حرمهم من المضيّ قدمًا، وسمّوا باب المندب، لأنّ النساء بكين كثيرًا هناك! بدا قسم الرحيل بمثابة الجزء المؤسّس للرواية، فقد بُني على الحركة والتغيّر، مثلما بُني على الصراع والتوافق. وقد شكّل الاهتمام بحاجات الإنسان المادّيّة نقطة مركزيّة، كما شكّلت القوّة البدنيّة العنصر الحاسم. وقد أشارت الرواية إلى قِصَر عمر الإنسان بالمجمل، وخلت من طقوس الموت. لكنّ أهمّ ما يميّزها أنّها حسمت الخلاف بين من يؤمنون بالثبات لصالح من يؤمنون بالتغيير.وصلت القبيلتان إلى الجزء الشرقيّ من إمارة أبوظبي اليوم، ونزلتا في واحة العين التي كانت مملوءةً بالنباتات ومختلف أنواع الحيوانات. وبقي الرحيل وحكاياته محور الذاكرة الشفويّة للناس في الواحة زمنًا طويلًا، وصار جزءًا من الذاكرة الجمعيّة التي تتناقلها الأجيال كما قال الرجل العجوز لحفيده بدر: ”الذاكرة لا تموت أبدًا. عندما ينقل الأب قصّته إلى ابنه وهكذا دواليك من جيل إلى جيل […] أنت أيضًا ستنقل بدورك كلّ ما رويتُه لك إلى الذين سيخلفونك.“5استقرّ القادمون في واحة العين وبدأوا حياة تعتمد على الزراعة في المقام الأوّل، فشرعوا بصناعة الفؤوس الحديديّة، وزراعة القمح والشعير، وبدأوا بالتفكير في الحصول على مياه إضافيّة لريّ الأراضي بواسطة عمليّة حفر الآبار وشقّ القنوات لجرّ المياه إلى الحقول، فبدأ تشكُّل ما سيُعرف بالأفلاج التي كانت أقدم نُظُم الريّ في العالم. وبقي الماء محور حياة الناس، ولعلّ قارئ التراث الشعريّ العربيّ يلحظ كيف كان الماء نواةً دلاليّة تتناسل في ذلك الشعر لتبني اللحمة الجامعة بين نصوصه، فالماء لحظة مفصليّة تجمع بين الحركة والتحوّلات التي تفضي إلى العبور من الجدب إلى الخصب، ومن العطش إلى الريّ، ومن الموت إلى الحياة، فضلًا عن كونه مترعًا بدلالات رمزيّة وأسطوريّة.أمّا مصدر الحياة الآخر فكان صيد اللؤلؤ الذي بدأت تقاليد العمل فيه بالاستقرار، مثلما ظهرت صعوباته وآثاره على صحّة أولئك الصيّادين الذين يغوصون في أعماق البحر. يقرّر بدر أن يصبح صيّادًا للّؤلؤ مثل جدّه رجد الذي تعلّم مهنة الغوص منذ طفولته، وقد أهدى حفيده بدرًا لؤلؤةً صغيرة ومستديرة وناعمة اسمها عين سمكة. لم يرحّب الأب هانو بذلك وبدا منزعجًا من حكايات أبيه عن تراثهم الذي يغوص عميقًا في الأقاصي البعيدة. ويشير هذا الانزعاج إلى نشوء أجيال جديدة لم تعد تؤثّر فيها تلك الحكايات بقوّة.يبدأ بدر رحلته إلى الساحل من أجل تعلّم الغوص، فيتوجّه صوب رجل يُدعى أديم، وهو يدين لجدّه رجد بالكثير فقد رعاه وعلّمه الغوص، وعامله كما يعامل أبناءه، وأنقذه من موت محقّق يوم هاجمته سمكة قرش وتركت ندبة عظيمة في ساقه. يرحّب أديم ببدر ويطلب منه أن يقيم معه في منزله، لأنّ زوجته توفّيت وابنته ميرا تقيم عند عمّتها. وفي أثناء غياب بدر، تتعرّض الواحة للغزو الذي تكرّر كثيرًا، ويهبّ الجميع للدفاع عنها فيُقتل جدّه وهو يدافع عن أرضه.وبانتقال بدر إلى عالم البحر في منطقة الساحل، يكون قد غادر عالمًا يقوم على الزراعة إلى عالم البحر وما فيه من أسرار وحكايات وتقاليد. لهذا، كان لا بدّ له من خبير يتولّى قيادته وتعريفه بهذا العالم. يشرح أديم لبدر ما يعانيه صيادو اللؤلؤ فيقول:أن تكون صيّاد لؤلؤ، لا يعني أنّك تزاول مهنةً كغيرها من المهن. إنّها حبّ. إنّ دموع الآلهة هي التي تنبض في صدورنا بدلًا من القلب. هذا عمل يدمّر الرجل. كلّ الذين يمارسون الغوص يعانون من آلام في الأذنين إن لم يصبحوا صمًّا […] العديد منهم يصعدون على المدى الطويل والدم يسيل من أنوفهم. أسماك النجّار والأسماك المجنّحة والأسماك القاتلة – لقد رأيت ساقي – كلّها أخطار تتربّص بنا تحت سطح البحر.6وكذلك يشرح أديم لبدر ما يعانيه هؤلاء الصيّادون على المستوى الاقتصاديّ، فهم يعانون العوز، ويخضعون لنفوذ أصحاب المراكب الذين يتحكّمون في صيد اللؤلؤ.تنسج الرواية علاقة حبّ بين بدر وميرا، وتنمو الحكاية سريعًا ويتزوّجان. ويُسهم هذا الزواج في الربط بين أهل الزراعة وأهل البحر على مستوى الحياة الاجتماعيّة، كما يسهم في أمرين مهمّين على المستوى المعرفيّ: فقد عرّفته ميرا على الشيخ نشهل الملقّب بالمجنون الذي حكى له ملحمة جلجامش، وكيف قُتل صاحبه إنكيدو. يدفع هذا الأمر جلجامش إلى التفتيش عن عشبة الخلود، ويعثر بعد معاناة وارتحال وغوص في أعماق البحار على الكرة الصدفيّة الصغيرة وينام قبل أن يبتلعها، فتبتلعها الأفعى التي تضمن الخلود لنفسها جرّاء ذلك. وقد لفت نظر بدر أنّ أهل الساحل يعدّون الثعبان حيوانًا مقدّسًا لقدرته على التجدّد والانسلاخ من جلده.ويطرح توظيف جلجامش في هذا السياق ثنائيّة الموت والخلود، ويشير إلى بلوغ الناس مرحلةً تُطرح فيها أسئلة جديدة عن هذه الثنائيّة. فلم يعد الموت ذهابًا إلى عالم الليل، بل صار يحضر في سياق ملحميّ تعبّر عنه واحدة من أهمّ الملاحم الشعريّة في بلاد ما بين النهرين، والتي كُتبت في العهد السومريّ بين عامي 2750–2350 قبل الميلاد. وتحكي الملحمة عن الملك الذي كان يعيش في أوروك، على ضفّة نهر الفرات الشرقيّة، وعن بحثه الدائم عن سرّ الحياة الذي يحقّق الخلود في مجابهة الموت.وإذا كانت ميرا قد عرّفت بدرًا بأهمّ الملاحم في بلاد ما بين النهرين، لتشير الرواية بذلك إلى المجال الحيويّ الذي كانت تتحرّك فيه هذه الأساطير وإلى عمق تأثيراتها في الوجدان الجمعيّ، فإنّها قادته أيضًا إلى قصر الأمير آسوار. يقتحم بدر وميرا القصر، ويخضعان لاستجواب سريع يبيّن ما يتحلّى به الأمير آسوار من بشاشة ورأفة بالناس. وتقود هذه الزيارة إلى سماعهما حديثًا عن بلاد ما بين النهرين، من جانب اقتصاديّ هذه المرّة. فقد سمعا بعض التجّار يشكون للأمير من الاضطراب السياسيّ في بلاد الرافدين بعد موت حمورابي، ويعلنون عن مخاوفهم من تأثيرات ذلك في البلاد. لكنّ الأمير يبدّد تلك المخاوف ويطمئن بأنّ البلاد لن تتأثّر سلبًا بالتغيّرات هناك.ويبيّن هذا المشهد، الذي يبدو فيه قصر الأمير مفتوحًا لسماع شكاوى الناس ومخاوفهم، وجودَ نظام حكمٍ مستقرّ، له علاقات بمن حوله، ويتتبّع المستجدّات المحلّيّة والإقليميّة وتأثيراتها في حياة الناس. ويرجع بدر بعد سنة مع زوجته ميرا ووالدها إلى الواحة، فيستقبله أهله بالترحاب، خاصّة بعد أن يعرفوا أنّ زوجة ابنهم حامل. وبهذا النسب، يجتمع الصيّادون مع الزرّاع ليقوم لون من الترابط بين الطرفين سيسهم في صناعة طبيعة الحياة وتكاملها في المنطقة.تشير أمل في خاتمة الرواية إلى التعدّديّة، فتتحدّث عن اليهوديّة والمسيحيّة، وتبيّن وجود المسيحيّين في صير بني ياس،7 لكنّ تحوّلًا فكريًّا يقع بظهور الإسلام وإيمان الناس برسالته،8 ويحدث ذلك في أجواء تقبُّل الآخر المختلف والشبيه. كما يتمّ الحديث عن بداية تشكُّل حكايات رمزيّة جديدة لهؤلاء الناس، تغاير الحكايات القديمة التي عرفها أجدادهم في أثناء الرحيل، ومن أبرزها هذه الحكاية:منذ ليالٍ وليال، وقرون وقرون، كان صيّاد يطارد ظبيًا، وكان الحرّ شديدًا كالسعير، والعطش يُضنيه، فراح يبحث عن بئر ماء، فلمّا عثر عليها وجدها جافّة. بعد حين، مرّت قافلة من هناك واكتشفت جثّة الصيّاد ممدّدة قرب جثّة الظبي. كلاهما كان ضحيّة العطش، وتخليدًا لذكراه بُني برج مراقبة. ولمّا لم يكن أحدٌ يعرف اسم الرجل، أُطلق على المكان الذي مات فيه اسم ”أبوظبي“ ومنذ ذلك الحين عُرفت بلادنا بهذا الاسم.9تتعدّد الروايات لهذه الحادثة وتختلف، لكنّها جميعًا تومئ إلى أنّ ذلك الرجل كان يجوب الآفاق، إمّا بقصد الاكتشاف أو الترويح عن الذات الذي يُفضي، في كثير من الأحيان، إلى الاندماج بالطبيعة والتوحّد معها ومع عناصرها المتعدّدة كالماء، والنبات، والطيور، والحيوانات. وقد سُمّيت أبوظبي، نسبةً إلى ذلك الظبي. وتتشاكل هذه التسمية في أبعادها الرمزيّة، مع ”أسطرة“ المكان التي تضفي على الفضاء أجواءً مليئة بالدلالات، فالماء هو المعادل الموضوعيّ للحياة، والظبي رمز للجمال، ومطاردته في الصحراء تشير إلى لون من المعاناة يأخذ شكل المجاهدة، فيكون بلوغ الماء شبيهًا بلحظات الكشف المترعة بالجمال والجلال. ولا تتعارض الحكاية العابقة بهاجس المغامرة مع الأبعاد الاستراتيجيّة التي يجسّدها هذا المكان، والذي صار يوفّر للناس الماء العذب مانحًا إيّاهم فرصة الاستقرار، وتربية المواشي، والزراعة، وصيد الأسماك، والغوص لصيد اللؤلؤ، فضلًا عن ملاذٍ آمن يمكن الدفاع عنه. أمّا القصور والقلاع فقد ارتبطت منذ القديم بتسلُّم مقاليد الحكم، وكانت لها أدوار حيويّة في حماية البلاد، مثلما ظلّت نقاط التقاءٍ تجمع الجوانب السياسيّة، والاجتماعيّة، والدينيّة، والاقتصاديّة.يحمل القسم الأخير من الرواية عنوان ”الأمل“ وفيه تعيين لزمن الرواية بـ 20/7/2022، وهذا يتشاكل مع زمن إطلاق مسبار الأمل الذي اتّجه صوب كوكب المرّيخ، أمّا المكان فهو مركز نيغاشيما في اليابان. كان على مسبار الأمل أن يبلغ وجهته في فبراير 2021، أي في العيد الخمسين لتأسيس دولة الإمارات العربيّة المتّحدة. وبإطلاق هذا المسبار الذي سيُمضي نحو عامين، يستكشف الغلاف الجوّيّ للمرّيخ ويضع خرائط له، تكون الرحلة قد بدأت. لقد بدأت الرحلة عندما سرق أكلة لحوم البشر نار المحالي، فسعوا إلى استعادتها ثمّ قاموا بالرحيل، وقد بقيت هذه التجربة التي تعود إلى زمن موغل في القِدَم في اللاوعي الجمعيّ ملهمةً وباعثة على الاكتشاف.تطوّر مفهوم الأمل في الرواية، فبدا في القسم الأوّل تعبيرًا عن سلوك المرء الذي لا يملك إلّا القليل من المعرفة، وظلّ في أثناء الرحلة وبعد الوصول مرتبطًا بالجانب العاطفيّ. لكنّ مفهوم الأمل بدأ بالتغيّر عند استقرار الجماعة في الواحة، وصارت إمكانيّات الناس قادرة على التخيّل والتنبّؤ، فضلًا عن التخطيط في مجابهة القلق والخوف والغزو. ثمّ تصل الرواية إلى الأمل المرتبط بالعلم وبالإرادة في نهاية المطاف. لقد بدأت الرواية من لحظة زمنيّة موغلة في العمق، وبدا عمل الروائيّ أشبه بمن يرسم الشخصيّات في لوحة تحدّدت معالمها أنثروبولوجيًّا من قبل، ثمّ بدأت الشخصيّات والأحداث تأخذ طابعًا محلّيًّا على صعيد البيئة، والأحداث، والوقائع، والشخصيّات. فقد تحوّل الراحلون، وبدأ تفاعلهم مع ما حولهم يعيد تشكيل شخصيّاتهم وآمالهم. أمّا لحظة إطلاق المسبار، فهي تعبير عن لحظةٍ صار الأمل فيها نتاج الوعي والمعرفة والإرادة، وقديمًا قال أبو الطيّب (ت 354/965):
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote
Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
All DeepDyve websites use cookies to improve your online experience. They were placed on your computer when you launched this website. You can change your cookie settings through your browser.