Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
References for this paper are not available at this time. We will be adding them shortly, thank you for your patience.
جيل بولتي تيلور، الجلطة التي أنارت بصيرتي: تجربة شخصيّة لعالمة في المخّ، 228 صفحة. ترجمة: نجمة إدريس. أوتاوا: مسعى للنشر والتوزيع، 2018. 13.41$. ISBN 978-1-988483-81-8.يعرض هذا الكتاب تجربةً شخصيّةً مُهمّة لعالِمة الأعصاب الأمريكيّة ”جيل تيلور،“ التي أُصيبت بجلطة في الفصّ الأيسر من الدماغ عام 1996م. وهي تُقدّم فيه تجربتها الفريدة عن طريق المزج بين السرد القصصيّ والحقائق العلميّة، فقد فقدت القدرة على الكلام والقراءة والكتابة والحركة، وكانت على حافة الموت، لكنّها لم تفقد الأمل، وهو ما سنلاحظه في معظم فصول الكتاب. فهي ترسل إلى القرّاء رسائل نورانيّة من أعماق التجربة والنَّفْس، بأنّ قوّة الأمل هي قوّةٌ كونيّة تُعيد بناء الإنسان. وتوضح ”تيلور“ في هذه السرديّة العلميّة أنّ البصيرة والمعرفة تنبعان من أعماق الذات الإنسانيّة. وبالنظر في الفصول العشرين من الكتاب، يُمكننا استنباط إطار منهجيّ عامّ نفيد منه في تطوير المنظور الديداكتيكيّ البيداغوجيّ الذي نستطيع الاستعانة به في مجال اللسانيّات التعليميّة، بناءً على أسس عصبيّة رصينة. كما نُفيد من الأسلوب الأدبيّ الرفيع لهذه السرديّة، التي اتّخذَت من فكرة الأمل جَوهرًا إرشاديًّا لقُرّاء هذه القصّة المبهرة. وقد اختُتم الكتاب بملحقين: الأوّل في مقترحات للتشافي عن طريق تقييم الحالة المرضيّة، والثاني في المقترحات الأربعين للمصابين بالجلطة، وهي – في مُجملها – مقترحاتٌ مهمّة جدًّا، خصوصًا ما يتعلّق منها بأهمّيّة توضيح المستوى التالي أو الخطوة التالية. وذلك بهدف معرفة قائمة المهمّات والأعمال، وضرورة عدم إكمال المُرافق أو المُعالِج الجملةَ للمصاب بالجلطة، وكذلك عدم مَلْئه فراغ الكلمات التي تضيع منه، لأنّه يحتاج إلى تمرين دماغه. هذا فضلًا عن أهمّيّة الاستعانة بالبطاقات والملصقات والمعلّقات المشتمِلة على معلومات وملاحظات وتعريفات، لمساعدة المصاب على دوام النظر إليها، ومن ثَمّ تسهيل عمليّة الاسترجاع وتطويع الذاكرة وتمرينها، وإعادة النشاط للمعجم الذهنيّ. وآخر هذه البنود الشديدة الأهمّيّة هو نمذجة الإطار التعليميّ التقويميّ العامّ الذي يخدم الأهداف التربويّة والأكاديميّة. وانتهى الكتاب بأنشودة بارعة بعنوان ”بنك الأدمغة“؛ كتبتها المؤلّفة وغنّتها ضمن حملة التوعية بالتبرّع بأنسجة الدماغ، وهي أنشودة تتوِّج رسالتها التوجيهيّة بأنْ يعمّ الأمل الجميع من دون أيّ استثناء.الميزة المهمّة لهذا الكتاب أنّه ليس كتابًا علميًّا معقَّدًا في الطبّ، بل هو جماعٌ لنمط من السيرة الذاتيّة والمذكّرات والسرد الروائيّ، تتداخل في نسيجها – مثل الغراء – إشارات وإضاءات من العلوم، بل ومن رَحِم أدب تربية الذات بالاستمساك بحبل الأمل في الحياة، وذلك كلّه بأسلوب مُبسّط، تُلمِح بواسطته إلى الرباط الوثيق بين العالم المادّيّ والعالم الروحيّ لجنس الإنسان. ولذلك، فإنّ رحلة ”تيلور“ هي إبحارٌ مدهشٌ إلى عوالم الوعي الغامضة التي تتّصل بعوالم الكون الفسيح من حولنا؛ فعالَم الدماغ والذهن أكبر بصورة لا نستطيع تخيّلها من العالَم المادّيّ الذي نُدركه بواسطة الحواسّ. وبناءً على ذلك، فالمؤلّفة لم تُغفل الجوانب العلميّة الأساسيّة لشُداة الدرس العصبيّ البسيط، فعقدت الفصلين الثاني والثالث في الجوانب التشريحيّة والفسيولوجيّة للدماغ، وشرحت أنواع الجلطات، وبيّنت كيفيّة عمل الخلايا العصبيّة (النيورونات، Neurons)، وهما فصلان تأسيسيّان في حقل اللسانيّات العصبيّة.1 ثمّ تبدأ المؤلّفة بسرد روايتها الماتعة، بدايةً من صباح الإصابة بالجلطة، وتدابير الإنقاذ، واستقرار الحالة، ثمّ مرحلة الإرهاق نتيجةً لكلّ ذلك الضغط، ودخولها العناية الفائقة، ثمّ التمهيد الطبّيّ لإجراء الجراحة، حتّى تنتقل بنا إلى الفصل الرابع عشر (معالم مضيئة على طريق الشفاء) لتوضّح لنا أمرًا مُهمًّا للغاية؛ فتقول:يُعَدّ الشفاء الموضعيّ بعد الجراحة الدماغيّة هو الأدنى أهمّيّة، مقارنةً بمسألة إعادة بناء عقلي، واستعادة وعيي بجسدي. بعد العمليّة الجراحيّة، اعتنت (جيجي) [والدة الكاتبة] بجرحي الموضعيّ، وحرصت على تنظيفه وتضميده […] تمثَّل التحدّي الأكبر الذي واجهتُه في مشكلة مفصل الصدغ المتّصل بالفكّ، الناتج عن العمليّة الجراحيّة، ولكن من خلال اتّباع نظامٍ للتشافي يُسمّى بـ (تقنيّة فيلدنكريز Feldenkrais)2 أمكن له أنْ يبرأ سريعًا.3توضّح الكاتبة هنا أمورًا مهمّة: مسألة أهمّيّة الوعي بالوعي نفسه، واستعادة حالة الفكر، بل وتحسينها، ومسألة الاستعانة بالبرامج المتطوّرة وتقنيّات الاستشفاء التي تساعد في العودة إلى الحالة الطبيعيّة، وهو ما تمثَّل أيضًا في مداومتها على أخذ عقار ديلانتين (Dilantin) الوقائيّ، لمنع حدوث النوبات العصبيّة بالمخّ نتيجةً للتدخّل الجراحيّ (على الرغم من آثاره التشويشيّة على الفِكر)، وقد واظبت عليه لمدّة عامين كاملين بعد الجراحة.4 وفي رحلة المعالم المضيئة، تعطينا الكاتبة إشارات مثل ”الفلاش“ عن التمسّك بالأمل وعدم اليأس مُطلقًا من الشفاء. وتنتقل بنا في الفصل الخامس عشر إلى المسألة المركزيّة للكتاب (الجلطة التي أنارت بصيرتي)، وستأتي تفاصيلها العلميّة بعد قليل. أمّا عندما تصل الرحلة السرديّة إلى الفصل السادس عشر (عقلي الأيمن وعقلي الأيسر)،5 فنجدنا نتوقّف عند العالَم المُعجِز للدماغ البشريّ، المشبَّع بإمكانات هائلة وكينونة متفرّدة؛ إذ توضّح ”تيلور“ – ببراعة وببساطة – وظائف الفصّ الأيسر، وارتباطه بالعالَم الواقعيّ وصرامة الحياة، وتعلُّقَه بالنُّظم المقنّنة، واتّخاذ القرارات، وإصدار الأحكام، والنقد، والجدال، إلى غير ذلك. أمّا الفصّ الأيمن فهو حيث يكمُن الإبداع والفنّ، فهناك تسبح الإنسانيّة في عوالم الخيال اللامحدود، إذ تنسجم الذات مع إيقاع الزمن، ومعاني الخير والأمن؛ إنّه المكان الأمثل للوحدة الإنسانيّة الجامعة الهادفة إلى إشاعة الخير والسلام، إنّه فصّ الأمل والرجاء والتفاؤل. ولذلك كانت الرسالة المعرفيّة للكتاب هي الانتقال من التجربة الذاتيّة الفرديّة إلى الشرح العلميّ والتوعية بالأمراض العصبيّة الأكثر انتشارًا وتأثيرًا على حالة الوعي (إصابات الدماغ والجلطات)، وصولًا إلى الهدف الأعمق والرسالة الكبرى: رحلة الإنسانيّة، والوعي الجمعيّ، وتحقيق بهجة العيش والأمل للجميع، وهو ما كرّسته ”تيلور“ لاحقًا في رحلاتها ومحاضراتها وملتقياتها مع الصحافة والتلفاز واللقاءات الجماهيريّة العامّة. وهنا تعلِّق المترجمة (نجمة إدريس) قائلة:إنّ تعرّض (تيلور) للجلطة في الفصّ الأيسر، وما أدّى إليه من توقّف في تفكيره الصارم الحازم، المتأهّب للأحكام والنقد، المتحفّز للصدام والتصلّب في الرأي، الضاجّ بمشاعر الغيرة والتنافس وخُيلاء الأنا؛ هذه السكتة في ضجيج الفصّ الأيسر، أتاحت الفرصة لفصّها الأيمن ليَشعّ ويزدهر بإنسانيّته وتعاطفه، وتَحلّيه بالأناة والسكينة، وحدبه على البشريّة، وانغماسه فيما وراء مظاهر العالَم الواقعيّ المتسارع الفجّ.6ينبغي أن تقف اللسانيّات التعليميّة وقفةً متأنّية أمام علوم الأعصاب، لتفيد من بلورة الإطار المنهجيّ الجامع الذي يُمكن تقديمه في سياق تطوير أسسِ تعلُّميّة الألسن، والاندماج الثقافيّ، والتلاقح الفكريّ. فاللغة والفكر والثقافة والفنّ عبارةٌ عن وعاء جامع لمسيرة الحضارة الإنسانيّة؛ وهو ما توضّحه ”تيلور“ تحديدًا في الفصلَيْن التاسع عشر (العثور على السلام الداخليّ العميق)، والعشرين (اعتنِ بحديقتك)، فقد أبرزت فيهما فكرة التمسّك بالأمل، والحفاظ على تطوّر الذات.التحليل النقديّ العلميّ لبعض أهمّ قضايا الكتابيرتبط أيّ تقويم لاستراتيجيّة تعليم الألسن بصفة عامّة بفهم مسار التطوّر العصبيّ البيولوجيّ لوظائف الدماغ، وهنا توضّح ”تيلور“:على الرغم من التصميم المعقَّد المبتكَر للإنسان، فإنّنا لا نمثّل الشيفرة الوراثيّة المنتهية أو المكتملة. لقد خُلق عقل الإنسان في حالة من التغيّر المستمرّ والمتواصل؛7 فعقولُ أسلافنا قبل ألفين أو أربعة آلاف سنة ليست متماثلةً مع عقل إنسان العصر الآنيّ. إنّ التطوّر اللغويّ لدى الإنسان أدّى إلى تبدّل البنية التشريحيّة للمخّ ولشبكة الجزيئات الدماغيّة الداعمة.8وقد اتّضح من التشريح العصبيّ للدماغ أنّ قشرة المخّ (Cortex) لدى الإنسان تتفوّق بكَون سماكتها ضعفَ سماكة القشرة عند غيرنا من الثدييّات، وهو ما أعطانا مرونةً قصوى لمزيدٍ من الوظائف المتميّزة، خصوصًا المقدرة على الكلام. والمثير للاهتمام أنّ تقنيات التعليم المستنِد إلى آليّات الدماغ (Brain Based Learning, BBL)،9 ابتداءً من المرحلة التمهيديّة حتّى الثانويّة، قد أفادت، بلا شكّ، من مفاهيم عمل الخلايا العصبيّة وتكوينها، خصوصًا آليّات عمل الجهاز الحوفيّ (Limbic System، المخّ العاطفيّ، المسؤول عن الأمل، والمشاعر، والاستجابة المناسبة لها).10 فبهذه التقنيّات التعليميّة، يُمكن نقل الفصول الدراسيّة إلى بيئات تُشعر بالأمان والألفة، بهدف خلق بيئة ملائمة لا تُستثار فيها مخاوف العقل ومشاعره الحادّة. ولذلك فإنّ إحدى أهمّ الوظائف بالتلافيف الحزاميّة بالجهاز الحوفيّ (أو الطَّرَفيّ) هي تركيز الانتباه في المخّ،11 بما يمثّل إحدى أهمّ مراحل التعلّم المستنِد إلى آليّات المخّ، ويدخل ذلك منهجيًّا ضمن استراتيجيّات تقليل ضبابيّة المخّ (brain fog).إنّ قدرة الإنسان، كما توضّح ”تيلور،“ على إنتاج المعلومات وتأسيس قاعدة بيانات عن العالَم الخارجيّ تبدأ من مستوى الإدراك الحسّيّ؛ فالحواسّ تقوم بوظيفة استكشاف المعلومات عن العالَم، ضمن عمليّة معقَّدة، تنتهي بوصول المعلومات المشفَّرة إلى القشرة الدماغيّة لتُعالَج بالصورة الملائمة، وإلّا انحرف المدرَك عن الحقيقة المتعارَف عليها. ومن أهمّ الحواسّ حاسّة البصر:تُبنى الصورة البصريّة من خلال قدرة المخّ على تجميع باقة من النقط المتناهية في الصِّغَر، ولمّها في إطارٍ محدّد، وتتجمّع الأُطُر المختلفة، باتّجاهات مختلفة، عموديّة وأفقيّة ومنحرفة، في هيئة تكوينات من الصور. ثمّ تنشط مجموعة أخرى من الخلايا في المخّ لتُضيف للصور التي نراها عمقًا ولونًا وحركة. إنّ (الديسلكسيا Dyslexia) – الاضطراب في القدرة على القراءة – تجعل القارئ يرى الحروف بصورة عكسيّة، وهو أكبر مثال على عرَضٍ غير طبيعيّ، يحدث حين تتعرّض الخلايا الحسّيّة في أثناء سريانها المعتاد إلى تغيّر في المعلومات الواردة.12والتوصية هنا أنْ نقوم بتطوير الأطالس المعجميّة المصوَّرة، بناءً على أسس علميّة عصبيّة، خصوصًا للمستوى الأوّل من متعلّمي اللغة، ودمج المرئيّات المناسبة التي تساعد على فهم النصّ والمفردات، إلى غير ذلك.في سياقٍ آخر، تشير ”تيلور“ إلى قضيّة خطيرة جدًّا، وهي أنّ أمراض الأعصاب تتعلّق عادةً بقشرة الدماغ (الطبقة العليا من المخّ)، وأنّ الجلطة تحدث أكثر بأربعة أضعاف في الفصّ الأيسر، ولذلك تتأثّر القدرة على إنتاج اللغة وفهمها،13 إذ المراكز الرئيسة لتشغيل اللغة تقع في الفصّ الأيسر. والحقّ أنّ مثل هذه المعلومات قد يفيد في الفهم العميق، أو حتّى تكوين خلفيّة معرفيّة تحليليّة للمعلّم، ضمن ما يدخل في سياق التحليل الميتامعلوماتيّ (meta-analysis) الذي يمنحه قدرة على الرصد والتطوير، وفهم آليّات عمل أدمغة الطلّاب، فيكون مشارِكًا فعّالًا في جُلّ العمليّة التعليميّة، على مختلف المستويات: السيكولوجيّة، والعصبيّة، والديداكتيّة، وغيرها. إنّ هذه المعلومات تساعد المعلّم على تحسين الأدوات والتقنيّات المستخدَمة في تقديم الموادّ، ومن ثَمّ تحسين مخرَجات التعلّم (Intended Learning Outcomes, ILOs).14[مُخطّط يوضّح ألياف الحزمة المتقوّسة (arcuate fasciculus) التي تربط بين مَنطقتَي بروكا وفيرنكه، في الفصّ الأيسر من القشرة الدماغيّة].[مُخطّط يوضّح ألياف الحزمة المتقوّسة (arcuate fasciculus) التي تربط بين مَنطقتَي بروكا وفيرنكه، في الفصّ الأيسر من القشرة الدماغيّة].وفي الفصل الثالث الخاصّ بالنصفينِ الدماغيّين، توضّح ”تيلور“:[أنّه] من خلال مراكز اللغة في الفصّ الأيسر في دماغنا، يظلّ عقلُنا يتحدّث معنا بصورة دائمة، وهي ظاهرة أسمّيها بـ (ثرثرة العقل)؛ إنّه ذلك الصوت الذي يذكّرك بأنّك تشتري الموز مثلًا في طريق العودة إلى البيت، ويستحثّ ذكاءك في معرفة متى يستوجب عليك غسل ملابسك. وهناك فروقات كبيرة بيننا في عمليّة توليد الكلام الذاتيّ؛ فالبعض منّا تَجري الحواراتُ في رأسه بصورة متسارعة، إلى درجة عدم القدرة على مجاراة سرعتها. والبعض الآخر يفكّر لغويًّا بصورة متباطئة، الأمر الذي يأخذ منه وقتًا أطول للاستيعاب. ولكن يبقى آخرون ممّن لديهم مشكلة في إبقاء التركيز والانتباه لمدّة طويلة تسمح بالاستجابة للأفكار. هذه الفروقات الطبيعيّة في إنتاج الأفكار تعود إلى خلايا المخّ لدينا، وإلى كيفيّة ترابط هذه الخلايا في كلّ مخّ بشريّ.15وفي كلّ ذلك تحديدٌ لذاتيّة الإنسان بما يُشكّل الوعي الداخليّ بكيانه، واسمه، ومكتسباته، وعمله، وغير ذلك. فهذا كلّه يحدث بواسطة اللغة، التي تتفاعل مع الذات ومع العالَم، بكيفيّات عصبيّة بيولوجيّة لا حدود لها. إنّنا في هذا النصّ أمام توجيه بيداغوجيّ عصبيّ أساسيّ يلخّص لنا تفاوت مقدرة المتلقّي على الاستيعاب. فعلى المعلّم أن يكون واعيًا بنسبيّة التحصيل لدى كلّ طالب أو متعلّم للّغة في حلقته الدراسيّة، وإنْ لم يكن لديه هذه الخلفيّة المعرفيّة فستكون النتائج كارثيّة، كما يحدث بصورة ملحوظة ويُسجَّل في كثير من المعاهد غير المعتمَدة، بناءً على أُطُر سليمة من الجودة والتوجيه الأكاديميّ. ولذلك، فأنا أقترح دورةً تدريبيّة توجيهيّة مكثّفة في علم الأعصاب، وفسيولوجيا الكلام، والسيكولوجيا التطوّريّة، لكلّ معلّم يتغيّا تدريس العربيّة، أو غيرها من اللغات، للناطقين بغيرها،16 ليكون ذلك ضمن مؤهّلاته التربويّة للقيام بهذه المهمّة.يوضّح عالِم الأعصاب البريطانيّ الشهير ”أوليفر ساكس“ (Oliver Sacks، 1933–2015) أنّ شعورًا بالفرح والسعادة المفرطة يحدث مع كلّ مريض محظوظ يتعافى من مثل تلك الإصابات (فكرة الأمل وأثره الإيجابيّ)، فكلّ تجربة مع النَّفس (experimentum suitatis) – على حدّ قوله – يحدث فيها تعديلٌ جوهريٌّ للهُويّة، أو للذات، بناءً على أساس عضويّ عصبيّ واضح تمامًا.17 وهو ما تؤكّده ”تيلور“ على مدار فصول الكتاب؛ إذ تُبيّن كيف أنّ ما حدث لها قد أخرجها إلى العالَم بشخصيّة مختلفة تمامًا، فوجدت في أعماق ذاتها ما لم تستطع أن تجده في نمط الحياة الروتينيّة. تقول: ”على الرغم من أنّني قد نسيت المصطلحات العلميّة في الفصّ الأيسر، فإنّني لا أزال أتذكّر شكلها وعلاقة كلٍّ منها بالآخر (الفصّ الأيمن)، وهكذا واصلتُ الكدحَ في دفع قدراتي على التعلّم إلى أقصى حدودها بصورة يوميّة، وعلى مدى فصل دراسيّ كامل.“18 وفي سياق ذلك تقول: ”لقد ساعدتني البطاقات التعليميّة (بطاقات الذاكرة المُدمَجة) على أنْ أغرز أساسيّات الرياضيّات في مخّي مرّة أخرى. أعمل حاليًّا مع مؤسّسة (نينتندو لتدريب العقل)، وبرامج (أكاديميّة العقل الكبير)، وأعتقد أنّ أيّ شخص فوق الأربعين، أو أيّ مريض ناجٍ من الجلطة، يُمكن لهم أن يفيدوا من استعمال هذه الأدوات والوسائل التدريبيّة.“19 تشير الكاتبة إلى أهمّيّة مثل هذه البرامج التدريبيّة، حتّى لمن لم يُصَب بجلطة دماغيّة، ففي ذلك التدريب خطوة استباقيّة، تضمن نوعًا ما تجنُّب حدوث هذه الكارثة. ومن الرائع حديثها عن إدراكها لذاتها، بانتقالها من الشعور بالكينونة السائلة إلى الكينونة الصلبة، كما تقول؛ إذ بدأت تشعر بصلابة التوصيلات العصبيّة بين دماغها وجسدها، وبدأت تشعر أيضًا بأنّها والوجود عبارة عن كينونة واحدة، ممتدّة شاسعة.20 وفي ذلك تقول:إنّني ممتنّة لهذه الجلطة، لأنّني أصبحتُ حرّة أنطلق نحو اكتشاف العالَم مرّة أخرى بفضول يشبه فضول الأطفال […] أمشي على الأرض كأنّني أتجوّل في ساحة بيتي الخلفيّة […] شخصيّة عقلي الأيمن شخصيّة مغامرة، تحتفي بالوفرة الغامرة، وتتأقلم اجتماعيًّا، لديها حسٌّ عالٍ بالتواصل غير المنطوق، تتعاطف بفَهم، وتُحسن فكّ الشيفرات العاطفيّة بصورة صحيحة. عقلي الأيمن مُشرَعٌ على الفيض الأبديّ الدائم، بينما تتوحّد ذاتي مع الكون الشاسع؛ إنّه مُتّكَأٌ لعقلي الماورائيّ، وهو العارف، والحكيم، والمتأمّل، وهو فطرة الحدْس، والوعي الأسمى. عقلي الأيمن حضورٌ دائمٌ، وإبحارٌ لا ينتهي في الزمن.21تعطينا الكاتبة – عن طريق تجربتها، وبأسلوب سرديّ رائع – ومضاتٍ معرفيّةً للأمل، ومعلوماتٍ عصبيّةً مهمّة، أرى أنّه يجب إدراجها في كتيّب إرشاديّ لكلّ معلّم، قبل أنْ يلج ساحة التدريس. ولكنّها لا تُغفل دور المخّ الأيسر، فهو أداةٌ كونيّة ذكيّة؛ ”فالشخصيّة في عقلنا الأيمن تقدِّر الإنسانيّة، بينما تهتمّ شخصيّة العقل الأيسر بالأمور الماليّة والاقتصاد.“22تنتقل ”تيلور“ في الفصل الثامن عشر (الخلايا والأبعاد المتعدّدة في الدائرة العصبيّة) إلى شرح مسألة مهمّة، وهي عودة الاتّزان بين النصفينِ الدماغيّين، تقول:وحيث إنّ مراكز اللغة في الجزء الأيسر من دماغي قد عادت الآن إلى العمل بصورة طبيعيّة، وكذلك عاد (مؤلّف القصص) إلى سيرته الأولى، فقد وجدتُ أنّ ذهني لا يُدير قصصًا مثيرة فقط، ولكنّه ينزع إلى الاشتباك بأنماط سلبيّة من الأفكار أيضًا. وقد وجدتُ أنّ الخطوة الأولى للتخلّص من تلك الأصداء السلبيّة الدائرة في الرأس أو في المشاعر، هي أن أعِيَ ما أنا مشتبكةٌ به من دوائر سلبيّة، وأتعرّفها عن قُرب […] إنّ التفكير بهذه الأساليب بصوتي الداخليّ الحقيقيّ، قد لا يكون كافيًا لتوصيل الرسالة إلى (مؤلّف القصص) في رأسي، الذي أُهّلَ بصورة طبيعيّة ليقوم بهذا العمل. لقد وجدتُ بأنّني حين أربط تلك العبارات بما يُناسبها من مشاعر، ثمّ أفكّر بها بإحساسٍ حقيقيّ، فإنّ (مؤلّف القصص) يُظهر قابليّةً أكثر لهذا اللون من التواصل. وإنْ وجدتُ صعوبة في جعلِ ذهني يصغي إليّ، فإنّني أضيف مكوِّنًا حركيًّا إلى الرسالة؛ كأن أحرّك سبّابتي في الهواء، أو أقف بثبات وأضع يديّ على وَرْكي.23إنّنا هنا إزاءَ خطوات تجريبيّة مُحدّدة للتدريب على التركيز والتحصيل وغير ذلك، توضع ضمن الإطار التعليميّ العامّ لكيفيّة التفاعل الإيجابيّ مع المتلقّي.تشرح ”تيلور“ كيف أنّ الأنماط الفكريّة للإنسان تتأسّس في دوائر عصبيّةٍ غنيّة، ذاتِ أبعاد متعدّدة؛ فكلّ نمط من التفكير له موضوع خاصّ، هو الشيء الذي تفكّرُ فيه وتدركُه. وتضرب الكاتبة مثالًا بالتفكير في كلبتها الصغيرة ”نيا،“ التي تشكّلت معها ألفة ومحبّة على مدى ثماني سنوات؛ تقول:فالتفكير في (نيا) عبارة عن دائرة عصبيّة معيّنة في مخّي. فكلّ نمط من أنماط التفكير يشترك مع الدائرة العاطفيّة المجاورة التي أدركها، أو لا يشترك. ففي حالة (نيا)، فإنّني أستشعر – بصورة عامّة – غبطة غامرة حين أفكّر بها، لأنّها كائنٌ رائعٌ يستجلب المحبّة […] إنّ دوائر التفكير والشعور تلك، قد ترتبط ببعض دوائر تكويناتي الفسيولوجيّة، التي من خلال تعرّضها للمثيرات، ينتج عنها السلوك المتوقّع […] إنّني عندما أفكّر في (نيا) (دائرة فكريّة)، فإنّني أختبر شعورًا بالغبطة (دائرة عاطفيّة)، ودائمًا ما تغمرني بهجةٌ عارمة (دائرة فسيولوجيّة)، فأندمج بسلوكِ من يحبّ الجراء الصغيرة (دائرة متعدّدة الأبعاد). ومباشرة، أراني أشبه طفلة، في صوتي ونظراتي.24وتختم ”تيلور“ رحلتها الممتعة برؤيتها الشاملة عن الوعي؛ فالوعي – كما ترى – في العقل الأيمن، يهيب بنا بأن نقفز القفزة العملاقة التالية من أجل سلامة البشريّة؛ فهو يوجّه خطواتِنا نحو اليُمن والميمنة، حتّى نستطيع أن نطوّر هذا الكوكب، ونحيلَه إلى ذلك المكان العامر بالسلام والمحبّة والأمل.25 إنّها بانوراما مشهديّة تتضمّن رسالة نموذجيّة عن تجربة إنسانيّة فريدة، اتّخذت من اللغة والثقافة والأمل والتواصل موضوعات مركزيّة تتأسّس عليها الشخصيّة الإنسانيّة.
Al-Markaz: Majallat al-Dirāsāt al-ʿArabiyya – Brill
Published: Mar 13, 2023
You can share this free article with as many people as you like with the url below! We hope you enjoy this feature!
Read and print from thousands of top scholarly journals.
Already have an account? Log in
Bookmark this article. You can see your Bookmarks on your DeepDyve Library.
To save an article, log in first, or sign up for a DeepDyve account if you don’t already have one.
Copy and paste the desired citation format or use the link below to download a file formatted for EndNote
Access the full text.
Sign up today, get DeepDyve free for 14 days.
All DeepDyve websites use cookies to improve your online experience. They were placed on your computer when you launched this website. You can change your cookie settings through your browser.